"ضرب مبرح وصعق بالكهرباء".. شهادات قاسية لمعتقلي غزة في سجون الاحتلال
تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT
كشفت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ونادي الأسير الفلسطيني، اليوم الأربعاء، 12 مارس 2025، عن شهادات قاسية لمعتقلي قطاع غزة في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
وقالت في الإحاطة التي نشرتها اليوم، إن إدارة معتقلات الاحتلال تواصل فرض جرائم منظمة بحق المعتقلين ومنهم معتقلو غزة الذين يواجهون أبشع الظروف الاعتقالية.
وأضافت، لا يزال معسكر (سديه تيمان، ومعتقل النقب)، يتصدران المشهد من حيث مستوى التوحش الذي يمارس بحق معتقلي غزة، وذلك استنادا إلى إفادات جديدة، شملت عددا من معتقلي المعسكر والمعتقل المذكورين، إضافة إلى معتقل عوفر، التي تكشف عن المزيد من الظروف غير الآدمية التي يتعرض لها المعتقلون.
وتابعت، أن سياسة التعذيب التي تمارسها قوات الاحتلال أدت إلى استشهاد 4 معتقلين في غضون أيام خلال الفترة الماضية، وهم من بين عشرات الشهداء من غزة الذين ارتقوا منذ بدء العدوان.
ولا يزال الاحتلال يفرض جريمة الإخفاء القسري على المئات من معتقلي غزة، علما أن العدد الحديث الذي أعلنت عنه إدارة معتقلات الاحتلال، لما تصنفهم بالمقاتلين غير الشرعيين، بلغ حتى بداية شهر آذار/ مارس الجاري (1555).
في النقب معتقلون يقضون حاجاتهم في وعاء
في شهادات لمعتقلين من غزة جرت زيارتهم في معتقل "النقب"، أكدوا أنهم محتجزون في أقسام لا تتوفر فيها مراحيض لقضاء حاجاتهم، ما يضطرهم إلى استخدام "وعاء" في وضع مذل ومهين، ولا تزال الأمراض الجلدية وتحديدا مرض (الجرب- السكايبوس) تخيم على الأوضاع الصحية للمعتقلين، بسبب انعدام ظروف النظافة داخل الأقسام، وشح الملابس بشكل كبير، وعدم توفر العلاج المناسب لهم، وللمرضى منهم.
ففي شهادة للمعتقل (ج. و): "ما زلت أعاني من مرض الجرب، ومن وجود دمامل في جسدي، كما أنني تعرضت للضرب المبرح أثناء نقلي المتكرر، وأعاني جراء ذلك من كسر في أحد أسناني، ما يسبب لي آلاما صعبة ومتواصلة، كما لم أعد أسمع بأذني اليسرى بشكل جيد، بعدما صبوا الماء فيها بطريقة مؤذية". وقال: "إن المعتقلين يعانون من مجاعة، ولا يقدم لهم إلا القليل من الطعام، بما يساوي ربع وجبة لكل معتقل، وهي غير صالحة للأكل، ويجمع المعتقلون الطعام المقدم لهم على مدار اليوم ويتناولونه كوجبة إفطار في المساء، كما تُفرض عليهم إجراءات منها: التفتيشات المتكررة، والشتائم على مدار الوقت، وتقييد الأيدي للخلف، وإجبارهم على الركوع أثناء ما يسمى (بالعدد -الفحص الأمني).
وفي شهادته، أكد المعتقل (س. ع): "أن الأوضاع صعبة نتيجة الأمراض الجلدية المنتشرة في القسم، وهناك حالة من الخوف والرعب يعيشها المعتقلون، فالظروف أشبه بالجحيم، والإهانات متواصلة، وسياسة الإذلال والتجويع والحرمان تخيم على الحياة الاعتقالية.
