علي جمعة: التجلي الإلهي يجعل الإنسان مستحضرًا لله في كل شيء
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن التجلي الإلهي هو أن الله -سبحانه وتعالىٰ- وراء كـل شيء: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.وَفِي كُلّ شيء لَهُ آيَة * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ.
وأضاف جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أن التجلي الإلهي يجعل الإنسان مستحضرًا لله في كل شيء، في كل سكنة، في كل حـركة.
ومع ذلك ، فإن الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب جهل، فعندما أراد النبي ﷺ أن يخرج إلى أُحُد ،خالف بين درعيه. [أبو داود] أخذًا بالأسباب، ليعلمنا المنهج الأمثل في التعـامل مع كون الله تعالى. فبيّن لنا أن حقيقة التوكل هي الأخذ بالأسباب، فقال ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» [الترمذي] .
وقد قال العلماء: الطير تغدو وتروح، تأخذ بالأسباب، لا تمكث في أوكارها، بل تبذل جهدها، فيرزقها الله -سبحانه-. فقوله ﷺ : (تَغْدُو وتَرُوح) يشير إلى وجود حركة، فهي إذن لا تترك الأسباب. وكأن الحق سبحانه يربي الأكوان كلها على التأدب بأدب الله في الأخذ بالأسباب التي أوجدها وخلقها في كونه.
ويعلّمنا أيضًا أن المؤمن ، رغم أخذه بالأسباب، إلا أنه لا يعتمد عليها؛ فالفلاح يلقي الحب، ثم يدعو الله قائلًا: (يا رب).
هذا هو المسلم الذي أقام حضارةً، حضارةً يؤمن فيها بالتجلي الإلهي.
والتجلي الإلهي مبني أيضًا على أن الحق سبحانه له أسماء، وأسماء الله الحسنى في القرآن الكريم مائة وثلاثة وخمسون اسمًا ، وفي السُّنَّة المطهرة مائة وأربعة وستون اسمًا، ومع حذف المكرر منها، تكون أسماؤه -سبحانه- مائتين وعشرين اسمًا. وهذه الأسماء تمثل منظومة القيم التي عاشها المؤمنون، ومنها:
• أسماء الجمال: (الرحمن، الرحيم، العفو، الغفور، الرؤوف).
• أسماء الجلال: (المنتقم، الجبار، العظيم، شديد المحال، جل جلال الله).
• أسماء الكمال: (الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الضار، النافع، المعز، المذل، السميع، البصير).
وهناك أيضًا ما يسمونه بـ (الأسماء المزدوجة)، مثل:
• (الأول الآخر) معًا يشكلان اسمًا.
• (الضار النافع) معًا يشكلان اسمًا.
• (الظاهر الباطن) معًا يشكلان اسمًا، لأن بهما الكمال المطلق لله رب العالمين.
هذه المنظومة توصلك إلى ثلاث مراحل:
- التخلي: أن تخلي قلبك من القبيح.
- التحلي: أن تحليه بالصحيح.
- التجلي: أن يتجلى الله بأنواره وأسراره على قلبك.
وحينها، تخرج من دائرة الحيرة إلى دائرة الرضا، كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: التوكل على الله كيف نتوكل على الله أسماء الله الحسنى المزيد
إقرأ أيضاً:
داء القلق
د. صالح بن ناصر القاسمي
ماذا عساه أن يواجه الإنسان وهو يبدأ مسيرته على وجه البسيطة؟ فمنذ أن تبدأ صرخته الأولى في فضاء الحياة، وهو يعيش حالة من الترقب والقلق، دائم الالتصاق بأمه التي يشعر معها بالأمان والاطمئنان. حيث يولد الإنسان وهو محمل بغرائز طبيعية، في مقدمتها حب الحياة، وإلا فما هو تفسير أن يمتلك الطفل ردة فعل مباشرة حين يسمع صوتًا غريبًا بالقرب منه؟ جميعنا لاحظنا ذلك مراراً وتكراراً مع أطفالنا، بل نعايشه بأنفسنا رغم أننا نمتلك رصيدًا من الأعوام، نخشى فيه على ذواتنا من أي تهديد خارجي، ونتفاعل بردة فعل تناسب الموقف المعاش.
ولا زلت أذكر، ونحن في مقاعد الدراسة الجامعية، أن أحد المدرسين ضرب بيده على الطاولة بينما كان يشرح لنا كيف أن الإنسان لديه ردة فعل طبيعية تجاه التهديدات الخارجية. فما كان منَّا إلا أن تحركنا تلقائيًا، وتملكنا الخوف، وكان ذلك مثالًا حيًّا لا تزال تفاصيله حاضرة في ذهني، كأنها حدثت للتو.
كثيرة هي الأشياء التي تجعل الإنسان يعيش داء القلق: الخوف من المستقبل، القلق بشأن تأمين المعاش، الخوف من تربية الأبناء، وغير ذلك الكثير من الهواجس. بل وأحيانًا يعيش الإنسان حالة من القلق والخوف من أمور لا يستطيع حتى أن يحدد مصدرها، فكثيرًا ما يخبرنا أصدقاؤنا أنهم يمرون بحالة قلق لا يعرفون سببها. وهذا ما يزيد من خطورة هذا الداء، أنه متسلل، لا يأتي من باب واضح، بل يتسلل من النوافذ الصغيرة المهملة في زوايا النفس.
