نحـو نـقـد الانتـقـائيـة في النـظـر إلى الآخـر
تاريخ النشر: 26th, March 2025 GMT
مبْنى كـلُّ سياسـةٍ على رؤيـةٍ تؤسِّـس لها، كسياسة، وتُـبـرِّر الفـعـلَ والتّـصرُّف مـن قِـبَـل مَـن يأتيـه تُجـاه موضوعٍ أو جهـة. لا نقـيس، قياسـا دقيـقـاً، ثِـقْـلَ أيِّ سياسـةٍ أو مـوقِـفٍ بـميـزان الإيجـاب والسّـلب، المنفعة والمَضـرَّة إلاّ متى افْـتَـحَـصْـنا المـقـدِّمات التي أفضتْ إليه؛ أعني الرّؤيةَ التي تـمـثَّـلتِ الموضوعَ، ذهنـيّـاً، والتي اشتُـقَّ منها السُّـلوكُ السّياسيّ تجاه ذلك الموضوع؛ حيث لا سياسة ممكنة الوجود من دون نظرةٍ تحتـيّـة موجِّهة.
مناسبـةُ هذا القـول هي ما يـبدو على علاقات العـرب والغـرب - مجتمعاتٍ ودولاً- من ضروب الاضطراب والتّـأزّم وانعدام الثّـقة المتبادَلة، ولقد تصلُ هـذه إلى حـدودٍ عليا من التّـفاقُـم والاستفحال فـتُـلقي بذيولـها على توازن تلك العلاقات - أو قُـل، على استـقـرارها - آخـذةً إيّـاها نحـو التّـمظـهـر في صورةِ نـزاعاتٍ سياسيّـة لا تـنـتهي، وربّما إلى أحـوالٍ من الصّـدام والحروب: على مثال ما حصل، وما يـزال يحصل، منذ عـقـودٍ خلت. من المسلَّـم به أنّ جنوح علاقات الغـرب والعـرب لهذا النّـفـق الكالح يُـفْـصِح عن سياساتٍ - أحاديّـة أو متـبادَلة - تعاني حالاً من السُّوء واللاّعـقلانيّـة حادّة، مثلما هو يُـفصح عن عجْـزٍ ملحـوظ في إدارة تشابُـك خطوط المصالح وإحْـسَانِ فـكِّ ذلك الاشـتباك كـفّـاً للاحتكـاك المتبادَل، ولكنّ الذي لا مِـرْية فيه أنّ تـدهْـوُر العلاقات تلك ليس يُـعْـزَى إلى أسبـابٍ سياسيّـة حصراً، من نـوع ما ذكـرناه، ولا إلى أنّ مستوى النّـخب السّياسيّـة في العالَميْـن هـو، اليـوم، دون ما كانَـهُ بالأمـس، وإنّمـا هو تـدهْـوُرٌ يَـرُدُّ - في المـقام الأوّل - إلى خَلـلٍ في نظرة كـلٍّ من العالَميْن ونخـبِـهِـما إلى الآخَـر، معطـوفٍ على تَـنَـكُّـبٍ متبادَل عن تصحيح ما اعتـور ذلك النّظـر من قصـورٍ وانـزيـاح.
مـن النّافـل القـول إنّ لكـلِّ عـالَـمٍ من هـذيْـن العالَميْـن نظرتـيْـن عـن الآخَـر تـقـفان على طـرفيْ نـقيض: نظرة إيجابيّـة، موضوعيّـة إلى حـدّ، منـفـتحة ومتـفـهّـمة، تسعى إلى البحث عن مشـتَـرَكات يمكن البـناءُ عليها لتنميـة وشائـج الصّـلة وضمان ديمـومـة التّـواصل؛ في مقابـل نظـرةٍ سلبيّـة، خالية مـن كـلِّ إنـصافٍ، منـغلـقة وقـدحيّـة، ساعيـة إلى تظـهيـر الفواصـل والتّمايـزات. تـتـفاوت فـرصُ ظُـهـورِ نظـرةِ كـلٍّ منهـما على الأخرى بتـفاوُت الشّروط الموضوعيّـة والذّاتـيّـة (الجاذبة أو النابـذة) التي يقع فيها التّـعبـيرُ عنها، غير أنّ النّـظرة الثّانيـة (الإنكاريّـة) تظـلّ مهيمنـة في مجال التّـمثُّـلات المتبادَلـة وأدنى إلى ممارسة التّأثيـر على السّياسات (خاصّـةً عند الغـرب الغالب) وعلى السّـلوك الجمْعيّ تجاه الآخَـر في العالَميْـن معاً؛ مثـلما يبدو جمهورُها الاجتماعيّ والسّياسيّ
الحامـلُ لها، في الضّـفّـتيـن مـعاً، أوسعَ انتـشاراً وأعلى عقـائِـرَ من الجمهـور الضّيّـق المقابـل، لذلك تبدو أجواءُ العـلاقة بين العـرب والغـرب - دولاً ومجتـمعات - ملـبَّـدةً، في الغالب من أحوالها، ومزدحمةً بالأسباب والعوامل القـيـمنة بدهـورتها أكـثر فأكـثر. وبمقـدار ما تُـغـذّي هذه النّـظرة الإنكـاريّـة سياسات العـداء المتبادَل تـتـغذّى، هي نفسها، من التّـأزّم والانسـداد اللّـذيْن يُـنْـجِـبُـهما ذلك العـداء؛ وهكذا دواليك في دورةٍ لا تـنـتهي.
