بأيدي عارية، وبلا معدات، وبرفقة سيارات إسعاف شحيحة العدد شبه معطوبة بالكاد تستطيع العبور من الطرقات المدمرة التي تنبعث منها رائحة الموت ومن بين الركام، ومن أمام دبابات الاحتلال وجنوده المتوثبين لإطلاق النار دون سبب، والذين يتعمدون إغلاق الطريق بفوهات "الميركافا" وناقلات الجند التي تنبعث منها رائحة الموت والكراهية، يسابقون الزمن، فكل ثانية هي قصة تفصل بين الحياة أو الموت.



يخوضون معارك مع المستحيل لإنقاذ الأرواح بأدوات بدائية، يحفرون في المستحيل، لا توجد أية معدات ثقيلة تساعد في رفع الأنقاض أو الوصول إلى العالقين، يحفرون بأيديهم وأظافرهم لإنقاذ الأطفال والنساء، ومن هم تحت الركام والقصف الذي لا يهدأ.

مهنة خطرة وشاقة تختلط فيها مشاعر القلق والأمل بحيث تتماهي تماما في مخيلة من يقوم بها.
لم يُسمح بدخول أي من المعدات الثقيلة منذ بدء العدوان، رغم ذلك، لا تتوقف طواقم الدفاع المدني والإسعاف عن العمل،  فقط  23 سيارة إسعاف من أصل 53 تعمل وذلك بعد توقف إمدادات الإغاثة إلى غزة، بما في ذلك الوقود في أوائل آذار/ مارس الماضي.

مشاعر متباينة، القلق من المصير المجهول، والأمل بالعثور على من هم تحت الركام أحياء، أمل يتجدد وينبعث من جديد، كلما ظهرت علامة تدل على وجود أحدهم لا يزال يتنفس وفيه بعضا من الحياة، و يركض الجميع باتجاه الصوت والأنفاس المتقطعة.


ويكون القلق مضاعفا، والأمل حلم يبدو بعيد المنال، حين يتعلق الأمر في رحلة البحث عن رفقاء وزملاء سيارة الإسعاف.

مهمة شاقة تحمل في ثناياها مخاطر كبيرة، ومنذ اللحظة الأولى للعمل في مجال الإسعاف، يعرف الجميع أن التحدي كبير، كل يوم يحمل معه الأسوأ، وليس ثمة ما هو أسوأ وأكثر ألما للروح والقلب في حرب الإبادة الوحشية التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة من رؤية رفقاء المهنة من بين الشهداء والجرحى.

مشهد تكرر عشرات المرات مع رجال الإسعاف في قطاع غزة الذين ارتقى منهم عدة شهداء، و فقدوا زملاء كثر خلال شهور الحرب الطويلة.

أكثر من 35 مسعفا من الهلال الأحمر ارتقوا أثناء تأديتهم لواجبهم الإنساني بقطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. حيث يواصل الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي وأوروبي وصمت عربي وإسلامي مطبق، عدوانه المستمر على غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، في حملة وصفت بالإبادة الجماعية، وأدت حتى الآن إلى أكثر من 164 ألفا بين شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى أكثر من 14 ألف مفقود.

وكان الهجوم الوحشي والبربري الذي تعرضت له قافلة سيارات إسعاف الهلال الأحمر الفلسطيني وسيارة تابعة للأمم المتحدة وشاحنة إطفاء من الدفاع المدني في غزة لإطلاق نار قبل فجر يوم 23  آذار /مارس الماضي في منطقة تل السلطان، الأكثر بشاعة وشجبا على مستوى العالم، والذي أسقط السرد الإسرائيلي بشكل كامل، حيث زعم الاحتلال في البداية إن قواته فتحت النار على قافلة المركبات بعد أن اقتربت "بشكل مريب" في الظلام بدون مصابيح أمامية أو أضواء مضاءة، وأنه لم يتم تنسيق حركة المركبات أو الاتفاق عليها مسبقا مع الجيش.

ولم تدم هذه الكذبة التي هي جزء من سلسلة طويلة من الأكاذيب الإسرائيلية الخادعة والماكرة طويلا فيما أظهرت لقطات مصورة بهاتف محمول، كشفت عنها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية لاحقا، أن مركبات الإسعاف التي تعرضت لإطلاق نار في قطاع غزة من قبل الجيش الإسرائيلي كانت تحمل علامات واضحة وأضواء إشارة الطوارئ الخاصة بهم، عندما أطلقت القوات الإسرائيلية النار عليهم.


