الجزيرة:
2025-05-18@14:06:05 GMT

السودان بعد الحرب.. هل تستمر لعبة العسكر؟

تاريخ النشر: 8th, February 2025 GMT

السودان بعد الحرب.. هل تستمر لعبة العسكر؟

ظلّ النظام السياسي في السودان ومنذ الاستقلال قبل نحو سبعة عقود يراوح ما بين الحكم العسكري، والحكم الديمقراطي بنمط تبادلي، نظام ديمقراطي يعقبه نظام عسكري، فيما يمكن تسميته بـ "لعبة عسكر وديمقراطية"!

ونتج عن هذا النمط التبادلي فكر سياسي في أوساط النخبة السودانية قوامه جدل بيزنطي استمر طوال العقود السبعة ما بين دعاة الحكم الديمقراطي بصيغته الليبرالية، وأولئك الذين يرون وجوب تطوير نظام للتداول السلمي للسلطة يتناسب مع البيئة السودانية بما تتضمنه من تنوع إثني وعقدي وثقافي وما يسود فيه من تقاليد مرتبطة بالتركيبة المجتمعية المحلية السائدة.

بعبارة مختصرة ظل الصراع محتدمًا بين دعاة الأخذ بالصيغة الليبرالية للنظام الديمقراطي، وبين دعاة (سَودَنَة) نظام يضمن تداولًا سلميًا للسلطة يراعي خصوصية المجتمع السوداني، بمعنى أن كل القوى السياسية السودانية متفقة على مبدأ التداول السلمي للسلطة، ولكنها مختلفة حول ماهية الصيغة الأنسب التي ينبغي الأخذ بها .

صراع اليمين واليسار

دعاة الأخذ بالصيغة الليبرالية هم أولئك الذين تأثروا بشكل أو بآخر بالثقافة الأوروبية عمومًا، والإنجليزية بالخصوص، بسبب وقوع السودان تحت طائلة الاستعمار البريطاني، وبالتالي كان لديهم انبهار بالنظام الديمقراطي في صيغته الليبرالية التي كانت مطبقة في بريطانيا وفي العديد من الدول الأوروبية.

إعلان

هذه الفئة نجحت في فرض رؤيتها لأسباب عديدة، لكن أهمها وأبرزها أنها كانت لها علاقات وطيدة ووثيقة بدوائر الحكم في بريطانيا، وتركيا، ومصر، كما أن رموز هذه الفئة وجدوا حاضنة قوية جدًا في طائفتي الأنصار والختمية اللتين كان لزعيميهما علاقة عضوية بالمستعمر البريطاني، يضاف إلى ذلك نجاح هذه الفئة في الإعلان عن استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر/ كانون الأول من العام 1955.

وبالتالي فقد كان الطريق ممهدًا لهذه القوى لوراثة الحكم بعد الاستقلال، فتبنت النظام البرلماني على غرار النظام في بريطانيا، وبالطبع لم يكن هناك مَلِك، ولكن تم تشكيل مجلس سيادة بصلاحيات محددة هي شرفية أكثر منها حُكْمية..

هذه الفئة تضم في داخلها القوى السياسية اليمينية، مع بعض المستقلين وقليلٍ جدًا من القوى الإسلامية الحديثة التي كانت لها رؤى مغايرة لكنها لم يكن لها ثقل جماهيري كبير، فارتضت أن تكون ضمن هذه الفئة تجنبًا للانضمام إلى الفئة الأخرى التي كان يقودها اليسار بكل تشكيلاته الحزبية.

وكان التيار اليساري بقيادة الحزب الشيوعي في أوج افتتانه بالتجربة الستالينية، ومنخرطًا في الحرب الباردة إلى جانب المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي ضد المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وكان يرى في النظام الديمقراطي الليبرالي نظامًا غربيًا رأسماليًا وامتدادًا للاستعمار البريطاني.

