طالبت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، دول العالم بوجوب احترام قرارات المحكمة الجنائية الدولية، وحضتها على بذل كل ما في وسعها لتنفيذها. "فلا ينبغي لأحد في القرن الحادي والعشرين أن يشنّ حربًا عدوانية، ويفلت بعدها من العقاب".

لقد أدلت بيربوك بهذا التصريح خلال زيارتها إلى نيويورك يوم 18 يوليو/تموز 2023 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتماد نظام روما الأساسي للجنائية الدولية، التي بإنشائها، تؤكد الوزيرة، "يتعهد المجتمع الدولي بالعمل على تحقيق العدالة للضحايا، ومحاسبة الجناة.

فالمجتمع الدولي لن يتغاضى عن اقتراف أفظع الجرائم في أي مكانٍ كان".

لكن يبدو – وبعد مرور عام واحد فقط على هذا التصريح – أن وزيرة الخارجية الألمانية وحكومتها لم يكونوا جادين في مطالبتهم العالم باحترام قرارات الجنائية الدولية التي تُعد ألمانيا ثاني أكبر مانح لها. ويبدو أن "في أي مكان كان" في خطاب بيربوك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يتضمن الشرق الأوسط، على الأقل حين تكون إسرائيل هي الجانية، والمدنيون الفلسطينيون هم الضحايا.

لم يكن أحد يتصور أن تكفر الحكومة الألمانية بهذه السرعة بما دأبت على التشدق به من المبادئ النبيلة في المحافل الدولية. فعلى عكس موقف الحكومة الألمانية القوي من قرار الجنائية الدولية حين أصدرت في 17 مارس/آذار 2023 مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي على أساس جريمة ترحيل أطفال أوكرانيين إلى روسيا، نلمس الآن حرجًا شديدًا في تعامل ألمانيا مع قرار ذات المؤسسة الدولية التي دعت العالم بالأمس القريب إلى الامتثال لقراراتها لمّا أصدرت مذكرة اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه المُقال يوآف غالانت؛ بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

إعلان

لقد اكتفت الحكومة الألمانية هذه المرة بإصدار بيان مقتضب جدًا، يشير بالدرجة الأولى إلى العلاقة الفريدة التي تربط ألمانيا بإسرائيل، والمسؤولية التاريخية العظيمة تجاهها، ولكنه يخلو من أي شيء يوحي بوجوب تنفيذ هذا القرار، أو بِنِيّة الحكومة الألمانية الالتزام بما طالبت الدول الأخرى بالالتزام به في العام الماضي.

فيبدو أن هذه المحكمة – التي ادعت وزيرة الخارجية الألمانية في خطابها السابق أنها تحتل لديها مكانة خاصة بين المؤسسات الدولية، وأغدقت الثناء عليها أمام مرأى ومسمع من العالم، وشكرت جميع موظفيها على تفانيهم في عملهم، وعلى مهنيتهم واستقلاليتهم – باتت اليوم لا تحظى بتلك المكانة المرموقة، بعدما تجرأت على توجيه اتهامات خطيرة لإسرائيل، وعلى مساءلتها مثل أي دولة أخرى تنتهك القانون الدولي.

لقد بدا تلكُّؤ الحكومة الألمانية في قبول قرار الجنائية الدولية بوضوح في ردود فعل المتحدث باسمها، شتيفن هيبشترايت، الذي جسّد خلال مؤتمر صحفي عقد الشهر الماضي، ارتباك ألمانيا، وقلة حيلتها أمام مأزق التعامل مع هذا القرار.

فحاول عبثًا التهرب بأسلوب غير احترافي من سؤال الصحفيين المتكرر حول إمكانية تنفيذ حكومته مذكرة الاعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير دفاعه السابق، وادعى أن الإجراءات الداخلية المترتبة على هذا القرار قيد الفحص الدقيق، قبل أن يصرح بعد مراوغات عدة بأنه "يجد صعوبة بالغة في تخيل أن تقوم ألمانيا باعتقالات على هذا الأساس"، على الرغم من أن هذا الأمر غير قابل للنقاش؛ لأن ألمانيا صدّقت على نظام روما الأساسي، علاوة على أن المادة 25 من الدستور الألماني تنص على أن القواعد العامة للقانون الدولي جزء من القانون الاتحادي، بل ولها الأسبقية على القوانين المحلية الألمانية.

