موسى عمر.. مقاومة الصمت بالألوان
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
بعض التجارب الإبداعية، تشبه الثمار، عندما تنضج يقترب موعد قطافها، والغياب المفاجئ للفنان الراحل موسى عمر، يشبه قطف ثمرة نضجت بعد طول انتظار وصبر، فقد ظلّ يرسم، ويجرّب، ولم يقف عند حدّ معين، بحسّ من يسابق الزمن، من أجل أن يصل مرحلة الاكتمال، والنضج، وحين بلغ ذلك، فجأة حان موسم القطاف.
والغريب أن تجارب موسى عمر الفنية الأخيرة احتوت تجاربه السابقة، وهضمتها، واصطبغت بصبغة أكثر حداثية، فقد قام بتبسيط عناصره الفنية وأخذت تلك العناصر بعدا جماليا اختزل تجاربه مع الألوان والرموز والتكوينات والإشارات، ويؤكّد الناقد والفنان عبد الكريم الميمني أن تلك العناصر قام بمزجها "في كلّ متناغم عبر الألوان والرموز والأشكال وهذا ما دلت عليه أعماله التي قدّمها في مركز عمان للمؤتمرات قبل شهور".
كان لقائي الأول به في أحد مطاعم مسقط -أواخر التسعينيات- وكان برفقة الفنّانين نوري الراوي في زيارته الأخيرة لمسقط، وحسين عبيد، وجلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث، وكان الفنان موسى يصغي إلى ما يدور من أحاديث في الفن التشكيلي والحياة، يلفّه بصمت عميق، وكلّما نحاول استنطاقه يكتفي ببضع جمل، ووسط هذا الصمت، كان يحرّك يديه ليرسم في الهواء هلالا، أو شمسا، أو كفّا، ومن الواضح أنه حين أراد كسر جدار الصمت لم يجد وسيلة غير الرسم، فمضى يرسم على الجدران، والدروب، والأوراق، فالفرشاة هي الوحيدة القادرة على ذلك، وقد تحدّث عن هذا في كتابه "مدني الملوّنة" قائلا: "لطالما سعيت في أعمالي إلى مقاومة الصمت المطبق بكل ثقله وخفته على روح الإنسان، ذلك المختبئ دوما خلف الجدران وأمامها. أنكش ذلك الصمت وأبعثر مفرداته وأشياءه على بياض اللوحات وبهائها، فتتدفّق سيولي في كلّ أروقة العمل الفني، فتحطّم تلك الجدران أو تعيد بناءها، فيمتلئ حيز اللوحة بروائح المدن والقرى، بليلها وبنهارها، بشموسها وأقمارها، ببصمات أناسها ونقوشهم على جدرانها، وبذلك القدر الذي يمضي بالإنسان قدما، إما نحو لب الأرض أو باتجاه عنان السماء، الفن وجه الحياة الأوحد"
ومن خلال معرفتي به لاحظته أنه غير مهتم بالتنظير للوحاته، ولا يتحدّث عنها، بل يتركها تتكلّم نيابة عنه، فهو يرسم فحسب، وهو بهذا أقرب ما يكون لفنان فطري. وفي جولاتنا في مسقط القديمة ومطرح كثيرا ما كان يقف عند الجدران، والكتابات التي تغطّيها، وحين سألته عنها ذات يوم أجابني مستلا مقطعا من كتابه: "تدهشني كثيرا بصمات الإنسان على الجدران أرى أنها انعكاس وتسجيل لما تختزنه الذاكرة من مشاعر وأحداث وهموم، أليست البصمات أبرز ما يميزنا عن بعض نحن بني البشر؟ تجذبني أيضا الكتابات والرموز المنقوشة على الجدران وكذلك النقوش التقليدية على الأبنية القديمة وعلى الأزياء والأدوات القديمة لهذه العناصر تملأ سماوات لوحاتي".
تضجّ أعمال موسى عمر بألوان الحياة، وتحتشد بالكثير من التفاصيل، التي تحيل إلى الطفولة، والحكايات الشعبية، ورموز يلتقطها من الحارات القديمة، فيحمّلها دلالات متعددة، ففي لوحاته تجد الهلال حاضرا، وكذلك الأفعى، والقمر، والعين، وهو في كل أعماله ظلّ مخلصا لبيئته العمانية، ويجدها المتابع موظّفة في أعماله توظيفا دقيقا، بعفوية طفل، متمثّلا بمقولة بيكاسو "طموح كل رسام هو الاحتفاظ بالعفوية التي تعرفها أصابع الطفل عند الرسم"، لقد احتفظ موسى عمر بعفويته، لذا فأعماله متخمة بالتفاصيل وهو يشتغل على أعماله بصبر، فمعرضه "قميص الأحلام" الذي أقامه بمتحف بيت الزبير في مارس 2012م واستلهم به قصة النبي يوسف (عليه السلام) استغرق إعداده ثلاث سنوات، قبل ذلك شغلته المدينة، لكن مدينة موسى عمر ليست حيّزا مكانيا، ومعماريا وفضاء محدّدا، بل هي حيّز مفتوح يسكن مخيلته، خرجت على هيئة جدران، وبيوت، وحارات، وأزقّة ضيّقة، تقول الناقدة اليمنية د.آمنة النصيري: إن موسى عمر "يحيل صورة المكان الحسّية إلى أمكنة مجازية متخيلة، لذا تبدو تلك المدن أشبه بإعلان لميلادات متوالية جمالية للحيز تحلق به في مدارات لا يقننها الواقع".