ويتابع: "اعتُقلتُ من مستشفى الشفاء، وتم نقلي إلى معتقل النقب بعد 97 يوما من احتجازي في معسكرات قريبة من غزة، وكذلك بعد 30 يوما في عوفر، حيث تم التحقيق معي ميدانيا، وتعرضت للضرب المبرح، ما أدى إلى إصابتي بجرح عميق في الرأس، وكسور في الأضلاع، وخلال فترة اعتقالي الأولى تعرضت لتحقيق قاسٍ استمر لمدة 30 يوما، وكان من ضمنه تحقيق (الديسكو)- وهو التحقيق الذي يعتمد على وضع المعتقل وسط موسيقى صاخبة وعالية جدا-، حيث تعرضت له لأكثر من 7 مرات، مترافقا مع عمليات ضرب متواصلة وحرمان من الطعام والاستحمام.
ويضيف: بعد نقلي إلى النقب، تعرضت مجددا للتحقيق، ومن شدة التعذيب والضرب، فقدت الوعي عدة مرات، ما دفعني إلى الاعتراف بأمور غير صحيحة.
وعن معسكر (سديه تيمان)، فمن خلال زيارة عدد من المعتقلين فيه، فإن الفظائع وعمليات التعذيب والتنكيل لا تزال تخيم على الحياة الاعتقالية للمعتقلين.
ويروي المعتقل (ك.ي) في شهادته حول الأوضاع هناك: "نتعرض بشكل متكرر وشبه يومي للقمع، وإلقاء قنابل الصوت والغاز داخل (البركسات)، وذلك بعد أن يجبرونا على الاستلقاء على البطن، ويبقونا هكذا لوقت طويل، ويتعمد السجانون عند نقلنا إلى التحقيق أو لإجراء مقابلة، الصراخ علينا والاعتداء بالضرب بشكل مستمر، وإيقاعنا بشكل متكرر أثناء المشي، مع العلم أنهم ينقلوننا ونحن معصوبو الأعين ومقيدو الأيدي.
ويوجد (ك. ي) في (بركس) محتجز فيه أكثر من 55 معتقلا، وبحسب قوله، "نحن نخضع لمزاجية الجنود في التعامل وعمليات التعذيب والإذلال، أحيانا يتم السماح لنا بالمشي، لكن غالبية الوقت نبقى جالسين على حديد الأسرّة، كل معتقلين اثنين على سرير، ولا يُسمح لنا بالحديث، ومن لا يلتزم يعاقبونه بالشبح لساعات بجانب (السلك) -المنطقة المخصصة للشبح في (البركس).
ويقول إنه نتيجة لظرف العزل الجماعية وانقطاع التواصل مع العالم الخارجي، فإن أحد المعتقلين اعتقد طيلة فترة اعتقاله أن طفلته استُشهدت في العدوان على غزة، ليكتشف لاحقا من خلال المحامين أنها على قيد الحياة".
ويقول المعتقل (م.ي): "يوم اعتقالي اعتقلوا ما يقارب 40 رجلا، وقاموا بتعريتهم بالكامل وألبسوهم لباسا أبيض، وطوال هذه الفترة تعرضنا للضرب المبرح بشكل متكرر بالعصي و(البساطير) ولم يستثنوا أحداً، ما أدى إلى إصابة العديد منهم، وكنت من بينهم، إذ أُصبت بنزيف في الأنف لفترة طويلة دون تقديم أي علاج لي، وبعد نحو 24 ساعة جرى نقلنا إلى معسكر (سديه تيمان)، حيث زودونا بلباس السجن، وحتى ذلك الوقت بقينا في اللباس الأبيض في ظل البرد القارس والضرب.
ويضيف: على مدار (14) يوما، بقيت معصوب العينين ومقيد اليدين، وتعرضتُ لتحقيق (الديسكو)، لمدة 12 ساعة، إذ بقيت في غرفة مغلقة مع موسيقى صاخبة جدا، وبعد أن أُنهكت من الصوت، حاولوا الضغط علي لتجنيدي والتعاون معهم، إلا أنني رفضت، بعد ذلك أخذوا كل بيانات عائلتي".
