منذ عقود خلت ظلت القوى السياسية في السودان تشهد انقسامات وتصدعات، بسبب القوى الشمولية التي ترهن نفسها للعسكر وتقويض الحكم المدني في البلاد، من أجل مشاركتها في السلطة.

كمبالا/بورتسودان ــ التغيير

ثلاث أعوام مرت على انقلاب 25 أكتوبر 2021، ونحو عامين على حرب 15 أبريل 2023، و لم تبارح الأزمات المتلاحقة السودان، في ظل عجز متمدد للقوى السياسية والمدنية التي لم تنجح في تكوين حركة قوية من أجل السلام وإسكات صوت البندقية، ما يطرح تساؤلات، لماذا اقتصرت أدوار وفعالية القوى المدنية على إصدار البيانات؟ ، ولماذا لم نشهد حَراكاً على الأرض مناهض للحرب من السودانيين في الخارج؟ وأين الحراك الدبلوماسي لاستقطاب دعم العالم للشعب السوداني؟.

حدة الخلافات

بدأت حدة الخلافات بين القوى المدنية في الأسابيع الأخيرة التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر 2021، وأدى ذلك لانقسام قوى الحرية والتغيير إلى جناحين، ضم أحدهما مجموعة كبيرة من الأحزاب والتنظيمات السياسية والمهنية والمدنية التي كانت ضمن التحالف الأصل، فيما شكلت المجموعة الموقعة على اتفاق سلام جوبا عدا حركتي عضوا مجلس السيادة السابقين، الهادي إدريس والطاهر حجر – وتم تشكيل الحرية والتغيير فيما عرف بـ”الكتلة الديمقراطية”.

لكن هذه التحالفات لم تصمد طويلًا وسرعان ما أصابها التشقق والانقسام، وخرج حزب البعث من الحرية و التغيير فيما جمد حزب الأمة في الجهة المُقابلة صنشاطه في التحالف.

حالة انقسام

ويشهد السودان منذ اندلاع حرب 15 أبريل من العام الماضي، تزايد حالات الانقسام والاستقطاب وسط القوى المدنية، التي فشلت حتى الآن في تكوين جبهة مدنية عريضة لإيقاق الحرب التي خلفت أكبر أزمة إنسانية شهدها العالم وفقًا للأمم المتحدة.

ويرى الناطق الرسمي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي، عادل خلف الله، أنه لم تتبلور حتى الآن الجبهة العريضة، من قوى النضال السياسية والاجتماعية والمهنية، لأسباب متعددة، ليست معزولة هى الأخرى من ضراوة الصراع وعنفه وإرهاصات التشكل والمخاض”.
ويقول خلف الله لـ «التغيير» إن المجريات والمعاناة والانتهاكات وحجم الدمار الذي طال كل شيء، قد أكد و على نقيض ما تشتهى سفن قوى الحرب ومموليها، أنه لا بديل للحلول السلمية لقضايا النضال الوطني وعبر الحوار، ولا مسوغات قيمية، وطنية، إنسانية، أخلافية، لاستمرار الحرب.

ويضيف: “على الرغم من الحملة الضارية التي شنتها قوى الردة والفلول ومليشياتها العسكرية ومعها قيادات من الجيش، عبر أطنان من الأكاذيب والمبالغات بطابع فاشي على قوى النضال السياسي الاجتماعي، الحزبية والنقابية والمهنية وتكويناتها، بتجريمها وتحميلها كل أوزار الحرب ومسبباتها، لدرجة إحلالها مكان الطرف الذي تحاربه.
وتابع: “وهو ما يشير لجوهر الصراع وحقيقته، صراعات تحالف قوى الهيمنة والتبعية والتخلف، فى مواجهة قوى التحرر والديمقراطية والتغيير وحراكها السلمي”.

جبهة عريضة

ويمضى عادل خلف الله، “الطابع العنفي في الصراع المتزامن مع موجات من الانتهاكات ومعاداة الحريات العامة، وما أفرزته الحرب، من تصدعات ونزوح وهجرة واسعتين، أسهم كذلك في تأخير بلورة وحدة جبهة عريضة، سياسية واجتماعية، لوقف الحرب وإحلال السلام، بمعادل موضوعي لتحدياتها، كما أظهر محدودية فعالية وتأثير الجهود والمبادرات التي خرجت من دهاليز المؤسسات الإقليمية والدولية.
وزاد: “وعليه يمكن القول إن التأخير، ليس زمن ضائع، وإنما مواقيت الزراعة، المحكومة بسنن التاريخ والجغرافيا واستعدادات المجتمعات وقواها، بقانون (لكل أجل كتاب) الذي يتخطى الرغبات والأماني.
وشدد خلف الله، على أن العامل الفاعل في وقف الحرب وإحلال السلام هو العامل الوطني، الإرادة الوطنية المتجهة لبلورة إرادتها عبر جبهة عريضة واسعة لوقف غير مشروط للحرب”.

