في زمن الإعلام المتسارع، لم يعد العمل الصحفي المحترف كافيا ما لم يُحدث أثرا وتفاعلا واسعا لدى الجمهور. فدرجة تفاعل المتلقين باتت اليوم المعيار الأهم لقياس جودة المادة الصحفية، خصوصا في الولايات المتحدة والمجتمعات الغربية، مقارنة بالعالم العربي.
فور نشر تقرير أو مقالة أو حتى مقطع فيديو على منصات الإعلام الأمريكي، تنهال التفاعلات من تعليقات وإعجابات ورفض، بأعداد مذهلة تطرح تساؤلا مهما: لماذا تحظى هذه المواد بكل هذا الزخم على المنصات الغربية، بينما قد تمر مرور الكرام إذا نُشرت في منصات عربية؟ لهذا التباين أسباب عدة يمكن تلخيصها كالتالي:
أولا: ثقافة الفردانية (Individualism)
المجتمعات الغربية، وعلى رأسها المجتمع الأمريكي، تقوم على مبدأ الفردانية، حيث تُمنح الأولوية لحرية الفرد، واعتماده على ذاته، وتعبيره عن رأيه بشكل مستقل عن أي ضغط مجتمعي أو ثقافي.
لذلك نرى في الحملات الانتخابية الأمريكية صراعا شرسا بين المرشحين يمتد لأشهر، بهدف كسب أصوات الناخبين ذوي الرأي المستقل. تنفق مئات الملايين في الولايات المتأرجحة، التي لا يمكن التنبؤ باتجاهات ناخبيها، لأنها وحدها القادرة على ترجيح كفة الفوز.
ثانيا: التدريب على التفكير النقدي
منذ المراحل الدراسية الأولى، يتعلم الطالب الأمريكي مهارات التفكير النقدي، ويُشجَّع على تكوين رأيه الخاص في مختلف القضايا. النظام التعليمي يعلّمه أن صوته مهم، وأن رأيه له وزن وتأثير، بصرف النظر عن موقف الآخرين.
ينشأ الفرد الأمريكي في بيئة تعليمية واجتماعية تدفع برأيه إلى الواجهة، ليصبح من الطبيعي لديه أن يشارك علنا في النقاشات العامة والمحتوى الإعلامي، دون تردد أو خوف من العواقب.
ثالثا: قوة النظام القضائي
الفرد الأمريكي لا يخشى التعبير عن رأيه لأنه يعرف أنه محمي قانونيا، يُدلي برأيه دون أن يخطر بباله أنه قد يُعاقب لاحقا. فحرية التعبير مصانة بالتعديل الأول للدستور الأمريكي (1791)، الذي ينص بوضوح على: "لا يجوز للكونغرس إصدار أي قانون.. يحد من حرية التعبير أو الصحافة".
هذا النص هو حجر الأساس لحماية حرية التعبير في الولايات المتحدة. فالأمريكي يعلم أن السلطات لن تتهاون مع أي جهة -محلية كانت أو خارجية- تحاول ترهيبه أو مهاجمته لمجرد إبداء رأيه، وإذا حدث ذلك، فله الحق في اللجوء إلى القضاء المدني لمحاسبة المعتدين.
إلى جانب ذلك، تعمل منظمات مدنية قوية مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) وآلاف المؤسسات المشابهة في كل ولاية، لتوفير الدعم القانوني المجاني لكل من تُنتهك حريته في التعبير. هذا التكامل بين النظام القضائي والمجتمع المدني يمنح الناس ثقة كبيرة في الجهر بآرائهم.
رأي الناس لا يقل أهمية عن الصحافة نفسها
في أمريكا، الناس هم وقود القرار السياسي، وهم في صلب العمل الإعلامي. لهذا جرى بناء منظومة متكاملة تحترم حرية الرأي، في الإعلام، وفي الشارع، وفي المدرسة، وحتى في المحاكم؛ كل رأي يُقدَّر وحتى إن لم يُوخذ به.