"الفورة" في "سديه تيمان" أداة للتعذيب
وبحسب إفادات المعتقلين، فقد أكدوا أن إدارة المعسكر حولت (الفورة) وهي فترة الخروج إلى ساحة المعسكر، إلى أداة للتعذيب والتنكيل والإذلال، يمنعون خلالها من الحديث فيما بينهم أو رفع رؤوسهم، ولا يسمعون سوى الشتائم، ومن يخالف أي أمر يتعرض للتعذيب والعقوبة.
وفي إفادته يشير المعتقل (د.ع): "اعتُقلتُ في ساعات الصباح، بعد أن صورني الجنود بالكاميرا، وأخبروني أنني لن أستطيع العبور باتجاه غزة، حيث بقيت هناك حتى ساعات العصر، وبعد ذلك نقلوني وآخرين عبر شاحنة إلى معسكر (سديه تيمان)، وفي الطريق تعرضنا للضرب المبرح، بشكل مركز على بطني ووجهي، وبقيت مقيدا ومعصوب العينين لمدة 12 يوما من يوم الاعتقال، وعند دخول المعسكر ألبسونا لباس المعتقل، وطوال الوقت كنت مجبرا على الجلوس على الركب بوضعيات مذلة وصعبة، وداخل (البركس) يتعمدون سحب الفرشات يوميا، ويمنعوننا من الاستلقاء طوال اليوم.
ويؤكد: "استمر ذلك لمدة 39 يوما، وقد تسنى لي تغيير ملابسي لأول مرة بعد 72 يوما، واستطعت حلق شعري مرة واحدة بعد 110 أيام على اعتقالي.
ضرب مبرح وصعق بالكهرباء وحرمان من الطعام والشراب
وأفاد المعتقل (ن.و): "في بداية اعتقالي كنت في (البركسات)، طوال الوقت مقيد اليدين ومعصوب العينين، كانوا يجبروننا على الجلوس على الركب، وبعد أربعة أيام نُقلتُ لمقابلة المخابرات، انتظرت يوما كاملا بقيت خلاله مقيدا ودون طعام ومياه، كما رفضوا توسيع القيود رغم ما تسببته لي من ألم".
ويشير: "لا أعلم في بداية اعتقالي في أي معسكر كنت، بسبب القيود والعصبة، وكنت أجلس على ركبتي والمكان بارد جدا ومكشوف للهواء، وبعد 21 يوما نُقلتُ إلى (سديه تيمان)، حيث تعرضت للضرب المبرح على صدري، وعلى إثرها شعرت بضيق في التنفس، كما تم صعقنا بالكهرباء، وضربنا بالأسلحة.
وفي إفادة للمعتقل (أ.ح): "عند اعتقالي تم أخذ الرجال إلى بناية مجاورة، بعد أن أمروهم بالتعري بشكل كامل، ثم انهالوا عليهم بالضرب المبرح، إلى جانب شتمهم ونعتهم بأسوأ الأوصاف، وبعد ساعتين تم نقلنا إلى شاحنة، ثم إلى مكان آخر بقينا فيه ليلة كاملة، رافقها ضرب مبرح وإهانات، كما تعمدوا وضع رؤوسنا في الماء، وكان هناك تهديدات مباشرة بقتلنا، كما أجبرونا على السجود على الأرض ونحن عراة في البرد القارس ومقيدو ومعصوبو الأعين.
ويتابع: عند نقلنا إلى (سديه تيمان)، تم عرضنا على طبيب إلا أنه تجاهل إصاباتنا، ونُقلنا لاحقا إلى (بركس)، وبقينا فيه لمدة 90 يوما، منها 20 يوما مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين.
عمليات قمع وضرب مبرح واستخدام لقنابل الصوت
وقال المعتقل (أ.ح): إن "إجراءات القمع تتكرر، فقبل نحو 20 يوما، اعتدوا علينا بقنابل الصوت، إحدى هذه القنابل انفجرت بجانبي، فأُصبتُ في قدمي وكتفي، ولم أتلق العلاج، رغم أنني عانيت من الآلام مطولاً، وهذه الاعتداءات تتكرر بشكل شبه يومي، ولم تتوقف في رمضان، فقبل السحور، اقتحموا (البركس)، وأجبرونا على النوم أرضا، واعتدوا علينا بالضرب، وشتمونا، وألقوا قنابل الصوت تجاهنا".