وانعكس هذا الموقف اليساري المناوئ لموقف القوى اليمينية سلبًا على الحياة السياسية غداة الاستقلال، واحتدم الخلاف بينهما مما كانت نتيجته تسليم رئيس الوزراء المنتخب عبدالله خليل السلطة لقائد الجيش الفريق إبراهيم عبود لتبدأ أول دورة للحكم العسكري في السودان.

نتائج الممارسات الشائهة

وقد ألقى هذا الخلاف بين اليمين واليسار بظلال سالبة على الحياة السياسية في السودان، وشكل فيما بعد وحتى اليوم عقبات ظلت تعرقل مسار الحياة السياسية ووسمتها بالاضطراب المستمر والمتكرر مما كانت نتيجته حالة عدم الاستقرار وتعثُّر عملية انتقال وتداول السلطة.

إعلان

تمظهرت هذه الحالة في تكرار عمليات سحب الثقة من الحكومات، ووقوع عدد من المحاولات الانقلابية الفاشلة في فترات الحكم الديمقراطي الثلاث التي شهدها السودان، هذا فضلًا عن طول فترات الحكم العسكري: (إبراهيم عبود 6 أعوام – جعفر نميري 16 عامًا – عمر البشير 30 عامًا)، وقصر فترات الحكم الديمقراطي: (الفترة الأولى عامان – الفترة الثانية 5 أعوام – الفترة الثالثة 3 أعوام).

وفوق هذا وذاك، كانت لحرب الجنوب الأثر الأكبر في اضطراب الحياة السياسية والتي بدأت في العام 1955، وانتهت في العام 2005، وتلتها في التأثير الحرب في دارفور التي اندلعت في العام 2003.

لكن الحقيقة أن الأثر الأكبر الذي أدى إلى اضطراب الحياة السياسية في السودان، كان يتمثل في سلوك الأحزاب والقوى السياسية نفسها بممارساتها الشائهة للعمل السياسي إبان فترات الحكم الديمقراطي.

وكانت هذه الممارسات الشائهة السبب المباشر وراء انهيار الحكم الديمقراطي في التجارب الثلاث، فكل الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكومات الديمقراطية المنتخبة كانت بتدبير من أحزاب سياسية؛ (انقلاب إبراهيم عبود كان وراءه حزب الأمة القومي، وانقلاب جعفر نميري كان وراءه الحزب الشيوعي السوداني، وانقلاب عمر البشير كان وراءه حزب الجبهة الإسلامية القومية).

أيضًا، يضاف إلى ذلك أن فترات الحكم الديمقراطي كانت السمة المشتركة فيها هو فشل حكوماتها في مجالين مهمين هما؛ الاقتصاد والأمن، إضافة إلى مشكلات أخرى متعلقة بالسياسة الخارجية.

في مقابل ذلك، شهدت فترات الحكم العسكري تطورًا ملموسًا في هذين المجالين، فمعظم مشروعات التنمية الاقتصادية ذات الأثر الإيجابي على الاقتصاد الكلي أنشأتها حكومات تحت مظلة الحكم العسكري، كذلك شهدت فترات الحكم العسكري استقرارًا نسبيًا في الجانب الأمني، ومزيدًا من الانفتاح في السياسة الخارجية للسودان.

إعلان

وألقى هذا الواقع بأثره على تفضيلات الغالبية العظمى للشعب السوداني الذي أظهر ميلًا واضحًا نحو تأييد الحكم العسكري لشعوره باستقرار الحياة المعيشية، واستتباب الأمن وتزايد هيبة الدولة داخليًا وخارجيًا في ظل هذه الأنظمة، ومن ثم وقر في العقل والضمير الجمعي الشعبي أن الحكم العسكري أفضل وأنسب للسودان من الحكم الديمقراطي.

وهي حقيقة يصعب إنكارها، وبعض الشواهد تدلل عليها، فطول مدة الحكم العسكري شاهد على ذلك، فالفترة الأولى كانت مدتها ست سنوات، زادت في الفترة الثانية وبلغت 16 عامًا، ثم زادت في الفترة الثالثة فبلغت 30 عامًا، وهو مؤشر لا يمكن تجاهله بالنظر إلى ولع السودانيين بالتغيير وصنع الثورات.