إطالة أمد الحرب

و تُتهم بعض الأحزاب السياسية بأنها أدّت دورًا في اطالة أمد الحرب نتيجة لدعمها وتأيدها لأحد طرفي الصراع، الذي خلف أكبر كارثة إنسانية في العالم، حيث تجاوز عدد النازحين و اللاجئين أكثر من 12 مليون نسمة، “حسب” المنظمة الدولية للهجرة”. ويواجه أكثر من 25 مليون شخص اليوم نقصًا شديدًا في الغذاء، كما قُتل أو جُرح آلاف الأشخاص، واعتقل المئات وأسيئت معاملتهم أثناء الاحتجاز.
ويحمل رئيس المجلس القومي لحزب المؤتمر السوداني مستور أحمد، الشموليين بإضعاف العمل المدني بإصطفافهم مع العسكر لوأد عمليات التحول المدني الديمقراطي، وقال مستور في ندوة نظمتها تنسيقية “تقدم”، بمناسبة ثورة أكتوبر، للأسف بعض القوى المدنية تشارك لأسباب خاصة بها لمساعدة الشموليين لقطع الطريق أمام الثورة”.
وأضاف: “هؤلاء طعنوا الثورة من الخلف، وللأسف هذه سِمة أصبحت ملازمة لجميع الثورات في السودان، ما يفتح الباب للحديث عن تصنيف الأحزاب والقوى المدنية التي تساعد العساكر لدفع التحول الديمقراطي”.
واستدرك قائلًا: “مافي عساكر بعملوا انقلاب ما لم يشتغلوا على إضعاف قوى مدنية واستقطاب قوى مدنية محسوبة على المدنيين. “على حد قوله”.
وأوضح أحمد، أن هناك بعض الأشخاص لديهم رغبة في عدم وجود تحول الديمقراطي في السودان، وقال “لهذا نحن رهائن للمشمولين والشمولين رهائن آخرين خارجيين، وهذا يحتاج لعمل كبير لتفادي تكرار نفس الطريقة لمناقشتها”.

تواصل مع المجتمع الدولي

وحول الحراك الذي يمكن أن يلعبه السودانيين بالخارج لإيقاف الحرب، يرى الناطق الرسمي باسم تنسيقية تقدم صعوبة توحيد الجهود في الوقت الحالي.

و قال الجاك في تصريح مقتضب لـ «التغيير» إن القوى المدنية تتحرك وفق ما هو متاح لها من أدوات وهي قوى لا تحمل السلاح.
من جهته، كشف رئيس الجبهة الثورية نائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” الهادي إدريس، عن البدء في خطوات بإتجاه نزع الشرعية عن الحكومة القائمة في بورتسودان.
وقال إدريس في تصريح سابق لـ «التغيير» أفاد فيه أن تنسيقية “تقدم” تخطط لمواصلة دعوة المجتمع الدولي لممارسة ضغوط على الجيش وقوات الدعم السريع للعودة لمنبر جدة، إضافة لعقد مائدة مستديرة مع أطراف السودان الأخرى لنزع الشرعية عن حكومة بورتسودان”.
وتابع : “تنسيقية تقدم لديها شرعية الثورة السلمية و هي مؤهلة للحديث باسم الشعب السوداني ونزع الشرعية عن الحركة الإسلامية في بورتسودان لمنع تقسيم السودان”.

أرضية هشه

وبدوره يرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية عبد الرحمن أبو خريس، إن التحالفات التي تنشأ في السودان لا تقوم على “أرضية صلبة” بسبب اختراقها من قبل الأجهزة النظامية التي حكمت أكثر من 50 عاما منذ استقلال البلاد.
ويقول أبو خريس لـ «التغيير» إن حالة السيولة السياسية والأمنية الحالية أدت إلى وجود أحزاب مصنوعة الغرض منها ايقاف أي تقارب بين القوى المدنية لصالح العسكر لذا أغلب التحالفات تكون هشه وقابلة للتفكك في أي لحظة”.