سيكون من العبـث وسوء التّـقـدير افـتراضُ إمكـانِ زوال هـذه النّـظرة الإنـكاريّـة بالتِّـلقاء، أي من دون مُجَـالـدةٍ ومغالَبـة تحاصرانها، ولا حتّى في الإمكـان التّـعويلُ على تصحيـح العلاقات البـينـيّـة نـفسَها بنفـسها. نعـم، ما مـن شـكٍّ في أنّ وازِع المصالح المتبادَلة بين العالَميْـن يفـرض كـبْـحاً متوالـياً لكـلّ نـزعـةٍ إلى الصّدام أو تـوتير الأجواء، لِـمَـا يُـلقـيه ذلك على تلك المصالح من ثـقيـلِ التّـبـعات، لكـنّ المصالح وحـدها لا تـكفي إنْ لم تكـن مسنودة برؤيـةٍ تصحيـحيّـة لكلّ ما تَـرَاكَـم، عـبر الزّمـن، من تـمـثُّـلاتٍ وصـورٍ نمطيّـة متبادَلـة تعيد (أي الرّؤيـة) النّـظر فيها ولو من طريـق بيان أسبابها الدّاعيّـة إليها في شـروطٍ بعيـنها. نـحـن نميّـز، هنـا، بين رؤيـةٍ تُصـحِّـح معطيـات النّـظرة السّلبيّـة المتبادَلة، من جهة، ورؤيـةٍ تسعى إلى محْـو تلك النّـظرة وإبطالها من الجهة المقابلة. فـلقد يبدو أنّ هـذه الأخيـرة ليست في حيّـز الإمكان؛ إذْ ما من سببٍ قـد يجعل مجتمعاً أو أمّـةً أو ثـقافـةً تتـخلّى عن تـمـثّلاتٍ عميقـةِ الجـذور في ذاكرتها ومخيالها وأن تكُـفّ عن إعـادة إنـتاجها في وعيـها الجمْـعيّ. غير أنّـه لا شيء يمنع من أن يـقـع الحـدُّ من كـثافـة مفعـول تلك الصّـور النّـمطيّـة في الوعـي الممارِس؛ أي في السّياسات. وغـنيٌّ عن البـيان أنّ الفـكـر وحـدهُ - ونُـخـبَـه - مَـن يَـقْـوى على ذينك الحـدّ والتّصحيـح وتزويد السّياسات والمؤسّسات بالرّؤى الخليقة بتبـديد مشاعر التّـهـيّـب المتبادَل وتصحيح العلاقات بين العالميْـن.
