حيدر المكاشفي

صادف يوم الثالث عشر من شهر فبراير الماضي، الذكرى السنوية الأولى لرحيل استاذ الاجيال وعميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح، وقد كان رحيله فاجعا على البلاد عامة والصحافة خاصة، فكليهما الوطن السودان والصحافة السودانية يفتقدان وجوده، فللراحل قيمة وطنية تتعدى الصحفيين ومهنة الصحافة لتشمل كل المجتمع السوداني وكل القضايا السودانية، بما يمتلك من معرفة موسوعية وقلب كبير يسع الجميع، فهو في المهنة مدرسة وقامة مهنية عالية وسامقة وسامية، فالراحل محجوب يعد أحد الأعمدة المؤسسة للصحافة السودانية، ومؤسس النهضة الحقيقية للصحافة السودانية، منذ الأربعينيات، والخمسينيات التي شهدت تأسيس صحيفة الأيام عام 1953وظل صامدا في هذه المهنة الصعبة أكثر من سبعين عاما حتى اخر لحظات حياته، ولم يوجد وأزعم أنه سوف لن يوجد من يهب مهنة الصحافة كل عمره وكل بذله مثله في المنطقتين العربية والافريقية، ولأن الناس في أزمان الأزمات والمحن والاحن يفتقدون الحكماء، فقد افتقدت البلاد في زمن هذه الحرب المهلكة اللعينة الاستاذ محجوب الذي كان يعد من آخر الحكماء الذين تبقوا لنا، وفي هذا الظرف العصيب والمنعطف الاخطر الذي يمر به السودان اليوم، ما كان أحوج البلاد لحكمته ونصحه ومساهماته التي لم تنقطع حتى آخر يوم في حياته الذاخرة بالعطاء، ونذكر في هذا الصدد تحذيره الذي لم يكف عن تكراره كثيرا وفي كل مناسبة من انزلاق البلاد نحو المجهول بسبب الاستقطاب الحاد، وهو ما حدث ويحدث حتى الان ويخلف مآسي كبيرة وفظيعة، ولكن عزاءنا أنه ان غادر هذه الفانية فقد ترك أثرا باقيا وممتدا على المستويين الصحفي والوطني.

.