وفي إفادة المعتقل (ز.ل): قال "عند اعتقالي قيدوا يدي وعصبوني، ثم نقلونا إلى بناية، ومنها إلى منطقة مفتوحة في البرد والمطر الشديد، ثم لاحقاً إلى معسكر (سديه تيمان)، وكنا عراة تماما، وطوال الوقت كانوا يشتموننا ويصرخون علينا، وفي البداية تم وضعنا في (بركس) على شكل قوس لمدة 12 يوما، كنا أكثر من 70 معتقلا في حينه، وكان علينا الجلوس طوال الوقت مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين، حتى وقت قضاء الحاجة كانوا يُبقون القيود".
ولفت "أول مرة تسنى لي تبديل ملابسي بعد 50 يوما من اعتقالي، وكنت قد تعرضت قبلها لعملية قمع عنيفة، تم ضرب رأسي بالحائط، ما تسبب في إصابة في عيني، وما زالت آثارها واضحة، وهناك معتقلون جُرحوا وسالت دماؤهم نتيجة للاعتداء".
وجددت الهيئة والنادي، مطالبتهما للمنظومة الحقوقية الدولية، باتخاذ قرارات فاعلة لمحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي على جرائم الحرب التي يواصلون تنفيذها بحق شعبنا، وفرض عقوبات من شأنها أن تضع إسرائيل في عزلة دولية واضحة، وتعيد إلى المنظومة الحقوقية دورها الأساس الذي وُجدت من أجله، ووضع حد لحالة العجز المرعبة التي طالتها خلال حرب الإبادة، وإنهاء حالة الحصانة الاستثنائية التي منحها المجتمع الدولي للاحتلال باعتباره فوق المساءلة والحساب والعقاب.
المصدر : وكالة وفا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين الرئيس عباس يرد على تصريحات أولمرت بشأن "خارطة السلام" حماس تُعقّب على استئناف "الحوثيين" عملياتهم ضد السفن الإسرائيلية قناة: وفد مصري عربي إسلامي يزور واشنطن لبحث خطة إعمار غزة الأكثر قراءة الإدارة الأمريكية تجري مباحثات مباشرة مع حماس الكنيست يقر قانونًا لإغلاق الأطر الطلابية الأحمد : نرفض مشاريع التهجير طولكرم - الجيش الإسرائيلي يستقدم مدرعات عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025
المصدر: وكالة سوا الإخبارية
كلمات دلالية: للضرب المبرح سدیه تیمان نقلنا إلى ضرب مبرح بعد أن
إقرأ أيضاً:
من قبوه يكتب إليكم رجل الخيال.. المعتقل السياسي لطفي المرايحي يصدر كتابه الجديد
لماذا هذه حالنا؟ كتاب جديد للكاتب والسياسي والطبيب والمعتقل لطفي المرايحي والذي صدر بمناسبة معرض تونس الدولي للكتاب بعد أن افتتحه الرئيس قيس سعيد منذ أيام. وبدا الكتاب حفرا في أصول نكسة الثورة التونسية وبحثا في تراجيديات الإنسان التونسي ونشأة الانحطاط الذي لم يعد حادثة عابرة أو مرحلة، بل تحول إلى كائن حي يكبر ويتعاظم كوحش ملتهم كل ما هو جميل وذكي.