ومع تدرج الإنسان في مراحل حياته، يبدأ الصراع مع العديد من الأدواء، في مقدمتها الأمراض الجسدية. ومع ذلك، فإن تلك الأوجاع غالبًا لا تجعله يعيش حالة من القلق الشديد، لأنه يشعر بأن لكل داء دواء، وأن هناك دائمًا أملًا في الشفاء. أما إذا أصيب الإنسان بداء القلق، وتمكن منه حتى تغلغل في نفسه، وسيطر على روحه وأفكاره، فهنا فقط تبدأ المأساة الحقيقية.
إذ إن أي داء يصيب الجسد، فإن الروح تسنده لتجاوز المرض، أما إذا أصيبت الروح، فإن الجسد حينها لا يقدم عونًا، بل يصبح عاجزًا، ويصيبه الوهن، ويغدو عرضةً للأمراض والانهيار. ولهذا، فإن الكثير من الدراسات الطبية الحديثة أكدت العلاقة الوثيقة بين الصحة النفسية والجسدية، فكل اضطراب في الأولى قد يُترجم في الثانية على شكل أمراض عضوية ملموسة.
ومن الملاحظ أيضًا أن الأمراض النفسية، وعلى رأسها داء القلق، أصبحت أكثر انتشارًا في المجتمعات المعاصرة. ويعود ذلك إلى نمط الحياة المتسارع وضغوطها، وصعوبة التأقلم معها، مما يؤدي إلى تجاوب مباشر وسريع مع كل مثير، فينتقل القلق ويتعمق في النفوس، ويتحول من شعور عابر إلى نمط تفكير مزمن.
ولا شك أن الأمر، في أوله وآخره، مرتبط بالحالة الإيمانية للإنسان. فمتى ما كان الإنسان قوي الإيمان، كان أقل عرضة للإصابة بداء القلق، لأنه موقن أن مصيره بيد الله، وأنه المدير والمسيّر لأحواله، وأن كل ما يصيبه ما هو إلا ابتلاء واختبار. كما قال تعالى:
"قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 51)
فالآية الكريمة وصفت حال المؤمنين الحقيقيين الذين تمكن الإيمان من نفوسهم. وهو خط الدفاع الأول الذي يحميهم من داء القلق. وفي الحديث الشريف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" (رواه الترمذي).
ولعل من أعظم الشواهد على صدق التوكل، ما وقع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الهجرة، عندما كان مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في غار ثور، وكانت قريش تلاحقهم، حتى وصلت إلى باب الغار، واقتربت الخُطى، فهتف أبو بكر: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!"، فجاءه الرد الحاسم من النبي عليه الصلاة والسلام:
"يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" (رواه البخاري ومسلم)
إنها لحظة مفصلية في تاريخ التوكل البشري. فالخطر محدق، والقلق مشروع، لكن اليقين بالله كان أقوى من كل مظاهر الخوف. ذلك الموقف يُعلّمنا أن الطمأنينة ليست في غياب التهديد، بل في حضور الله في قلوبنا، يقينًا لا يهتز، وثقة لا تنكسر.
فإذا كان أكثر ما يقلق الإنسان هو رزقه، وهو يعلم يقينًا أن رزقه بيد الله وحده، فلم القلق؟ يعيش حينها ببساطة، بل بسعادة واطمئنان. ولهذا، علينا أن نوقن أن داء القلق لا يصيب إلا من كان في إيمانه خلل، وعليه أن يراجع نفسه، فالدواء الحقيقي مرهون بها، لا بغيرها.
ومن المهم أن نلتفت إلى ضرورة بناء توازن نفسي، من خلال تهذيب النفس، وترويض الفكر، وتوجيهه نحو ما ينفع. فالعقل إذا تُرك ليتأمل المخاوف وحده، صنع منها وحشًا وهميًا يهابه صاحبه كل يوم. ولكن متى ما تم إشباع الروح بطمأنينة الإيمان، واليقين، والذكر، خمدت نيران القلق، وانزاحت غيوم الخوف.
فيا من أنهكه القلق، وتاه في دروب الهواجس، تذكّر أن الحياة لا تعطي أمانها لمن يركض خلف الظنون، بل لمن وقف بثبات على أرض الإيمان. لا تجعل يومك ساحة معركة بينك وبين ما لم يحدث بعد. فالقلق لا يغير المستقبل، بل يسرق منك الحاضر لحظة بلحظة. قاومه بالتوكل، واجه ظلاله باليقين، وعلّم قلبك أن لا يرتجف إلا من خشية الله، لا من غموض الغد.
ولعل أجمل انتصار تحققه في معركتك مع القلق، هو أن تبتسم وسط ضجيج الخوف، وأن تقول لنفسك بثقة: "أنا لست وحدي، فرب السماء يدبر أمري."
ومن هنا، تبدأ رحلة السلام.