واليوم، حين أجيل طرفي في صالون سكني، بين لوحات مهداة لي من فنانين كبار، أرى خزفيّة من خزفيات موسى عمر تتوسّط تلك الأعمال، عنوانها "المحبة"، وهو العنوان الأبرز للفنان موسى عمر، الإنسان المحبّ الذي امتدّت يد الموت لتقطف ثمرة تجربة في قمّة نضجها واكتمالها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: موسى عمر
إقرأ أيضاً:
إيمان بطمة تطلق أغنية فلسطين حرة.. صوت مغربي يتحدى الصمت
في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، أطلقت الفنانة المغربية الصاعدة إيمان بطمة أغنيتها الجديدة "فلسطين حرة"، معبرة عن تضامنها العميق مع الشعب الفلسطيني. من خلال هذا العمل، توظف بطمة صوتها الفني لنقل رسالة إنسانية قوية، مؤكدة أن الفن يمكن أن يكون وسيلة فعالة للدفاع عن القضايا العادلة.
صوت فني من عائلة عريقة
إيمان بطمة، المولودة في الدار البيضاء عام 1999، تنتمي إلى عائلة فنية بارزة في المغرب. هي ابنة الفنان حميد بطمة، أحد أعمدة فرقة "ناس الغيوان"، وشقيقة الفنانة دنيا بطمة. بدأت إيمان مسيرتها الفنية عام 2017، وحققت شهرة واسعة من خلال أغانيها التي تمزج بين الأصالة والحداثة، مثل "سالو دموعي" و"قلبي أنا" .
أغنية "فلسطين حرة".. رسالة تضامن من المغرب إلى فلسطين
أعلنت إيمان بطمة عن إصدار أغنيتها "فلسطين حرة" عبر حسابها الرسمي على إنستغرام، حيث نشرت الملصق الرسمي للعمل، الذي ظهرت فيه مرتدية الكوفية الفلسطينية، رمز النضال والمقاومة . لاقى هذا الإعلان تفاعلاً كبيراً من جمهورها، الذين أعربوا عن إعجابهم بالمبادرة الفنية وموقفها الإنساني.
كلمات الأغنية:
يا فلسطين يا أرض العزة والكرامة
صوتك في قلبي، ونبضك في دمي
لن ننساكِ، سنبقى أوفياء
حتى تعودي حرة، شامخة بين الأمم
تفاعل الجمهور المغربي مع القضية الفلسطينية
تأتي أغنية "فلسطين حرة" في سياق دعم واسع من الشعب المغربي للقضية الفلسطينية، حيث شهدت البلاد مظاهرات ومسيرات تضامنية مع غزة، تعبيراً عن رفضهم للعدوان الإسرائيلي ومطالبتهم بوقف فوري للانتهاكات. ويُعتبر الفن أحد الوسائل التي يعبر بها المغاربة عن تضامنهم، كما يظهر في أعمال فنية متعددة تناولت القضية الفلسطينية.
من خلال أغنية "فلسطين حرة"، تؤكد إيمان بطمة أن الفن يمكن أن يكون أداة فعالة للتعبير عن التضامن والدفاع عن القضايا العادلة. هذا العمل يعكس التزامها الإنساني والفني، ويُظهر كيف يمكن للفنانين أن يسهموا في رفع الوعي وتسليط الضوء على معاناة الشعوب.
ناس الغيوان، فلسطين، والفن الملتزم.. حين يتحوّل الإبداع إلى مقاومة
يُعدّ ناس الغيوان من أبرز المجموعات الموسيقية التي ظهرت في المغرب خلال سبعينيات القرن العشرين، وقد حملت أعمالهم هموم الشعب المغربي والعربي، وجعلت من القضية الفلسطينية مكوّناً مركزياً في خطابها الفني. تأسست المجموعة في حي المحمدي بالدار البيضاء، على يد فنانين شعبويين متأثرين بالثقافة الصوفية، والمسرح السياسي، والواقع الاجتماعي القاسي، وكان فنهم تعبيراً صارخاً عن المظلومية، وعن آمال الشعوب في التحرّر والكرامة.
فلسطين في وجدان ناس الغيوان
منذ بداياتهم، لم تكن فلسطين بالنسبة لناس الغيوان مجرد قضية سياسية، بل كانت رمزاً للحقّ المغتصب والكرامة الجريحة. جاءت أغانيهم لتترجم الغضب العربي من الاحتلال، مثل أغنيتي "مهمومة" و**"غير خذوني"**، حيث تتكرر الإشارة إلى الظلم والاستعمار، وتشحن الكلمات بشحنة وجدانية عالية تدعو للتضامن والثورة على الطغيان.
الفن الملتزم كأداة مقاومة
أصبح الفن الملتزم في المغرب، بفضل رواد كـ"ناس الغيوان"، و"جيل جيلالة"، و"لمشاهب"، مرآةً للواقع ومنبراً للمهمّشين. وفي سياق فلسطين، لم يكن هذا الفن حيادياً، بل اصطفّ بشكل واضح مع المقاومة، واعتبر أن دعم القضية ليس خياراً، بل واجباً وجدانياً وثقافياً.
لذلك، فحين تُطلق فنانة شابة مثل إيمان بطمة اليوم أغنية مثل "فلسطين حرة"، فهي لا تكتفي بإعلان تضامن، بل تضع نفسها ضمن سلسلة طويلة من الفن المقاوم، وتؤكد أن صوت المغرب، شعباً وثقافةً، لا يزال يهتف للقدس، ويُدين الاحتلال، ويؤمن أن الفن أيضاً شكل من أشكال النضال.