على أنّ المـدخل الأمـثـل إلى استراتيجيّـة التّصويب تلك مـدخـلٌ معـرفيّ في المقام الأوّل. لا نُـدْحـة للعرب والغـرب معاً عن الاعتـراف بأنّ كلاًّ منهما متـعـدِّدٌ وليس واحـديَّ السّـمْـت والطّـبيعـة، كـلٌّ منهما يُـضْـمِـر في داخلـه وجْـهـيْن: مضيء وظلاميّ، منفـتح ومنغلق، تفاعليّ وتـنابذيّ ولا يمكن، بالتّالي، بناءُ نظـرِ الواحـدِ منهما إلى الآخَـر على أساسِ بـعـدٍ واحـدٍ نمطيّ؛ لأنّ منتهى ذلك إلى الأغاليط في الإدراك، أمّا في السّياسة فـمنـتهاهُ إمّا إلى الخصومة الدّائمـة أو إلى السّذاجة السّياسيّة التي تكون ضحيّـة الإفـراط في إحسان الظّـنّ. مثـل هـذا الاعـتراف المتبادَل الذي ندعو إليه لا يمكـنه أن يكون سوى ثمرة لـعمليّـة تحريـر النّـظر إلى الآخَـر- غـرباً وعـرباً - من الانتـقائيّـة التي تسمح للوعي بأن يُـعْـرِض عـن النّـظر إلى الأشياء في كـلّـيّـتها وتـعـدُّد أبعادها، وأن يـركِّـز على وجْـهٍ بعيـنه ينتخبه من وجوهها، بما هـو وجْـهٌ معـبِّـرٌ عن الموضوع المنظور إليه، وأن يسعى بذلك إلى تـنميطـه! إنّ نـقـد النّـزعة الانـتـقائـيّـة هذه والنّـظر إلى الظّـواهـر في كـلّـيّـتها وتعـدُّدها هـو المـدخل المعرفيّ الصّحيح الذي يـفـتح أفـقاً أمام تصويب نظرة الغـرب إلى العـرب والعـرب إلى الغـرب وتحريرها من التّـنـميط المرذول.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العال می ـن إلى الآخ الس یاسی الآخ ـر
إقرأ أيضاً:
“دقائق في العالم الآخر”.. شهادة مفصلة لـ”عائدة” من الموت!
#سواليف
يروي العديد من العائدين من #الموت_السريري أحداثا متشابهة عن أحاسيسهم في هذه التجربة الفريدة مثل مشاهدتهم لأجسامهم على طاولة العمليات، وضوء في آخر نفق.
العلماء المتخصصون لا يستطيعون تفسير مثل هذا الأمر، لأن #الدماغ بعد وقت قصير من #السكتة_القلبية يتوقف تماما عن العمل، ويترتب على ذلك حالة الموت السريري. وفيما لا يرى العلم إمكانية لأي شخص بأن يشعر أو يدرك أي شيء، إلا أن البعض يخرج من هذه الحالة بتفاصيل مذهلة.
الموت السريري يُعرف بأنه فترة انتقالية قصيرة بين #الحياة و #الموت البيولوجي. وهي فترة لا تزيد في العادة عن خمس أو ست دقائق، يتوقف فيها القلب عن النبض والرئتان عن التنفس. بعض العائدين من الموت السريري يتحدثون عن مشاعر فرح لا تقارن ومشاهد لا مثيل لها في الحياة المألوفة.
مقالات ذات صلةمن بين الروايات العديدة عن العودة من الموت السريري، واحدة لامرأة اسمها آنا، تروي تفاصيل دقيقة بوضوح شديد رغم غرائبية المشهد واستثنائية الحالة.
تروي آنا رحلتها تلك قائلة: “حدثت وفاتي السريرية أثناء الحمل في 8 يناير 1989. حوالي الساعة 22: 00، بدأت أنزف بغزارة. لم يكن هناك ألم، فقط ضعف شديد وقشعريرة. أدركت أنني كنت أحتضر.. قاموا بتوصيلي أجهزة مختلفة في غرفة العمليات، وبدأ طبيب التخدير في قراءة مؤشراتها بصوت عال. سرعان ما بدأت في الاختناق، وسمعت الطبيب وهو يقول: (أفقد الاتصال بالمريضة، لا أستطيع أن أشعر بنبضها، أحتاج إلى إنقاذ الطفل). بدأت أصوات من حولي تتلاشى، ويلف الضباب وجوههم، ثم سقطت في الظلام”.
تتابع آنا سرد تجربتها قائلة: “وجدت نفسي مرة أخرى في غرفة العمليات. لكن أشعر الآن بخفة وبأنني في حالة جيدة. تدافع الأطباء حول جثة ملقاة على الطاولة. اقتربت منها. كنت أنا مستلقية هناك. صدمني انقسامي إلى اثنين. كان يمكنني حتى أن أطفو في الهواء. سبحت إلى النافذة. كان الظلام مهيمنا في الخارج، سيطرت عليّ حالة من الذعر، وشعرت بحاجة ماسة للفت انتباه الأطباء.