ويضيف “أغلب التحالفات السياسية الموجودة الآن تنقصها الإرادة الوطنية وتنظر لمصالحها لذلك سريعًا ما تنهار وتصطف إلى جانب من يمتلك القوة والسلطة وتتماها”.
ويشير عبد الرحمن إلى أن التحالفات السياسية والمدنية الموجودة تعاني من الضعف وعدم القبول الواسع، بجانب أن قطاع واسع من الشعب السوداني فقد الثقة في الأحزاب السياسية وينظر إليها بأنها أدّت دوراً في ما آلت إليه الأوضاع في البلاد”.

الوسومإيقاف الحرب الأحزاب الاستقطاب الانقسامات القوى المدنية

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: إيقاف الحرب الأحزاب الاستقطاب الانقسامات القوى المدنية

إقرأ أيضاً:

لماذا لا تستطيع إسرائيل أن تنتصر في غزة؟

عندما بدأت إسرائيل حربها على غزة في أكتوبر 2023، لم يكن الهدف المعلن أقل من «القضاء التام على حماس». بدا ذلك، لحظة انفعالية، وكأنه مهمة ممكنة. فإسرائيل دولة ذات تفوق عسكري لا يُضاهى في المنطقة، وتتمتع بدعم غربي سياسي وتسليحي ضخم، بينما تقاتل حركة محاصَرة، محدودة الموارد، ومعزولة جغرافيا. لكن أكثر من 20 شهرا من القصف والدمار والإبادة الجماعية لكل ما يدب على الأرض، لا يبدو النصر، وفقا للتوجيه السياسي المعلن والصادر للمؤسسة العسكرية، في الأفق، بل إن إسرائيل نفسها باتت أبعد من أي وقت مضى عن تحقيق أهدافها في الحرب.

ما الذي يحدث إذن؟ ولماذا لم تعد القوة العسكرية كافية لتحقيق الانتصار؟ ولماذا تصبح كل حرب تشنها إسرائيل على غزة أطول، وأكثر دموية، وأقل فاعلية؟

في عمق العقيدة العسكرية الإسرائيلية ـ كما هو الحال في كثير من العقائد العسكرية الغربية ـ ترسّخت فكرة الحرب الخاطفة، التي تحقّق النصر السريع من خلال الضربة الأولى الساحقة، وقد نجحت هذه العقيدة في حرب 1967، لكنها فشلت مرارا منذ ذلك الحين، خصوصا في مواجهة الخصوم غير النظاميين الذين يتقنون حرب المدن والأنفاق، ويجيدون تحويل نقاط ضعفهم إلى أدوات استنزاف طويلة الأمد.

تشبه الحالة الإسرائيلية في غزة ما يسميه بعض الاستراتيجيين «مغالطة الحرب القصيرة»؛ حيث يُفترض أن صدمة القوة ستدفع الخصم إلى الانهيار، لكن الواقع يُثبت أن الخصم ـ عندما يكون متجذرا شعبيا، وعقائديا، ومتحركا جغرافيا ـ لا يُهزم بهذه الطريقة، بل على العكس، كلما طال أمد الحرب، زادت فاعليته، واهتزت صورة القوة المتفوقة أمام جمهورها.

تُظهر تجربة إسرائيل في غزة أن التفوق العسكري وحده لا يكفي؛ فإسرائيل دمرت معظم البنية الأساسية في القطاع، وقتلت عشرات الآلاف، وهجّرت الملايين في غزة لأكثر من مرة، لكنها لم تستطع إقناعهم بالتخلي عن المقاومة، ولم تستطع فرض سيناريو «ما بعد حماس» رغم أنه كان شغل العالم الشاغل أكثر من شغلهم بإنهاء الحرب ووقف الإبادة. وفي غياب هذا السيناريو، تبدو الحرب بلا غاية واضحة سوى التدمير، وهذا ما يحدث الآن، فلا هدف واضح لجيش الاحتلال إلا التدمير والاستمتاع بالقتل والتجويع.. لكن هذا الأمر رغم فظاعته إلا أنه بات يفقد إسرائيل زخمها السياسي ويقوّض مشروعيتها الأخلاقية التي كانت توهم العالم بها.

وبينما تبحث إسرائيل عن «نصر كامل»، تواصل حماس الظهور والاختفاء، القتال والتكتيك، مقاومة القصف وممارسة الإعلام. لم تعد المعادلة تقتصر على مَن يملك الطائرات والدبابات، بل مَن يملك القدرة على الصمود، وعلى إدارة زمن طويل من القتال غير المتكافئ.. ومن يستطيع أن يقنع العالم بسرديته، ويبدو أن غزة تحقق تقدما عميقا في هذا الجانب رغم أنه بطيء جدا بسبب عملها منفردة في ظل غياب المشروع العربي الموحد في هذا الجانب.

