تسابقت وسائلُ الإعلام العالمية في تناول الحدث الرقمي الأبرز في الأسبوع المنصرم الذي يتعلق بالمفاجأة الصينية المتمثّلة في نموذجها التوليدي «ديب سيك» «DeepSeek» المنافس للنماذج الأمريكية مثل «شات جي بي تي» و«جمناي»، ولم تكن المفاجأة في قدرات النموذج الصيني اللغوية والتحليلية فحسب بل في تكلفة تطويره التي لم تتجاوز 6 ملايين دولار -وفقَ تصريح شركة «ديب سيك»- في حين أن تكلفة تطوير النماذج الأمريكية وصلت إلى مئات المليارات من الدولارات؛ فأربك التفوّقُ الصيني شركاتِ التقنية الأمريكية العملاقة مثل «جوجل»، و«مايكروسوفت»، و«أوبن ايه آي»، وأركس قيمتها السوقية وكبدها خسائر باهظة أثارت حفيظة الحكومة الأمريكية؛ فأظهر الرئيس الأمريكي امتعاضه وأعاد تصعيد تهديداته للصين نتيجة زحفها السريع إلى عالم التقنية الذي يراه تهديدًا وجوديًا للهيمنة الأمريكية التقنية والاقتصادية والعسكرية.
تجاوزت الأزمةُ حدودَ الامتعاض والخوف إلى مرحلة التشكيك الأمريكي بنزاهة الشركة الصينية -كما هو معتادٌ في كل معركة اقتصادية وصناعية مع الصين- المطوّرة للنموذج التوليدي عبر توجيه اتهام مباشر -غير مُثبت حتى اللحظة- من قبل شركة «أوبن ايه آي» إلى الشركة الصينية بأنها استغلت البيانات الخاصة بشركة «أوبن ايه آي» التي تستعملها لنموذجها التوليدي «شات جي بي تي» واستعملتها في نموذجها الصيني «ديب سيك»، وأنها تستعمل آلية تدريب النموذج الخاصة بالشركة الأمريكية -وفقَ تحقيق نشرته البي بي سي-، ويستند هذا الادعاء -حسب شركة «أوبن ايه آي»- إلى مبدأ استحالة تحقق تدريب للنموذج الصيني على بيانات كبيرة بتكلفة قليلة جدا جعلت منه ذا قدرات عالية منافسة للنماذج الأمريكية. في خضّم هذا الصراع الرقمي بين الصين والولايات المتحدة، رأى الرئيس الأمريكي -بجانب مخاوفه- أن هذا التفوق الصيني الجديد وزحفه الرقمي السريع ينبغي أن يكون بدايةَ استفاقة لقطاع التقنية الأمريكية، وهذا ما يذكّرنا بالمخاوف الأمريكية الوطنية المستمرة مع قوى كبرى منافسة مثل أزمة تدنّي مستويات التعليم الأمريكية في ثمانينيات القرن الماضي الذي جعلها تطلق تقريرها الشهير «أمة في خطر» الذي كان متعلقا بالصراع الأمريكي مع الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة بينهما.بعيدا عن مناكفات الصحافة وتفاعلها مع مثل هذا الحدث؛ فإن الحدث وتناوله الإعلامي -خصوصًا الأمريكي- لا يخلو من المبالغة التي تعكس مخاوفهم القديمة من التنين الصيني الذي سبق أن حذّر الخبراء الأمريكيون من مخاطر الزحف الصيني في جميع قطاعات الصناعة وقدرته على التهام الصناعة الأمريكية وسحق اقتصادها، وبالتالي قلب موازين القوة العالمية؛ لتكون الصين الدولة الأقوى في العالم، وحينها ما نراه من حماس إعلامي أمريكي بشأن النموذج التوليدي الصيني ليس إلا جزءًا من السردية الأمريكية المعادية للنمو الصيني؛ فعبر تجربة شخصية، وجدت أن النموذج الصيني في مستويات توليدية لغوية وتحليلية عالية، ولكن مستوياته -الحالية- لا تجعله متفوقا -بالشكل الذي صوّرته لنا التقارير الإعلامية- على النسخة المدفوعة لـ«شات جي بي تي»، في حين أن المقارنة عادلة مع نسخة «شات جي بي تي» المجانية من حيث تفوّق النموذج الصيني «المجاني» على نظيره الأمريكي «المجاني». لا أجد الصراع الأمريكي-الصيني بشأن ظهور النموذج الصيني إلا في نطاق سياسي واقتصادي يعكس السباق على الهيمنة الرقمية في العالم التي تشكّل العمود الفقري للاقتصاد العالمي في زمننا الحالي؛ فنحن في عصر رقمي يتصدّر الذكاء الاصطناعي ونماذجه المدهشة صدارة الاقتصاد والتفوّق العسكري، فيكفي أن تخرج لنا تقارير عن الحرب التي شنّها كيان الاحتلال على غزة موثّقة استعمالات حصرية غير معهودة لأسلحة دمار وقتل تعمل بالذكاء الاصطناعي.