ان ما احتازه وبناه الراحل الكبير محجوب محمد صالح من سيرة باذخة وعطاء ثر، لم يكن طريقه اليه معبدا ومفروشا بالورود، ولم يكن كل ما أصابه من نجاح سهلًا وفي متناول اليد، بل كان طريقا مليئا بالأشواك والعثرات والصخور والعقبات والمعاناة والمكابدة وبالتحديات والصعاب، ولكن بالعزيمة والاصرار وتوجيه كل طاقاته نحو ما خطط له من أهداف متجاوزا كل العقبات بنى تلك السيرة والمسيرة الباذخة، فقد حكى هو بنفسه في عدد من اللقاءات الصحفية عن نشأته الباكرة وبعض محطات مسيرة حياته العامرة بالبذل والعطاء، ومؤدى افاداته أنه لم يخرج إلى الدنيا ليجد طريقه ممهداً ومفروشاً بالورود، فهو ينحدر في الأصل من أب حرفته صيد الأسماك، نزح من أقصى شمال السودان قاصداً الخرطوم يحمل معه أدوات صيده وأحلام الاستقرار على إحدى ضفتي النيل، انتهت رحلة ذلك الصياد (والد محجوب) بمنطقة الخرطوم بحري، مضت السنوات على محمد صالح هناك وفي أحد أيام عام 1928م أنجبت له زوجته سعدية بنت الأمين طفلها الأول الذي أطلقت عليه اسم محجوب؛ ليكبر ذلك الطفل ويترعرع ويقضي كل سنين حياته في منطقة الخرطوم بحري. ومنذ سنوات الأستاذ محجوب الأولى في الحياة كانت التحديات تقف في طريقه دون أن ينحني أو يحيد أو ينكص، وظل يمضي في طريقه دون توقف، فارق والده الحياة باكراً تاركاً محجوب وإخوته الأربعة، وتمضي الأيام وتتعاقب السنوات دون أن يعلم أحد ما تخفيه، إلا أن العام 1940 بالتحديد حمل له الكثير وشكل نقطة تحول في حياة الأستاذ الطالب وقتها في المرحلة الوسطى عندما كتب أول مقال صحافي له في صفحة الطلاب بجريدة السودان بعد أن اختارته الصحيفة للمشاركة في تحريرها وهو في ربيع عمر الثاني عشر، ويقول الأستاذعن تلك الواقعة: انتقدت نظار المدارس في ذلك الوقت، وكان رد الفعل أن جلدني مديرالمدرسة (40) جلدة، ومنذ ذلك الوقت استمر جلدي حتى الآن، وبعد تسعة أعوام انتظره عقاب آخر وهو فصله مع أربعة آخرين من كلية غردون (جامعة الخرطوم لاحقا) بسبب تنظيمهم وخروجهم في مظاهرة ضد الحكم البريطاني، حينها كان الاستاذ ضمن طلاب الدفعة الأولى بكلية الآداب يحضر لنيل درجة البكالوريوس في جامعة لندن، ويشغل منصب سكرتير اتحاد الطلاب، غادرالأستاذ قاعات الدرس الجامعي بعد تلك الحادثة دون أن تغادره روح  المثابرة والبحث عن الحرية والديمقراطية ونصرة المظلومين؛ ليلتحق في ذات العام بالعمل الصحافي متنقلا بين فنونه المختلفة، ومع كل ذلك ظل ارتباطه بالصحافة ارتباط رأي، بسبب نهج الصحافة السودانية في تلك الفترة ونشأتها الهادفة للتصدي لقضية التحرر الوطني وحض الناس على العمل من أجل نيل حريتهم، وهو ما ذكره ضمن وصفه لتلك الفترة رغم الخط التحريري القائم على الخبر في صحيفة (سودان ستاندرد الانجليزية) التي كانت أولى محطاته، وهو ما سيدفع بالأستاذ ورفيقي دربه بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان بعد أربع سنوات من عمله في الصحيفة الإنجليزية (سودان ستاندرد) التي تمزج بين الرأي والخبر، لإصدار صحيفة الأيام في العام 1953م، والتي شغل منصب رئيس تحريرها حتى اخر يوم في حياته، مجسدا حالة نادرة من الصمود والجسارة والتصميم، ولا شك أن المتمعن والناظر بعمق لشخصية الأستاذ يجد فيها جملة زوايا للتأمل ولن يجد غير الوقوف بشموخ وصلابة وعدم الانحناء، فبعد فصله من جامعة الخرطوم خرج من الجامعة وأسس مدرسة صحفية أصبحت اليوم جامعة خرجت الأجيال اسمها الأيام (الكاتب أحد خريجيها)، وهو ما تؤكده حالة الاعتزاز بين كافة الصحافيين السودانيين ومحاولة إظهار انتمائهم إلى صحيفة الأيام بشكل مستمر، فالرجل له وزن في كافة الأوساط السودانية، فهو لا يحدثك مطلقاً عن نفسه ولا يزهو بما أنجز مهما عظم، فطوال بحث السودانيين عن صيغة منجية لوطنهم كان الأستاذ حاضراً بقوة ناصحا وموجها يقدم تجربته دون انتظار شكر يطرحها في الغرف المغلقة أن تطلب الأمر ويكتبها علانية للجميع في أغلب الأحيان تحت زاويته الصحفية الاشهر(أصوات وأصداء)، ويصفه مجايلوه بأنه شخص مؤدب لا يمكن أن تسمع له صوت أو تعرف له خصومة، ورغم اتسامه بالهدوء والوقار على المستوى الشخصي، إلا أنه كان طوال فترة عمله التي تجاوزت نصف قرن بمثابة عاصفة هوجاء في وجه كل من سعى للنيل من حرية الصحافة، وعليه فإن كل شعرة بيضاء في رأس هذا الصحافي الملقب بجدارة بـ(عميد الصحافة السودانية) واستاذ الاجيال تحكي رحلة الشقاء والمعاناة والصبر الطويل على نكد المهنة وظلم ذوي القربى في بلد مر منذ استقلاله وحتى الآن بأربعة نظم عسكرية تبارت في كبت حرية الصحافة، ورغم أن الأستاذ دفع ثمنا غاليا منذ بداياته وحتى رحيله لكنه كان دائما ما يخرج منتصرا مرفوع الرأس ويجد الاحترام من كافة الأطراف في البلاد، فعلى مدى أكثر من 50 عاما من العمل في المهنة واجه كل أشكال القيود والتحرشات بما في ذلك الرقابة والمصادرة والحظر والإغلاق والتأميم والترهيب والسجن. وكل هذا الكفاح والنضال والمدافعة الصحفية أقنعت الاتحاد العالمي للصحف في سول بمنحه جائزة القلم الذهبي الحر لعام 2005، وقال الاتحاد العالمي للصحف في افتتاح المؤتمر العالمي للصحف الثامن والخمسين الذي تم فيه منحه الجائزة، إن الاستاذ محجوب محمد صالح كافح من أجل الصحافة الحرة والمستقلة في بلده مدة زادت على 50 عاما.