ونشرت الصحيفة مقطعا مصورا وجد على هاتف محمول لمسعف عثر عليه مع 14 من عمال الإغاثة الآخرين في مقبرة جماعية في غزة، يُظهر 2 من المسعفين على الأقل يرتديان الزي الرسمي، ويخرجان من شاحنة إطفاء وسيارة إسعاف تحمل شعار الهلال الأحمر ويقتربان من سيارة إسعاف التي خرجت عن مسارها إلى أحد الجوانب، ثم سمعت أصوات إطلاق نار كثيف.

وزعم المسؤول في الجيش الإسرائيلي إن "الجنود دفنوا جثث العمال الخمسة عشر المقتولين في الرمال لحمايتها من الحيوانات البرية، مدعيا أن "المركبات تم نقلها ودفنها في اليوم التالي لفتح الطريق".

ولم يتم الكشف عن هذه المقابر إلا بعد أسبوع من الحادثة، وذلك لأن الوكالات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، لم تتمكن من تنظيم مرور آمن إلى المنطقة أو تحديد موقعها.

وعندما عثر فريق الإنقاذ على جثث الشهداء، عثر أيضا على الهاتف المحمول الخاص برجل الإسعاف الذي يحتوي على لقطات للحادث.

في مقطع الفيديو الذي نشرته "نيويورك تايمز" نطق المسعف الذي صور المقطع بالشهادة بصوت مرتجف دون توقف "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

وقال "سامحونا يا شباب. يا أمي سامحيني لأنني اخترت هذا الطريق، أن أساعد الناس".

وأضاف "يارب تقبلنا، نتوب إليك ونستغفرك. تقبلني شهيدا، الله أكبر". واتقى من ساعته.

لدى العثور عليهم، كان المسعفون لا يزالون يرتدون زيهم الرسمي، ويضعون القفازات، وسط مقبرة جماعية. بحسب مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في الأراضي الفلسطينية المحتلة جوناثان ويتال.

أخرجهم من تحت الركام زملاء لهم مما ضاعف من تعبهم الجسدي والنفسي وعرضهم لمواقف إنسانية قاسية جدا ومأساوية ستبقى عالقة في الذاكرة كأنها عذاب وأنين لا يتوقف.

هكذا يقول أحد المسعفين "لم أسمع صوت زميلي، سمعت صوت شهيق الموت".

وتكاد أن تكون لحظات فرح مشبعة بالأمل والترقب والطمأنينة حين يسمع المسعف رنين هاتف زميل كان معه، تدب فيه روح جديدة لأن رفيقا له ما زال على قيد الحياة. وقد اعتد سماع  أصوات أشخاص يصرخون من الخوف.

كل لحظة انفجار أو رنين هاتف يطلب النجدة هو حالة من الانشطار الذاتي بين الأمل والخوف، ورغم كل ذلك فإن رؤية طفل صغير يخرج من الركام حيا وسليما ينسى المسعف تعبه ويرفع من شحنات اليقين والإيمان إلى أقصى درجاتها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة عربية الاحتلال غزة فلسطيني المسعفون فلسطين غزة الاحتلال المسعفون انقاذ الارواح المزيد في سياسة سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة غزة من

إقرأ أيضاً:

العم يلقي سلاحه وينتظر رد أنقرة (بورتريه)

وجهان يمثلانه فهو  "رمز للصمود" لدى كثير من الأكراد، فيما تعتبره تركيا "إرهابيا يهدد أمنها القومي".

من سجنه الانفرادي في جزيرة إمرالي، وجه رسالة مصورة أعلن فيها نهاية الكفاح المسلح ضد تركيا.

خطوة وصفت بالتاريخية في تركيا تنهي مرحلة دموية من الصراع بين تركيا وحزب "العمال الكردستاني" استمرت لأربعة عقود، وخلفت أكثر من 45 ألف قتيلا.

عرف عبد الله أوجلان باسم "آبو"، تعني "العم" بالكردية، وهو من مواليد قرية عمرلي في شانلي أورفة جنوبي تركيا على الحدود السورية عام 1948.

 التحق بالثانوية المهنية بمدرسة "الأناضول للسجل العقاري" في أنقرة عام 1966 حيث بدأ يتعرف على الفكر الاشتراكي.