وإذا كانت حرب إسرائيل الظالمة تفشل فإن السبب لا يعود كما يعتقد البعض إلى ضعفها العسكري ولكن إلى حجم التناقض بين الوسائل والغايات؛ فبينما تُستخدم القوة التدميرية بأقصى درجاتها، يبقى الهدف السياسي ـ القضاء على حماس ـ أو بمعنى آخر القضاء على المقاومة هدفا مجردا وغير واقعي بالنظر إلى عقيدة المقاوم الفلسطيني الذي ما زال متمسكا بحقه في أرضه وبأن مشروعه الأول هو تحرير أرضه من المحتل الإسرائيلي.

وأثبتت التجربة أن قتل القادة وتدمير المباني لا يعني نهاية المقاومة، بل إن رفض المحتل الإسرائيلي لأي شكل من أشكال الحل السياسي وإمعانه في التدمير والإبادة يحفز المقاومة ويوسع قاعدتها الشعبية وحاضنتها الاجتماعية وتغلغلها في العقيدة الفلسطينية. وما حدث في غزة خلال العامين الماضيين من شأنه أن يعمق الحقد ويحفز مشاريع الانتقام حتى عند أولئك الذين آمنوا في لحظة من اللحظات بفكرة «السلام» مع إسرائيل.

ومن الواضح أن الحروب بين الاحتلال والمقاومة في العقدين الماضيين لا تنتهي إلى نتيجة واضحة، إنها أقرب إلى «صراعات بلا نهاية»، لا اتفاقات سلام واضحة ولا بيانات استسلام، بل جولة تضع بذورا لجولة أخرى، وكل هدوء هش يفضي إلى انفجار عنيف جدا وهو ما يجعل من الصعب قياس النصر والهزيمة.

رغم ذلك فإن «حماس» في نظر الفلسطينيين والكثير من العرب تنتصر بمجرد بقائها على قيد الحياة، واستمرارها في المقاومة أو نجاحها في تنفيذ عملية نوعية مهما كانت نتائجها، وهذا يعكس الفارق بين من يُقاتل من أجل بقاء دولة، ومن يُقاتل من أجل بقاء القضية.

ربما كان الدرس الأهم من هذه الحرب ـ والحروب التي سبقتهاـ هو أن الاستراتيجية العسكرية يجب أن تكون امتدادا لرؤية سياسية واضحة، وليس بديلا عنها، وحين تنفصل عن السياسة، تتحول إلى عبث.

تستطيع إسرائيل أن تُلحق أذى هائلا بغزة كما تفعل الآن، لكنها لا تستطيع فرض السلام من طرف واحد، ولا بناء واقع دائم بالقوة فقط.

لكن ما يعيق إسرائيل عن تحقيق النصر في غزة ليس فقط قدرة حماس على القتال، بل غياب الاعتراف الإسرائيلي بأن هذا النوع من الحروب لم يعد يُنتصر فيه بالطريقة التقليدية، وقد آن الأوان أن تعترف بأن قوة السلاح وحدها لا تكفي، وأن غزة ومن فيها واقع لا يمكن أن تمحي وجوده أبدا وإن لم تبدأ بقراءة هذا الواقع بعيون سياسية لا عسكرية، فستظل تدور في حلقة حرب لا تنتهي، وتتحول حربها الظالمة بالضرورة إلى مجرد إبادة إنسانية.

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان

مقالات مشابهة

  • المغرب يدين تعنت الجزائر التي ترهن العملية السياسية على حساب الاستقرار الإقليمي
  • الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال (الجبهة الثورية) تدين الاعتداء على الحدود السودانية
  • خارجية “الوحدة الوطنية” تنفي صلة أي قوة ليبية رسمية بهجمات على الحدود السودانية
  • لصد العدوان.. قرار عاجل من القوات المسلحة السودانية بشأن المثلث الفاصل
  • التجمع يطالب بإجراء الانتخابات بقائمة وطنية..ويدعو أحزاب المدنية للانضمام لها
  • أزمة تجنيد الحريديم تعصف بالحياة السياسية في إسرائيل.. هل تسقط حكومة نتنياهو؟
  • الخارجية السودانية: مشاركة كتيبة السلفية الليبية التابعة لخليفة حفتر اعتداء سافر على سيادة السودان
  • المبعوث الأممي يعترف بفشل مهمته في اليمن ويتهم القوى اليمنية بأنها تستمع لقوى خارجية تسببت في إفشال عملية السلام
  • تحذير إسرائيلي من عواقب استمرار ارتكاب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين
  • لماذا لا تستطيع إسرائيل أن تنتصر في غزة؟