بيدَ أنه وبعد هذا الوقت على تصريح هيبشترايت المخجل، أعلنت وزيرة الخارجية الألمانية بعدها – على مضض كما يبدو – على هامش اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع في فيوجي بإيطاليا، أن الحكومة الألمانية "ستلتزم بالقانون، لأن لا أحد فوقه".

إعلان

لم تكن مماطلة ألمانيا في قبول قرار الجنائية الدولية الأخير، وموقفها المعيب تجاهه مقصورَين على الحكومة الاتحادية فحسب، وإنما كان ذلك موقفًا عامًا يحظى بالإجماع في السياسة الألمانية بمختلف ألوانها ومشاربها الأيديولوجية. فجلّ السياسيين من مختلف الأحزاب الكبرى كانوا في هذه المسألة على قلب رجل واحد.

فعلى سبيل المثال وصف بوريس راين، رئيس حكومة ولاية هسن، قرار الجنائية الدولية بالأمر العبثي السخيف، وصرح في هذا الصدد بأنه "من غير الوارد على الإطلاق اعتقال رئيس وزراء إسرائيلي منتخب ديمقراطيًا على الأراضي الألمانية؛ لأنه يدافع عن بلده ضد الإرهابيين"، وأكد أن "حماية إسرائيل مصلحة عليا للدولة، وأن ذلك يشمل أيضًا حماية كبار سياسييها".

أما فريدرش ميرتس، المرشح لتبوُّؤ منصب المستشار الألماني في الولاية القادمة، فقد سبق له في مايو/أيار الماضي، إبداء موقفه من هذه القضية. فهو لم يكتفِ يومئذ بشجب طلب كريم خان إصدارَ أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت فحسب، بل انتقد، آنذاك، أيضًا الحكومة الألمانية بشدة؛ لأنها لم تجزم بما لا يدع مجالًا للشك بعدم انصياعها لقرارات الجنائية الدولية في هذا الشأن.

ولعل ميرتس كان أبلغ من عبر عن العَوَر الذي يَسِمُ نظرة ألمانيا والغرب عمومًا إلى المؤسسات الدولية، حين قال في حوار مع صحيفة "بيلد" إن "الجنائية الدولية لم تنشأ سوى لمحاسبة الطغاة والقادة المستبدين، وليس لاعتقال أعضاء الحكومة المنتخبين ديمقراطيًا".

إن موقف السياسة الألمانية من هذه القضية، يجعل ألمانيا في مصافّ الدول التي طالما انتقدتها ووصفتها بأقذع الأوصاف. فردة فعلها اليوم لا تختلف كثيرًا عن ردة فعل السياسيين الروس مثلًا، الذين رفضوا بدورهم مذكرة اعتقال فلاديمير بوتين واعتبروها – مثلما اعتبر رئيس حكومة ولاية هسن وغيره من الساسة الألمان قرار المحكمة الأخير – أمرًا سخيفًا غير مقبول.

إعلان

علاوة على أن ازدواجية معايير ألمانيا، وتعاملها الانتقائي مع قرارات المؤسسات الدولية سيساهمان حتمًا وعلى نحو فعال في إضعاف دور هذه المؤسسات في وقت بات فيه العالم على شفا حرب عالمية ثالثة توشك أن تندلع.

وحق إسرائيل في الدفاع عن النفس الذي لا يكلّ السياسيون الألمان من تأكيده كلما اقترفت إسرائيل مجزرة جديدة، ليس معناه أن تملك إسرائيل حق إبادة شعب استعمرته 76 سنة، وأمعنت في تهجيره، ومحاصرته، وقوَّضت كل مقوماته في إنشاء دولته المستقلة.

فمهما كانت بشاعة جريمة حماس في هجوم يوم 7 من أكتوبر/ تشرين الأول على إسرائيل، فهذا لا يسوغ لها ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. كما أن مسؤولية ألمانيا التاريخية تجاه إسرائيل لا يمكن أن يكون معناها دعمًا غير مشروط لحكومة يمينية متطرفة يكاد أن يرقى إلى التواطؤ على انتهاك القوانين الدولية في حق الفلسطينيين.