وتعتبر فترتا الحكم العسكري؛ الثانية والثالثة أكثر الفترات التي شهدت طفرات اقتصادية واستغلالًا كبيرًا للموارد الاقتصادية، وطفرات كبرى في البنى التحتية والتطور العمراني، وفي المستوى المعيشي، خاصة في فترة حكم الرئيس البشير، رغم الضوائق التي كانت تطل بين فترة وأخرى؛ بسبب العقوبات الأميركية، لكن حدثت في هذه الفترة نقلات نوعية في قطاعي النفط والتعدين، تمكنت فيها الدولة من إحداث نهضة صناعية وعمرانية وإرساء بنية تحتية معتبرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الثورة التي أطاحت بحكم البشير كانت مختلفة تمامًا عن ثورتي أكتوبر/ تشرين الأول 1964، وثورة أبريل/ نيسان 1985، فكلتا الثورتين كانتا وطنيتين خالصتين غير مدعومتين من الخارج، بينما كانت ثورة أبريل/ نيسان 2019 مصنوعة ومدعومة من الخارج، وكان داعموها الأجانب يهدفون من ورائها استبدال حكم البشير بآخر يدين لهم بالولاء: (تحالف مكون من عدد من القوى السياسية ومنظمات مجتمع مدني ومليشيا الدعم السريع)، والهدف هو استغلال الثروات المعدنية والزراعية والحيوانية الهائلة، والسيطرة على ساحل بطول 750 كيلو مترًا على البحر الأحمر. وهو ذات التحالف الذي أشعل الحرب الدائرة الآن بمحاولته الاستيلاء على السلطة في 15 أبريل/ نيسان 2023.

إعلان البرهان والمستقبل

ومع طول أمد الحرب وما حدث فيها من فظائع وجرائم غير مسبوقة في تاريخ السودان القديم والحديث ارتكبتها مليشيا الدعم السريع والتي كانت كلها منصبة بشكل أساسي على المواطنين وعلى المنشآت والمؤسسات والأعيان المدنية، وخطاب الكراهية العنصري الصادر من قيادات مليشيا الدعم السريع تجاه الشعب السوداني، والكشف عن مشاركة مقاتلين مرتزِقة مع المليشيا، ووضوح مصادر الدعم اللوجيستي للمليشيا، ترسخ لدى الشعب السوداني اعتقاد جازم بأن الدولة السودانية بشعبها وأرضها ومواردها وسيادتها هي المستهدفة، وهذا نتج عنه التفاف شعبي كبير غير مسبوق حول الجيش والحكومة القائمة ضد هذا المشروع الأجنبي.

ووجد البرهان تأييدًا واسعًا وشعبية كبيرة ودعمًا غير مسبوق من جل قطاعات الشعب السوداني، وهو يقود الدولة سياسيًا وعسكريًا في أخطر مرحلة تمر بها، محققًا انتصارات باهرة في جبهة الحرب، وفي جبهة الدبلوماسية، وإدارة علاقات السودان الخارجية بحنكة، ورسم أولويات السياسة الخارجية، وفوق هذا وذاك تسيير أعمال الدولة السيادية والتنفيذية دون حدوث اختلالات مما تحدث عادة إبان الأزمات والحروب.

أصبح البرهان أسطورة ومحط إعجاب السودانيين، ينظر إليه كقائد (ملهم) شجاع مقدام ذكي صبور، قاد جيشه إلى نصر كبير وصد عدوانًا كبيرًا مباغتًا مدعومًا من قوى داخلية وإقليمية ودولية بعدد كبير وعتاد ضخم حديث ما كان أحد من المراقبين الأكثر تفاؤلًا يتوقعه.

وهذا الوضع الذي تبوَّأه البرهان ومن معه في كابينة القيادة من العسكريين والمدنيين ومن شركاء الجيش في حركات الكفاح المسلح ربما أماط اللثام بشكل كلي عن مستقبل الحكم في سودان ما بعد الحرب.