إنها رحلة تساؤل مر من مثقف وسياسي مطارد، يسجلها من مخبئه كما فعل ديستوفسكي من قبوه، يحاكم فيها الكاتب التاريخ واللحظة والشعب والنخب والذات دون شفقة. وتلك الشفقة التي اعتدنا تغميسها في الخوف، وذلك الخوف الذي أحدث كل هذا الظلم والفشل، فاستقام الاستبداد قدرا لأمة تنهض كل صباح وتهتف بإرادة الحياة دون أن تدركها أو تعيها. وهي ذاتها أمة الشابي الذي مات ساخطا عليها لأنها لم تسمع غناءه.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2منها بوليود.. اتهام الهند بارتكاب إبادة ثقافية ممنهجة بحق مسلمي كشميرlist 2 of 2غزة تُعلن رسميا "منطقة مجاعة" جراء الحصار الإسرائيليend of listوفي هذا المؤلف المؤلم، يفكك المرايحي أسباب الإخفاق التونسي المركب، ويذهب بنا بعيدا في التاريخ الحديث، منقبا ومستفسرا ومحللا، بحثا عن إجابة لسؤاله "لماذا صار هذا حالنا؟!" وفي رثاء العقلانية واستنهاضها، لا يخون الكاتب ولا يتهم أحدا بعينه، ولا يترك أحدا في سلام، فالكل شركاء في إنتاج هذه اللحظة الراهنة من الانحطاط الكلي. في خطاب فكري هو هذا المنجز، فاضحا أزمة الوعي والجهل المكدس وصناع الظلم والمستثمرين في الفقر وفقراء الخيال الذين قادوا مسيرة التخلف عوض قيادة مسيرة التطور والرقي.
إعلان وطن تحول إلى سجنكتاب المرايحي، الذي وصلنا مخطوطا من عائلته قبل النشر، هو ضد البلادة والسطحية التي غرق فيها المشهد التونسي بكل وجوهه (التعليم، السياسة، الإعلام، الثقافة، الاقتصاد، المجتمع المدني..) فلا يكتب السجين السياسي المرايحي كتابا ذاتيا يقدم فيه محنة شخصية، بل يطرح محنة أكبر، هي وطن تحول إلى سجن، بعد أن أضاع شعبه الطريق نحو حريته عندما أجهز على كل ما يجعل منه شعبا حيا ومريدا فعلا، وعندما تنازل عن التفكير بمصيره لحكامه، وانشغل بالخبز وحده، فصار حتى الخبز قاسيا وبدأ بتكسير أسنانه.
ولم يكن صاحب كتاب "الفرد الغائب في مشروع التحديث" حديث عهد بالنضال السياسي والفكري لتربكه ملاحقة أو اعتقال، فقد اختار منذ بدايته أن يكون في صف المستضعفين والحالمين وأرباب الخيال. ولذلك، ورغم انتقاده الشديد لمسار الثورة بعد 2011، إلا أنه لم يهلل لانقلاب 25 يوليو/تموز 2021، لأن أخطاء الديمقراطية لا يمكن إصلاحها بالتخلص منها وتغيير الاتجاه نحو الدكتاتورية القصوى.
ويرجع الكاتب كل ما حدث إلى أن المجتمع التونسي من المجتمعات التي "تفككت بناها التي كانت تقوم على الأسس العرقية والقبلية والعشائرية، ولم يحل محلها عقد جديد يربط الناس بعضهم ببعض ويجعلهم يثقون ببعضهم، فأصبحوا أفرادا متناثرين على رقعة جغرافية، متقوقعين على أسرهم، وكل ما زاد على ذلك غريب لا يأمنون جانبه".
وهذا الوضع الديستوبي للحظة ما بعد العشائرية وما قبل المواطنة، الذي ينتهي إليه المرايحي في تشخيصه للمجتمع، هو الذي جعل الحشود تصطف وراء أي شخص يدعوهم إلى الكسل ويعفيهم من الفعل ومن التفكير. فرفض الفرد الفاقد لعشيرته لفكرة المواطنة هو الذي جعل الاستبداد يعود بعد كل انتفاضة بصورة أكثر بشاعة من الاستبداد الذي انتفض عليه.
ولم يتخذ المرايحي، على عكس السياسيين التونسيين وخاصة المترشحين للرئاسة، نهج منافقة الشعب بمدحه وتعظيمه، بل ذهب إلى مصارحته تلك المصارحة المؤلمة باعتباره شريكا رئيسا فيما يعاني منه الآن، وألحقه بصنف من الشعوب التي تهرب من راهنها الصعب والهوى المتفتت نحو ملاذات أسوأ، كالسلفية، وتهرب من الارتباك الديمقراطي نحو الدكتاتورية، ومن الرجعية نحو الحداثة المزيفة.