حيث بدأ حياته الصحفية في عام 1949 حينما كان السودان يرزح تحت الاستعمار البريطاني، ثم أنشأ بعد ذلك صحيفة الأيام بمعاونة اثنين من زملائه  (بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان) في عام 1953وكانت الصحيفة تنتقد بشكل متواصل أوضاع حقوق الإنسان والحريات العامة في السودان. وإذا كانت جائزة القلم الذهبي قد توجت مسيرة الاستاذ في حصد الجوائز، فإنها لم تكن الوحيدة، حيث حصد جوائز من جهات ومؤسسات عالمية أخرى، ولكن أعزها على قلبه، كما قال أحد المقربين منه هي تلك الجائزة السودانية التي حصل عليها عام 2012، من جامعة الأحفاد وكانت دكتوراه فخرية، والاحفاد جامعة أهلية سودانية لها مكانة وطنية تاريخية، وإسهام أساسي في تعليم السودانيات، منذ وقت مبكر من القرن الماضي  وفي وطن غلبت على أهله حتى وقت قريب ثقافة الشفاهة، كان الاستاذ محجوب محمد صالح من رواد التفكير والتوثيق، حيث أصدرعدة كتب طوال مسيرته، تكشف مدى انخراطه في الهم الوطني السوداني، ومحاولة تقديم قضاياه الحرجة والملحة بمنظور وطني متقدم ومستقل وكانت هذه الكتب هي: تاريخ الصحافة السودانية التي أرخ فيها للصحافة السودانية ومعاركها، منذ بداية القرن، وكذلك أضواء على أهم قضايا السودان المركزية، وهي حرب الجنوب، وأيضا كتاب تحت عنوان مستقبل الديمقراطية في السودان، حيث استعرض التحديات التي تواجه معضلة التحول الديمقراطي في السودان، وبطبيعة الحال كان كتابه دراسات حول الدستور إدراكا رائدا منه حول مسألة تدشين عقد اجتماعي جديد في السودان وضروراته الدستورية. لقد قدم فقيد البلاد الكبير معارفه الموسوعية وخبراته التراكمية ليس فقط في في مجال الصحافة والإعلام بل في مختلف المجالات، وظل مرجعا يؤخذ منه الرأي والافادات والشهادات في كثير من القضايا الوطنية كما ظل مرجعا ومرشدا وهاديا لقيم وتقاليد وأخلاقيات المهنة.. وقد تجلت محبته وحفظ فضله من أهل الصحافة والمهتمين بمجالات العمل العام، في تلك المراسم التي انتظمت في العديد من دول العالم لتأبينه وامتدت لشهر كامل، في حدث لم يشهد تاريخ السودان المعاصر له مثيلا..  ألا رحم الله عميد الصحافة السودانية وأستاذ الاجيال محجوب محمد صالح، بأحسن مما قدم من عطاء، وبذل من مكارم، نسأل الله أن يجعلها في مثاقيل ميزانه الراجح يوم الجزاء الأوفى بإذن الله..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسومحيدر المكاشفي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الصحافة السودانیة محجوب محمد صالح صحیفة الأیام فی السودان وهو ما