فالوضع الحالي يعطي صورة هي الأكثر قربًا من الحقيقة لما ستؤول إليه الأوضاع السياسية في السودان، ومقياس رسم للمشهد السياسي القادم.

إعلان

فمما هو مؤكد أن مليشيا الدعم السريع والقوى السياسية التي تحالفت معها وخططت معها للاستيلاء على السلطة لن يكون لهما موطئ قدم في الحكم والساحة السياسية بعد الحرب.

فهذه القوى والمليشيا فقدتا كل مظان التأييد والمساندة من قطاعات الشعب السوداني في كل أقاليم البلاد. بل أصبح هؤلاء مطلوبين للعدالة مما يغلق الباب في وجه أي احتمال لعودتهم للبلاد من منافيهم الاختيارية.

يضاف إلى ذلك أن هذا التحالف الذي أشعل الحرب وقع في خطأ قاتل بادعائه أنه فعل ذلك من أجل جلب الديمقراطية والحكم المدني، وإنهاء ما سماه سيطرة الجيش والإسلاميين على الحكم، حيث لم يعد أحد يصدق هذا الادعاء بالنظر إلى الممارسات الفظيعة المنافية للإنسانية وأبسط قواعد الحقوق المدنية وحقوق الإنسان التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع بمناصرة ودعم من القوى الحليفة لها.

وساعد على ترسيخ هذا اليقين بزيف هذا الادعاء تذبذب المليشيا وحليفها المدني في تبرير إشعالهما للحرب، فمرة من أجل الديمقراطية، وتارة من أجل نصرة (المهمشين)، ومرة من أجل إنهاء سيطرة سكان شمال السودان على السلطة والثروة، ووصل الحد إلى أن أعلنت مليشيا الدعم السريع على لسان قائدها حميدتي أنهم يستهدفون القضاء على قبيلة بعينها في شمال السودان!

ومن كل ذلك مضافًا إليه موقف الأحزاب السياسية السالب من الحرب وانقسامها ما بين منخرط في صف المليشيا، وما بين منزوٍ متلحف بثوب الحياد، ويستثنى في ذلك التيار الإسلامي الذي انخرط كلية في صف الجيش ضد المليشيا بكتيبة مقاتلة وبثقله السياسي والإعلامي، فإن مستقبل الحكم الديمقراطي في السودان يبدو ضبابيًا ويكتنفه الغموض، وتتضاءل احتمالات التوجه نحو الأخذ به بعد الحرب.

وبالمقابل تتزايد اتجاهات واحتمالات أن يبرز إجماع شعبي يضع ثقته في كابينة القيادة الحالية بالدولة بكل طيفها الوطني لتستمر في قيادة الدولة في وقت السلام بعد أن قادته إلى بر الأمان في وقت الحرب.

إعلان

وينظر السودانيون إلى مرحلة ما بعد الحرب باعتبارها الأكثر صعوبة وتحتاج إلى وحدة الكلمة والصف لا فرقة وخلاف الأحزاب السياسية، وأنها معركة بناء وإعمار لا تقل أهمية عن معركة صد العدوان وحفظ سيادة الدولة، وأنها ستأخذ وقتًا أطول مما أخذته الحرب، وأنه بعد الإعمار يحتاج الأمر أوقاتًا أطول للحفاظ على ما تم إعماره، وأنه من غير المرجح أن تتم المخاطرة به ليكون في عُهْدة الأحزاب السياسية مرة أخرى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات ملیشیا الدعم السریع الحیاة السیاسیة القوى السیاسیة الشعب السودانی الحکم العسکری فی السودان بعد الحرب هذه الفئة التی کانت التی کان من أجل نظام ا ما بین ما کان

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: هل بات السودان خارج الحسابات الأمريكية؟

بالأمس تابعتُ خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يزور السعودية، في المنتدى الاقتصادي السعودي-الأمريكي، باهتمام بالغ. كان المتوقع، في ظل ما تعيشه منطقتنا من تحولات، أن يتناول الأزمة السودانية بالنظر إلى الحرب المستمرة منذ 15 أبريل 2023. لكن للأسف، لم تكن حاضرة في كلمته، لا تصريحًا ولا تلميحًا. هذا التجاهل يُعد مؤشرًا صريحًا على موقع السودان في الخارطة الجديدة التي ترسمها واشنطن للمنطقة.