وبدأ العمل في مصلحة المساحة في ديار بكر، ثم انتقل إلى إسطنبول حيث التحق بكلية الحقوق في جامعة اسطنبول عام 1971، وحول تخصصه في نفس العام إلى كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة.

بدأ نشاطه السياسي عضوا في شعبة "جمعية ثوار الثقافة الشرقية" في إسطنبول عام 1970. واهتم في عام 1971 عندما كان في أنقرة بمنظمة "جمعية الحقوق التركية" وألقي القبض عليه في عام  1972 عندما كان يوزع منشورات لصالح "مجموعة الفجر".

 وفي عام 1975 أسس "جمعية التعلم الديمقراطي العالي" في أنقرة وانتقلت الجمعية إلى جنوب شرق الأناضول خلال فترة قصيرة وبدأت نشر الدعوة بين الشباب الموجودين في المنطقة.


أسس في ديار بكر في عام 1978 منظمة باسم "حزب العمال الكردستاني" تعمل على جزء من أراضي تركيا وإيران والعراق وسوريا بهدف تأسيس دولة كردية مستقلة تعتمد مبادئ الماركسية اللينينية في المنطقة المسماة "كردستان"، والتي أدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في قوائمها للمنظمات الإرهابية بعد ذلك.

وبعد انقلاب عام 1980 في تركيا الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين وأطاح بحكومة سليمان دميريل، قتل 60 من رؤساء المنظمة وقبض على الكثير منهم، وتراجعت قوة الحزب وانسحب أوجلان إلى سوريا بعد قراره أن البقاء داخل حدود تركيا سيكون خطرا، ومن هنا بدأ في إدارة المنظمة.

أقام أوجلان معسكرات تدريب لمقاتلي حزبه في سهل البقاع اللبناني، الذي كان خاضعا آنذاك للسيطرة السورية، واستمر في نشاطاته السياسية والعسكرية ضد تركيا استعداد لمرحلة "الكفاح المسلح"، التي أعلن عنها " العمال الكردستاني" في عام 1984.

استفاد عبد الله أوجلان من توتر العلاقات بين أنقرة ودمشق في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، بسبب قضية تقاسم مياه نهر الفرات ومسألة تطور العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال. وفي المقابل استخدمت سوريا أوجلان وحزبه وسيلة ضغط ضد تركيا.

بلغت الأزمة ذروتها وكادت أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية بين البلدين، إلى أن تم التوصل إلى "اتفاق أضنة" في عام 1998 والذي نص على التزامات سورية تتعلق بأوجلان و" العمال الكردستاني".

ونتيجة للضغوط التركية على دمشق غادر سوريا في عام 1998 ومنها إلى روسيا ومن هناك إلى إيطاليا، اعتقل أوجلان في مطار ليوناردو دا فينشي واعتبرته إيطاليا شخصا "غير مرغوب فيه"، فعاد إلى روسيا ثم نقل بعدها إلى طاجيكستان، حيث احتجز مدة أسبوع، قبل أن يعود إلى موسكو مجددا.

وفي عام 1999 توجه إلى أثينا، ثم نقل إلى جزيرة "كورفو" اليونانية، قبل سفره إلى جنوب أفريقيا كما وعدته بذلك السلطات اليونانية، إلا أن الرياح قادته إلى السفارة اليونانية بالعاصمة الكينية نيروبي.

أخرجت الشرطة الكينية أوجلان من السفارة اليونانية، وبينما كان في طريقه إلى مطار نيروبي نحو وجهة خارجية يرجح أنها كانت أمستردام، تمكنت المخابرات التركية من اعتقاله، ونقله إلى تركيا بواسطة طائرة كينية خاصة، تم استئجارها لهذا الغرض.

 وبعد وصوله إلى تركيا وضع في سجن خاص في جزيرة امرالي واعترف بتأسيسه لحزب "العمال الكردستاني" وبإدارته للمنظمة وقيادتها واستمرارية نشاطاتها تحت قيادته إلى اللحظة التي تم فيها القبض عليه.

وحكم علي عبد الله أوجلان بالإعدام، ولم يتم إعدامه لأن عقوبة الإعدام كان قد تم وقفها لتصبح الأحكام في تركيا ملائمة لعضوية الاتحاد الأوروبي.