في النهاية، ما يُميز المجتمع الأمريكي هو أن كل صوت له مكان، وكل رأي له تأثير محتمل. لذا، يا أمريكي.. نعم، رأيك مهم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الأمريكي التعبير حرية الصحافة حرية أمريكي صحافة صمت تعبير قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات اقتصاد مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
«الصمت الإبداعي».. توقف مؤقت أم غياب للحافز؟
هزاع أبوالريش (أبوظبي)
يواجه المبدع في بعض الأحيان حالات من التوقف عن الكتابة، وقد تستمر هذه الحالة لدى بعضهم شهوراً وقد تمتد لسنوات، وهي ما يطلق عليه «الحبسة الإبداعية»، أو الصمت الإبداعي، أو فقدان الإلهام، أو الجفاف الإبداعي، وغيرها من التسميات التي تشير إلى غياب الحافز الإبداعي أو ربما انعدام الرغبة أو عدم القدرة على كتابة عمل جديد، وتتعدد الأسباب من كاتب لآخر، وعلى سبيل ذلك هناك مجموعة من الأدباء الذين توقفوا عن الكتابة لسنوات، مثل: جون فاولز الذي توقف عن الكتابة لمدة 10 سنوات بعد نشر روايته الأولى، وستيفن كينج حيث تعرض لحادث سيارة وتوقف عن الكتابة لفترة، وهاربر لي، توقفت عن الكتابة لمدة 50 عاماً بعد نشر روايتها الأولى، وغيرهم الكثير من الذين دخلوا هذا الصراع، لكن السؤال هو هل التوّقف عن الكتابة فرصة للاستفادة من الوقت والتركيز على استعادة الإلهام والعثور على الحافز الإبداعي؟.
بدايةً يقول الدكتور شافع النيادي، كاتب وعضو مجلس إدارة جمعية الإمارات لرعاية الموهوبين: «التوقف الإبداعي هو حالة أو تجربة يمر بها الكثير من المبدعين وهذا أمر طبيعي مهما بلغوا من خبرة ونضج، سواء كانوا كتاباً أو فنانين أو متحدثين، أو أي شيء آخر متصلاً بالإبداع، هي حالة طبيعية، والبعض يقول إنها تبدو حالة لمؤشر صحي يدل على حاجة العقل والروح إلى التوقف والمراجعة وإعادة الشحن، ولكن المشكلة لا تكمن في التوّقف في حد ذاته، وإنما في كيفية قدرة المبدع على التعامل مع هذا التوّقف الإبداعي؟».
ويتابع النيادي: «حين يصل المبدع إلى مرحلة الاكتفاء والتوّقف يجب أن يدرك أن هذه المسألة حالة طبيعية تمر على أي مبدع، وعليه أن يعترف بالمشكلة ويتغلب عليها من خلال مواجهته لما يعرقل مسيرة إبداعه، سواء أكان ذلك من ناحية نفسية أم مادية وما شابه، فالمبدع عبارة عن طاقة ولا بد أن تنخفض في يوم ما، ولكن يجب أن يكون هناك جانب آخر مضيء يملأ هذا الفراغ بالإيجابية والحيوية، وأن يكون هذا التوّقف بالنسبة له بداية مرحلة جديدة من النضوج الإبداعي. وأحياناً يعود هذا التوّقف إلى الصحبة السيئة أو البيئة السلبية أو الروتين الممل؛ الإبداع بحاجة إلى كسر هذا الروتين وتجاوز هذه الأنماط، فبعض المهارات أو التغييرات بمجرد ممارستها قد تساعد في تنمية الإبداع مثل تغيير المكان، أو ممارسة الرياضة، أو السفر، أو مخالطة الشخصيات المبدعة والطاقات المفعمة بالإيجابية والنجاح الحوار والنقاش».
أسباب متعددة
يتساءل الكاتب عبدالله محمد السبب: «الحبسة الإبداعية؛ هل هي قرار داخلي نابع من ذات الكاتب نفسه، لأسباب تخصه وحده من دون سواه، لاعتبارات إبداعية مثلاً؟ أم قرار خارجي بسبب ظروف وعوامل خارجة عن إرادة الكاتب التائق للإبداع بكافة صوره وأشكاله وأساليبه المتعددة؟ فالمبدع يمر في علاقته مع الكتابة بمراحل وأشكال وصور إنتاجية متعددة؛ فأحياناً هو في أوج عافية الإبداع، فتتولد الكتابة لديه بتلقائية وانسيابية، كمّاً وكيفاً، من خلال الدخول في عالم التجريب من أوسع وأصعب أبوابه؛ فتجده يسعى إلى تطوير أدواته عبر القراءة التي هي مفتاح الكتابة، التي هي بدورها ترجمان للقراءة القادرة على استخلاص لب الكلام، فالقراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة. وأحياناً يتعرض الكاتب للتوقف الإبداعي المؤقت لأسباب عدة؛ منها ما هو متعلق بغياب الإلهام الذي يعانده من دون أدنى سبب يذكر، ومنها بسبب إغلاق أبواب النشر أمام منتجه الإبداعي، ومن الأسباب كذلك؛ انخراطه في الانشغالات الاجتماعية الخاصة، أو الانشغالات المجتمعية العامة، وفي الكثير من الأحوال، فإن الكاتب ليس منقطعاً عن الكتابة، بل متواجد مع نفسه ومع مشروعه الإبداعي، فتراه يقرأ ويقرأ ويقرأ، ويكتب ويكتب ويكتب؛ مما نتج عنه مخطوطات ونصوص عدة، أليست القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة؟».