إعلانوهكذا يتنقل المرايحي من فصل إلى آخر، طارحا موضوعا جديدا يطل من خلاله على الانحطاط، مرة من التخلي عن المواطنة وإنكار الديمقراطية، ومرة من قضايا الهوية بين الحداثة والمحافظة، ومرة من المسألة الدينية وطرق التعامل معها، ليتساءل عن النظام السياسي الأنسب وعن مفهوم الوطن اليوم.
فهذا كتاب "عقل محض" زمن الانفعال والشعبوية، لمثقف وطبيب يشخص في هدوء علل وطنه وشعبه منذ حلول الرجل المريض (الخلافة العثمانية) به إلى اليوم، ويقترح بين سطوره وصفات ممكنة ورحلة للتعافي.
ولم يغيّب الكاتب وجهه الروائي، فالكتاب يروي سردية جديدة لتونس والتونسيين، وينهيه بنص في التخييل الذاتي، كوميديا سوداء يروي فيها المرايحي قصة قرار منعه من الترشح للرئاسة، لينتصر للخيال باعتباره حاجة وضرورة لكل سياسي، فمن دونه لا شيء ممكنا غير الاستبداد.
ويغلق الكتاب على كلمة "يتبع.." في إشارة واضحة إلى إصراره على مواصلة النضال من أجل تونس أخرى، ذكية، تقطع مع الاستبداد والغباء، ولا يمكن للاعتقال أن يعتقل رجل الخيال.
إن قيمة هذا الكتاب، الصادر عن دار مسكلياني وبتقديم من المولدي قسومي وكلمة للغلاف للإعلامي والناقد عامر بوعزة، وظهوره في معرض تونس الدولي للكتاب، تتمثل في إصرار المجتمع المدني على مواصلة الإيمان بحرية التعبير وبالديمقراطية كحل وحيد للخروج من مأزق الاستبداد.
وهي إشارة ومساندة للمعتقلين جميعا في قضايا الرأي والسياسة بأن الفضاء العام في تونس لم يتخل عنهم، وأن صمت قسم من النخبة التونسية لا يمثل إلا أصحابه، وأن المجتمع المدني الذي يتظاهر بشبابه وشيبه في الشوارع لاسترداد المسار الديمقراطي ليس ظاهرة صوتية فقط بل فكرية وثقافية أيضا.
إعلانويقول قسومي في مقدمته "إننا أمام نص كتب في برهة سياسية غائمة من تاريخ تونس، جاءت بعد انفتاح الأفق الذي تشوف إليه جميع أبنائها، وتطلعوا من خلاله إلى الدخول في زمنية سياسية تمنحهم كل مقومات المواطنة، وتعبد أمامهم كل مسالك الحرية، إلا أنها انقلبت إلى حالة عصية على البلوغ جراء وثبة ارتجاعية شاهقة إلى ما وراء الوراء، الذي لا يمكن أن تجسده إلا حالة الدولة الأولية".
ويكتب بوعزة معززا هذه الفكرة "الكاتب هنا يعاين العلة كما يفعل الطبيب المتمرس، فيجد للتشخيص الذي بين يديه صدى في الماضي وفي تجارب الأمم. الجهل والتخلف والأنانية من صفات الانحطاط، ومقدمات للانهيار الوشيك، عندما يصبح الخلاص الفردي الملاذ المنشود".
ويتمدد كتاب الأسير المرايحي على جملة من الأسئلة منها: ما علاقة الديمقراطية بالنهضة؟ حقيقة أم خيال؟ الفردية والجماعية؟ حداثة أم محافظة؟ هل الدين عائق أمام التقدم؟ الديمقراطية الليبرالية أهي الحل؟ أي نظام سياسي؟ من العولمة إلى صراع الهوية، الوطن ما الوطن؟ هل السلطة تفقد صاحبها العقل؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.