إما أن الخرطوم باتت خارج الحسابات، أو أن ملفها قد أُحيل إلى طاولات تفاوض غير معلنة في عواصم أخرى، حيث تجري التفاهمات الإقليمية.

كانت رسائل ترامب واضحة في تركيزها على ملفات كإيران، وسوريا، وغزة، والعلاقة مع تركيا وإسرائيل. أما السودان، الذي يواجه حربًا مدمّرة ، فلم يحظَ حتى بمجرد ذِكر، وهو ما يعكس تبدلًا نوعيًا في المقاربة الأمريكية للمنطقة. لم تعد واشنطن تنخرط في تفاصيل كل ملف، بل تميل إلى تفويض شركائها الإقليميين لإدارته، وفق ما يخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية الكبرى، دون انخراط مباشر.

فالاستجابة الدولية للأزمة السودانية اتسمت بالبطء والارتباك، فيما اكتفى الأمريكيون ببيانات دبلوماسية لا تتجاوز حدود التعبير عن القلق، أو المطالبة بوقف إطلاق النار، دون طرح مبادرات ملموسة. حتى وجودهم كوسيط في منبر جدة مع السعودية كان باهتًا، وفشل في الضغط على مليشيا الدعم السريع وداعميها في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في 11 مايو 2023.

في الأثناء، برزت أبوظبي كأحد مراكز الثقل الإقليمي المؤثرة في الملف السوداني، سواء عبر دعمها لمليشيا الدعم السريع ـ بحسب الحكومة السودانية التي صعدت معها إلى درجة قطع العلاقات ووصفها بدولة “عدوان” ـ أو عبر محاولتها صناعة مسارات تفاوضية سرية، يُعتقد أن واشنطن تراقبها من بعيد.

في هذا السياق، يُنظر داخل السودان بعين الريبة إلى موقف الإدارة الأمريكية السابقة إبان فترة الرئيس بايدن من الحرب، حيث يرى كثيرون أن الديمقراطيين لم يُظهروا جدية كافية في التعامل مع الأزمة، بل ويذهب بعض المحللين إلى القول إن واشنطن، عبر صمتها أو تواطئها الضمني، ربما كانت ضالعة ـ مع أطراف إقليمية ودولية ـ في خلق بيئة سمحت بانفجار الحرب. هذا الإحساس العميق بالخيانة السياسية دفع قطاعات واسعة من السودانيين إلى التطلع لعودة الجمهوريين، وعلى رأسهم دونالد ترامب، الذي سبق أن صرّح عند توليه الرئاسة بأنه جاء “لوقف الحروب لا إشعالها”.

ويبدو أن هناك من لا يزال يراهن على أن إدارة ترامب، لو عادت، ستكون أقل تورطًا وأكثر قابلية للتعامل مع السودان كدولة، لا كأزمة. هذا الانكفاء الأمريكي يفتح الباب لتحولات أوسع. فالسودان رغم أزمته، لا يزال يحتفظ بعناصر قوة جيوسياسية قد تجعله هدفًا للمنافسة الدولية، وليس مجرد هامش جغرافي يُدار بالوكالة. موقعه الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر، قرب مضيق باب المندب، يمنحه مكانة متقدمة في معادلات أمن الملاحة الدولية.

وهو ما يُفسّر عودة الحديث عن الاتفاقية التي أبرمتها الخرطوم مع موسكو عام 2017 لإنشاء قاعدة لوجستية بحرية في بورتسودان. هذا الاتفاق الذي جُمِّد لغياب الحكومة المنتخبة، عاد إلى الواجهة بعد اندلاع الحرب، في ظل تقارير تشير إلى محاولات روسية لإعادة تنشيطه بهدف تثبيت موطئ قدم دائم في البحر الأحمر، بحسب صحيفة “الشرق الأوسط”.