ونظرًا لبشاعة الجرائم التي تُتهم بها إسرائيل وجب على ألمانيا مراجعة مواقفها قبل فوات الأوان، فكما قال ألفريد غروسر، الناشر وعالم السياسة اليهودي الألماني- الفرنسي، الحائز 1975، جائزةَ السلام الألمانية للكتاب: "من أراد التبرُّؤ من هتلر، وجب عليه اليوم أن يدافع عن الفلسطينيين".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات وزیرة الخارجیة الألمانیة قرار الجنائیة الدولیة الحکومة الألمانیة

إقرأ أيضاً:

فرض عقوبات أميركية على 4 قضاة في المحكمة الجنائية الدولية

قررت الولايات المتحدة الأميركية، يوم أمس، فرض عقوبات على أربعة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية قضايا مرتبطة بواشنطن وإسرائيل، منها: إصدار مذكرة توقيف ضدّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ، على خلفية الحرب في غزة .

 وأكّدت المحكمة الجنائية الدولية أن العقوبات الأميركية على  القضاة الأربعة، هي "محاولة واضحة لتقويض استقلال مؤسسة قضائية دولية".

وسيُحظر على القضاة، وهن أربع نساء، دخول الولايات المتحدة؛ كما سيتم تجميد أي أصول تملكنها في البلاد، وهي تدابير غالبا ما تتّخذ ضد صانعي سياسات دول مناهضة للولايات المتحدة، وليس ضد مسؤولين قضائيين.

وقال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، في بيان "ستتخذ الولايات المتحدة كل الإجراءات التي تعدها ضرورية لحماية سيادتنا، وسيادة إسرائيل، وأي حليف آخر للولايات المتحدة".

وتابع "أدعو الدول التي لا تزال تدعم المحكمة الجنائية، والتي كلفت الحرية في الكثير منها تضحيات أميركية كبيرة، إلى التصدي لهذا الهجوم المخزي على بلدنا، وعلى إسرائيل".

كما أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، في وقت متأخر من مساء الخميس، فرض إدارة الرئيس الأميركيّ عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية.

بدورها، قالت المحكمة في بيان، إن "هذه الإجراءات هي محاولة جلية لتقويض استقلالية مؤسسة دولية قضائية، تعمل بتفويض 125 من الدول الأطراف من كل أنحاء الأرض".

المصدر : وكالة وفا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار العربية والدولية شاهد: غارات جوية إسرائيلية تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت الحجاج يبدؤون النفرة من عرفات لمزدلفة بعد قضاء ركن الحج الأعظم بالصور: الجيش اللبناني يعلن العثور على جهاز تجسّس إسرائيلي الأكثر قراءة إسرائيل: ارتفاع أسعار الوقود في حزيران هدف حرب إسرائيل هو طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من غزة مسيرة استفزازية للمستوطنين شمال غرب رام الله الأونروا: يجب السماح بتدفق الإمدادات إلى غزة دون عوائق أو انقطاع عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • ألمانيا والنرويج تعلقان على فرض عقوبات أمريكية على الجنائية الدولية
  • إيران تعلن تنفيذ أضخم اختراق استخباراتي في تاريخ إسرائيل
  • رئيسة المفوضية الأوروبية: يجب أن تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بحرية التصرف دون ضغوط بسبب إسرائيل
  • مصر.. نجيب ساويرس يعلق على لقاء مستشار ألمانيا مع ترامب وضجة وثيقة ميلاد جده الأخير بألمانيا
  • رفض أمم وأوروبي لعقوبات ترامب على قضاة المحكمة الجنائية الدولية
  • المجلس الأوروبي: الجنائية الدولية حجر الزاوية في العدالة وندعمها بقوة
  • لماذا فرضت أمريكا عقوبات على قاضيات المحكمة الجنائية بسبب نتنياهو؟
  • فرض عقوبات أميركية على 4 قضاة في المحكمة الجنائية الدولية
  • أخبار العالم| أمريكا تفرض عقوبات على الجنائية الدولية ونتنياهو يرحب.. إسرائيل تقصف ضاحية بيروت الجنوبية.. وخلاف حاد بين ماسك وترامب
  • واشنطن تفرض عقوبات على 4 قضاة في المحكمة الجنائية الدولية