بيات روحي
يقول الكاتب سعيد البادي: «يظن بعضهم أن التوقف عن الكتابة، أو الرسم، أو أي تعبير إبداعي، هو نوعٌ من العجز، لكن الحقيقة أبعد من ذلك، فالتوقف الإبداعي ليس موتاً، بل بياتٌ روحي، كأن المبدع ينسحب قليلاً إلى عمق ذاته، ليعيد ترتيب الضوء في داخله، مثلما تحتاج الأرض إلى الخريف قبل أن يجيء الربيع، يحتاج المبدع إلى لحظات صمتٍ، يخلو فيها من اللغة، ومن المعنى، ومن الطموح، لكي يعود وفي قلبه ما يستحق أن يُقال. مشيراً إلى أن، الصمت مرحلة من مراحل الكتابة، فحين يغيب الإلهام، لا يكون المبدع فارغاً، بل يكون ممتلئاً بما لم ينضج بعد.
وأكد البادي، إن الإبداع الحقيقي لا يُولد تحت الضغط، بل في الهامش، حين لا يتوقعه أحد، ولا ينتظره أحد، ولا يطالبه أحد بأن يُبدع «بالطلب». وأما بالنسبة لكيفية مواجهة غياب الإلهام أو الحافز الإبداعي، يأتي بعدة طرق، ومنها: تغيير البيئة، القراءة، التحدث مع الآخرين، ممارسة التأمل يمكن أن تساعده في استعادة الهدوء والتركيز، والكتابة بشكل حر.
سحر الزارعي: جزء أصيل من طقوس الكتابة
من جانبها توضح الكاتبة والناقدة سحر الزارعي: «لا أجد التوّقف الإبداعي حالة طارئة، بل أراه جزءاً أصيلاً من طقوس الكتابة الإبداعية، لحظة توّقف اللغة عن التدفق ليست عطلًا، بل علامة على أن شيئاً داخلياً يعيد تشكيل نفسه في العمق؛ الإبداع لا يختفي، بل يتحوّل إلى صمت كثيف، يُطالبك بأن تصغي، لا أن تكتب. وبالنسبة لي، في مسيرتي، مررت بلحظاتٍ ظننت أن العلاقة بيني وبين اللغة انقطعت، فأدركت حينها أن التوّقف لا يعني الجفاف، بل تحوّلاً داخلياً عميقاً يستدعي الصبر والتأمل، وأن الكتابة ليست فعلاً لحظياً، بل حصيلة تراكم خفي. وتجاوز هذه الحالة لا يكون بالسعي وراء الإلهام كمن يطارد طيفاً، بل بالعودة إلى الينابيع الأولى: لماذا نكتب؟ من أين تبدأ الحكاية؟ أحياناً، نستسلم للصمت، ونترك الورق جانباً، ونذهب للمشي، أو القراءة، أو حتى للفراغ، ليسنا لأننا نهرب، بل لأننا نهيئ للتربة أن تتنفس من جديد، ولأن الإبداع ليس خطاً مستقيماً، بل مدٌّ وجزر، علينا أن نثق بأن ما يبدو ركوداً هو في حقيقته انحسارٌ قبل الموجة القادمة، تلك الموجة التي غالباً ما تأتي حين لا نتوقع، وربما تحمل نبرة جديدة، أو سؤالاً أعمق، أو لغة مختلفة لم نعرفها من قبل. ولذلك، فإن عودة الإلهام ليست مسألة وقت، بل مسألة استعداد داخلي للإنصات، الإنصات لما لم يُكتب بعد، لما يتحرك تحت السطح، في اللاوعي، في الصمت، في الحياة حين لا نراقبها، نكتب، لا لأننا نريد أن نُدهش، بل لأن الصمت لم يعد يحتمل».