إقرأ أيضاً:

شاهد بالصور والفيديو.. عروس فنان الثورة السودانية تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالتها الجميلة في ليلة زفافهما والجمهور: (صدق عريسها عندما وصفهها ببدر البدور)

اهتمت مواقع التواصل الاجتماعي السودانية, بتفاصيل حفل زفاف الفنان الشاب أحمد أمين, الذي أقيم بالعاصمة المصرية القاهرة, قبل أيام.

وبحسب رسد ومتابعة محرر موقع النيلين, فقد خطفت عروس المطرب أحمد أمين, الملقب بفنان الثورة السودانية, الأضواء بإطلالتها الجميلة في ليلة زفافهما.

عدد من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً فيسبوك, نشرت مقاطع فيديو من حفل الزفاف, ومن إستعدادات العروس لليلة العمر.

ووفقاً لمتابعات محرر موقع النيلين, لردود أفعال الجمهور خصوصاً الجنس اللطيف, فقد تغزل المتابعات في العروس وكتبت إحداهن: (صدق عريسها عندما وصفها ببدر البدور)

محمد عثمان _ النيلين

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/12 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة شاهد بالصور.. فنان الثورة السودانية يكمل مراسم زفافه بالقاهرة2025/12/12 روضة الحاج: يا بلادي أنا بالبابِ وفي كفي الأناشيدُ التي كنتِ تحبينَ2025/12/12 ???? توضيح من شيخ الأمين: أنا أصدق بقال وأجد نفسي معه في حيرة من هذا الجو المليء بالدسائس والأكاذيب والزيف2025/12/12 أرملة المذيع الراحل محمد محمود حسكا تصل القاهرة لتلقي العزاء وتوجه رسالة لكل من يطلبه دين أو أمانة (تصلك لحدي عندك) وتكشف عن مكان العزاء بمصر2025/12/11 شاهد بالصور والفيديو.. عشرات السودانيين بالقاهرة يشيعون المذيع الراحل محمد محمود لمثواه الأخير2025/12/11 شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل وتستعرض بجسمها في وصلة رقص فاضحة داخل منزلها2025/12/11شاهد أيضاً إغلاق رياضية شاهد بالفيديو.. لاعب المنتخب البحريني: (الجمهور السوداني فاكهة البطولة وأكثر من 20 ألف مشجع حرصوا على مساندة منتخبهم رغم مغادرته البطولة) 2025/12/11

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • بعد فيلم «الست».. نسمة محجوب تكشف لـ«الأسبوع» تفاصيل أغنيتها فى العام الجديد 2026
  • شاهد بالصور والفيديو.. عروس فنان الثورة السودانية تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالتها الجميلة في ليلة زفافهما والجمهور: (صدق عريسها عندما وصفهها ببدر البدور)
  • شاهد بالصور.. فنان الثورة السودانية يكمل مراسم زفافه بالقاهرة
  • مسيرة لقوات الدعم السريع تستهدف حي طيبة شرقي مدينة الأبيض السودانية
  • روضة الحاج: يا بلادي أنا بالبابِ وفي كفي الأناشيدُ التي كنتِ تحبينَ
  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • الفنان الشهير محمد النصري يلتحق بالقوات المسلحة السودانية
  • تعلن محكمة بني الحارث الابتدائية بأن على/ محمد صالح قائد الحضور إلى المحكمة
  • شاهد بالصورة.. حسناء جديدة تشعل المدرجات السودانية بالدوحة وساخرون: (طلعنا من الدمعة ظهرت لينا النظارة)
  • قدمت 12 أغنية فى الفيلم واعتمدنا علي تسجيلات حية للأغاني