بدأت أصرخ بأنني تعافيت بالفعل وأنه لا يوجد شيء آخر يجب القيام به معي. لكنهم لم يروني ولم يسمعوني. لقد تعبت من التوتر وارتفعت إلى أعلى، وعلقت في الهواء”.
بعد ذلك “ظهر شعاع أبيض ساطع تحت السقف. وصل إليّ دون أن يعمي بصري أو يحرقني. أدركت أن الشعاع كان يدعوني إليه، ويعدني بالتحرر من العزلة. وبدون تفكير توجهت نحوه. تحركت على طول الشعاع، كما لو كنت في قمة جبل غير مرئي، وشعرت بالأمان التام. عندما وصلت إلى القمة، رأيت بلدا رائعا، وتناغما بين الألوان المشرقة والشفافة تقريبا في نفس الوقت تتلألأ حولي. من المستحيل وصفه بالكلمات. حدقت حولي، وكلّ ما حولي ملأني بإعجاب كبير حتى أني صرختُ: (يا إلهي، يا له من جمال! عليّ أن أكتبَ كلّ هذا). تغلبت علي رغبة ملحة في العودة إلى واقعي السابق وتصوير كل ما رأيته هنا في لوحات فنية”.
الرواية تتواصل راصدة تفاصيل الرحلة العجيبة التي لا تزيد مدتها عن 6 دقائق:
فيما كنت أفكر في هذا الأمر، وجدت نفسي في غرفة العمليات مرة أخرى. لكن هذه المرة نظرت إليها كأنني أنظر من الخارج، كأنني أمام شاشة سينما، ويبدو الفيلم باللونين الأبيض والأسود. لقد كان التباين مع المناظر الطبيعية الملونة في هذا البلد الرائع مذهلا، وقررت الانتقال إلى هناك مرة أخرى. لم ينته شعور السحر والإعجاب، ومن وقت لآخر كان السؤال يخطر ببالي: “هل أنا على قيد الحياة أم لا؟”، وكنت خائفة أيضا من أنني إذا مضيت بعيدا في هذا العالم المجهول، فلن تكون هناك عودة. وفي الوقت نفسه، لم أكن أرغب في مفارقة مثل هذه المعجزة.
كنت اقترب من سحابة ضخمة من الضباب الوردي، وأردت أن أكون بداخلها. ولكن الروح أوقفني محذرة: “لا تطيري إلى هناك، هذا خطير!”. فجأة شعرت بالقلق، شعرت بنوع من التهديد وقررت العودة إلى جسدي. ووجدت نفسي في نفق مظلم طويل. طرت منفردة، ولم تعد الروح المشرقة إلى جانبي.
فتحت عيني. رأيت الأطباء وغرفة بها أسرة. كنت مستلقية على إحداها. كان هناك أربعة أشخاص يرتدون أردية بيضاء يقفون بجانبي. رفعتُ رأسي وسألت: “أين أنا؟ وأين ذلك البلد الرائع؟
نظر الأطباء إلى بعضهم، ابتسم أحدهم ومسّد رأسي. شعرت بالخجل من سؤالي، لأنهم ربما ظنوا أن عقلي لس على ما يرام.
هكذا عشت تجربة الموت السريري والتواجد خارج جسدي. الآن أعلم أن أولئك الذين مروا بشيء مشابه ليسوا مرضى عقليين، بل أشخاص عاديون. ولم يبرزوا عن الآخرين، بل عادوا “من هناك” وقد عايشوا مشاعر وتجارب لا تتناسب مع المفاهيم والأفكار المقبولة في العموم. وأنا أعلم أيضا أنني اكتسبت خلال تلك الرحلة المزيد من المعرفة، وأدركت، واستوعبت أكثر مما اكتسبته في حياتي السابقة بأكملها.
تخلص آلا كينياكا، عالمة النفس والمتخصصة في الذاكرة العميقة إلى أن “مثل هذه الأوصاف هي مجرد فرضية، لا يمكننا تأكيد أو دحض هذه الكلمات، لكن قصص العائدين تتطابق مع ما هو مكتوب في الأطروحات القديمة… سيشير العلماء مرة أخرى إلى الهرمونات وبالطبع سيكونون على حق. لكن هذا لا يتعارض مع التجربة الروحية بأي شكل من الأشكال.”