بالمقابل، لم تغب تركيا عن المشهد. ففي عام 2017 أيضًا، أبرمت أنقرة اتفاقًا مع حكومة الخرطوم لإعادة تأهيل جزيرة سواكن، ضمن مشروع متعدد الأبعاد، اعتبره مراقبون غطاءً لتوسيع النفوذ العسكري التركي في البحر الأحمر. ورغم تجميد المشروع بعد الإطاحة بحكم البشير، فإن التحولات الراهنة قد تفتح المجال لإحياء هذه الشراكة، خاصة في ظل التقارب التركي-الخليجي، والتحول في تموضع أنقرة في السياسة الإقليمية.

وإذا كانت روسيا وتركيا تمثلان بُعدين استراتيجيين في الحسابات العسكرية، فإن الصين تُعد الامتداد الاقتصادي الذي يصعب تجاهله. فبكين، التي تُعد الشريك التجاري الأكبر للسودان، على استعداد لأن تضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية والطاقة، ضمن إطار مبادرة “الحزام والطريق”. هذه الشراكة ليست بديلة عن واشنطن فحسب، بل تُشكّل تحديًا لهيمنتها، خصوصًا في شرق أفريقيا، حيث تسعى الصين لتأمين طرق التجارة والإمداد عبر البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

أمام هذا المشهد، تبدو واشنطن في موقع المراقب المتحفّظ. فهي تدرك أن تجاهل السودان تمامًا قد يفتح الباب أمام خصومها الاستراتيجيين للتمدد في منطقة شديدة الأهمية، لكنها، في الوقت نفسه، لا ترغب في الانخراط المباشر في أزمة معقدة دون ضمانات لتحقيق مصالحها. ولذلك، فإن أحد السيناريوهات المطروحة هو إبقاء السودان في حالة “توازن ضعف”، تُتيح التدخل الأمريكي لاحقًا بشروط أكثر ملاءمة لواشنطن، لا وفق ما تمليه تطلعات السودانيين.

هذه السياسة، التي تقوم على الانتظار والمراقبة، بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، تضع السودان أمام خيار صعب: فإما أن يبقى ورقة بيد الآخرين، تتحرك حيث تُراد لها الحركة، أو أن يتحول إلى طرف فاعل قادر على إدارة موقعه بذكاء، واستثمار أوراقه الاستراتيجية دون الوقوع في فخ الاستقطاب أو الارتهان. الأمر يبدأ أولًا من الداخل؛ من إنتاج حالة سياسية متماسكة، قادرة على مخاطبة الخارج من موقع الشريك، لا الضحية. ثم يمتد إلى الخارج، عبر تنويع الشراكات، وبناء علاقات توازن ذكي تحفظ للبلاد سيادتها، وتُبرز موقعها بوصفه حيويًا في معادلات الإقليم والعالم.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 14 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أبو الغيط: العراق هو الدولة الأولى التي تترأس القمتين السياسية والاقتصادية
  • الزيدي: فلسطين كانت العنوان الأبرز في قمتي بغداد السياسية والتنموية
  • فيديو ذكاء اصطناعي يثير تفاعلا خلال قمة المجموعة السياسية الأوروبية
  • ماهي الأدوار المهمة التي يمكن أن يلعبها الإعلام في السودان في فترة ما بعد الحرب
  • المفاجأة التي لم تخطر على المتمرد عبد العزيز الحلو، حليف ميليشيا آل دقلو الإرهابية، أن الجيش على بُعد 43 كيلومترًا من كاودا
  • شاب يواجه الشرطة بمسدس لعبة.. فيديو
  • الحلقة الخامسة من سلسلة “من أشعل الحرب في السودان؟”
  • هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: هل بات السودان خارج الحسابات الأمريكية؟
  • عُمان التي أسكتت طبول الحرب