لا بد من الإقرار أننا دخلنا مرحلةً رقمية تتصاعد فيها الصناعات الرقمية بتباين أنواعها واستعمالاتها في كل قطاعات حياتنا، ولا يمكن أن نتصور -كما يريد الإعلام الأمريكي والغربي- أن الأنظمة الرقمية والذكاء الاصطناعي محصورة في نماذج توليدية مثل «شات جي بي تي» و«ديب سيك»، ولكن هناك أنظمة ذكية تعمل بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي أكبر قيمةً للمطورين وأصحاب القرار من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين في جوانب يرونها تخدم مصالحهم الصناعية والاقتصادية والعسكرية، وفي حين لا تكون مخرجات هذه الأنظمة الذكية بالنسبة إلينا -العالم المتفرّج المستهلك- في غالبها إلا وبالا تأتي في صور لا نملك كثيرا من المعلومات عنها، ولكنها في صور حروب بيولوجية متطورة سريعة الانتشار والفتك، وفي صور «روبوتات» عسكرية قاتلة بأحجام صغيرة «نانوية» قادرة على الولوج إلى داخل أجسادنا، وحينها لا أجد أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين في واقعه خاص بظهور النموذج التوليدي الصيني؛ فهذا صراع أعمق من نمطية النماذج التوليدية التي تأتي أخبارها ومناكفاتها لتسطيح الوعي المجتمعي العالمي وإبعاده عن ما هو أكثر أهمية وخطرا من هذه النماذج؛ فتشير التوقعاتُ العلمية -التي لا تظهر رصانتها ودقتها إلا في منشورات علمية صُلبة- أن الصراعات بين هذه الدول أكبر من ظاهرة سباق تطوير النماذج التوليدية؛ فيتمثّل السباق الرقمي في مظاهر رقمية متقدمة منها ما ذكرناه آنفا في النمو العسكري الذكي بما فيها السلاح البيولوجي والتطوّر التقني العسكري الفضائي؛ فالصراع الحقيقي صراع وجود يقود العالم بأسره إلى تشكيل نظامه الجديد الذي لا يُستبعد أن يكون صينيًا آجلًا أم عاجلًا.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
النموذج الصینی
شات جی بی تی
أوبن ایه آی
دیب سیک
إقرأ أيضاً:
ذهبية 800 متر بمونديال السباحة.. ليديكي وماكنتوش في صراع الهيمنة والبقاء
سنغافورة (أب)
أخبار ذات صلة

ستينبرجن تتفوق على «الأوفر حظاً» في «مونديال السباحة»

الأستراليات يتفوقن على الأميركيات في «مونديال السباحة»
ستكون المواجهة على الأرجح بين السباحة الأميركية كاتي ليديكي والكندية سمر ماكنتوش في نهائي سباق 800 حرة سيدات، أبرز مواجهات اليوم السبت في بطولة العالم للسباحة المقامة بسنغافورة. ويعد هذا السباق واحداً من بين ستة سباقات نهائية تقام اليوم، ولكنه يطغى على كافة السباقات الأخرى في اليوم السابع من البطولة، التي تختتم منافساتها غداً الأحد. وتحمل ليديكي الزمن القياسي العالمي البالغ 8 دقائق و12. 04 ثانية، والذي حققته مطلع هذا العام. وهيمنت السباحة الأميركية البالغة من العمر 28 عاماً على سباق 800 متر لعقد من الزمن، وفازت بالفعل بذهبية 1500 متر في سنغافورة. كما أن لديها فضية سباق 400 متر. وفازت ليديكي بتسع ميداليات ذهبية أولمبية - وهي أكثر سيدة تفوز بميداليات في التاريخ، وكانت أول ذهبية حصدتها في أولمبياد لندن 2012 في سباق 800 متر. وتبلغ ماكنتوش 18 عاماً، وفازت بالفعل بثلاث ميداليات ذهبية في سنغافورة، كما سبحت في وقت سابق من هذا العام بفارق ثانية واحدة فقط عن توقيت ليديكي. وإذا كان هناك من يستطيع إزاحة ليديكي عن عرشها، فهي ماكنتوش. وستكون هذه هي الميدالية الذهبية الرابعة لماكنتوش، حيث تهدف للفوز بخمس ميداليات ذهبية في بطولة العالم، وهو إنجاز حققه فقط السباح الأميركي الأسطوري مايكل فيليبس. وتقام السباقات الخمسة النهائية الأخرى وهي سباق 50 متر فراشة سيدات، و50 متراً حرة للرجال، و200 متر ظهر للسيدات، و100 متر فراشة للرجال، و4x100 تتابع حر مختلط. وفاز كل من الأميركيين والأستراليين بخمس ميداليات ذهبية خلال ستة أيام من المنافسات. ويتصدر الأميركيون جدول الميداليات الإجمالي بـ 20 ميدالية، رغم أن أداءهم كان باهتاً وتراجع، بعد أن أصيب جزء كبير من الفريق بحالة «التهاب معدة وأمعاء حاد» خلال معسكر التدريب في تايلاند.