أطلق أوجلان أكثر من دعوة إلى وقف إطلاق النار، وبدأ ذلك في عام 2006 ضمن مسعى للمصالحة مع تركيا. في هذه الدعوة، طلب أوجلان من حزبه عدم استخدام السلاح إلا في الدفاع عن النفس، وركز على ضرورة إنشاء علاقات جيدة مع الشعب الكردي التركي والحكومة التركية، وفي عام 2013 دعا أوجلان مقاتلي حزبه إلى وقف إطلاق النار ضد الحكومة التركية وسحب مقاتليه من تركيا إلى شمال العراق.

في الفيديو الذي أرسله قبل أيام أعلن أوجلان، نهاية حقبة الكفاح المسلح والانتقال إلى العمل السياسي، معتبرا أن السلاح لم يعد له مبرر، وأن الحزب حقق هدفه الأساسي، وهو وضع القضية الكردية على طريق الحل.

وقال إن الحزب أنهى أجندته الانفصالية، واصفا هذا التحول بأنه "فوز تاريخي"، معتبرا، أن هذه الخطوة "بادرة حسن نية" يجب البناء عليها لتحقيق سلام دائم.

وفي تطور آخر، وعلى وقع هذا الإعلان قال الحزب إن مقاتليه في شمال العراق سيبدؤون تسليم أسلحتهم، وبالفعل، أقيمت الجمعة أولى مراسم نزع السلاح في شمال العراق، حيث يتمركز معظم مقاتلي الحزب منذ سنوات.

فيما التقى قائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي الرئيس السوري أحمد الشرع  لإجراء محادثات بشأن استكمال اتفاق آذار/ مارس الماضي  حيث أعلن عن  توقيع اتفاق يقضي باندماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن مؤسسات الدولة، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم.

الخطوة العملية الواحدة التي يجري الحديث عنها، وهي تشكيل لجنة برلمانية في تركيا للإشراف على عملية الحل، وقد بدأت التحركات بهذا الاتجاه فعلا.

لكن هذا الحل قد لا يبدو الحل النهائي للمسألة الكردية، فثمة التزامات يقتضيها هذا الحال، من بينها الاعتراف بحقوق الأكراد بشكل واضح، وحسم مصير عناصر حزب "العمال الكردستاني" كيف سيتم التعامل معهم قانونيا؟ وما هو مصير نحو 5000 معتقل من عناصر الحزب، الذي أعلن عن حل نفسه؟

هل تدخل تركيا في مرحلة جديدة من التعديلات الدستورية تشمل ضمان الحقوق السياسية والثقافية للأكراد، وهي مرحلة لن تكون سهلة في ظل معارضة الأحزاب القومية للعملية السياسية، إضافة إلى التحفظات التي يعبر عنها حزب "الشعب الجمهوري" أكبر أحزاب المعارضة.

أوجلان علق الجرس وألقى عصاه، في انتظار أن تتلقفها أنقرة وتقدم من طرفها مشروعا سياسيا يغلق ملف "الدولة الكردية" بشكل نهائي.

مقالات مشابهة

  • سيروان الكوردي.. صانع النواعير الذي أعاد الحياة لسمفونية الفرات (صور)
  • العم يلقي سلاحه وينتظر رد أنقرة (بورتريه)
  • صراع عمالقة آبل: هذا هو الفارق الذي قد يفصل بين iPhone 17 Pro وPro Max
  • عاجل| مصادر للجزيرة: خريطة إعادة التموضع التي عرضها الوفد الإسرائيلي في المفاوضات تبقي كل مدينة رفح تحت الاحتلال
  • في ذكرى رحيله.. عمر الشريف النجم الذي عبر حدود السينما إلى قلوب العالم (تقرير)
  • ما الذي يحرك الطلب على المشاريع العقارية التي تحمل توقيع المشاهير؟
  • الهلال الأحمر يعلن عن القائمة النهائية للمرشحين لوظائف الإسعاف وطب الطوارئ
  • الخارجية والحرس الوطني ينفّذان مهمة إسعاف جوي
  • الإمارات.. «الخارجية» و«الحرس الوطني» ينفذان مهمة إسعاف جوي لمصابة في الكويت
  • قائد أنصار الله: كل شركات النقل البحري التي تتحرك لصالح العدو الإسرائيلي ستعامل بالحزم