النخب السودانية والشيطان المعرفي: قراءة في رؤية أبو القاسم حاج حمد
تاريخ النشر: 13th, April 2025 GMT
تمثّل مقولة الفيلسوف والمفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد: "النخب السودانية جاءت إلى السلطة بعد خروج الإنجليزية منهكة"، مدخلًا نقديًا لفهم أزمة الدولة الوطنية في السودان بعد الاستقلال. فهي لا تكتفي بتوصيف الحدث السياسي، بل تُسائل البنية المعرفية التي بُنيت عليها هذه الدولة، وتحفر عميقًا في تشريح النخبة السودانية وعلاقتها بالإرث الاستعماري.
أولًا: السياق التاريخي للانتقال المهزوز خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية مُنهكة، فبدأت بمنح الاستقلالات الشكلية لمستعمراتها، ومن بينها السودان. كانت اتفاقية 1953 بين مصر وبريطانيا لتقرير مصير السودان لحظة مفصلية، حيث تم إعداد المسرح لانتقال السلطة إلى نخب محلية، لكنها نخب تشكلت في حضن المستعمر وتبنت أدواته.
هذا الاستقلال لم يكن ثمرة ثورة شعبية أو مقاومة منظمة، بل نتيجة لتسوية دولية، جعلت من لحظة الاستقلال استمرارًا ناعمًا للهيمنة الاستعمارية.
ثانيًا: النخبة السودانية كوارثة معرفية للاستعمار غالبية النخب السودانية آنذاك كانت من خريجي المؤسسات التعليمية التي أنشأها الإنجليز، ككلية غوردون التذكارية، وتولوا مناصب بيروقراطية ضمن جهاز الدولة الاستعمارية. وعند تسلمهم مقاليد السلطة، لم يُحدثوا قطيعة معرفية أو بنيوية مع تلك المنظومة، بل حافظوا عليها واستنسخوها.
في هذا السياق، يمكن الحديث عن "الشيطان المعرفي" بوصفه التشوه أو الخداع المعرفي الذي جعل النخبة تتوهم أنها تقود مشروع استقلال، بينما كانت في الحقيقة تعيد إنتاج السيطرة ولكن بأدوات محلية.
ثالثًا: الاستلاب بين تقليد الحداثة والانكفاء على الماضي وقع السودان في فخ استقطاب مزدوج:
• نخبة تبنت الحداثة الغربية شكلًا لا مضمونًا.
• ونخبة أخرى انكفأت إلى الطائفية والجهوية والماضوية.
كلا المسارين لم يُنتج مشروعًا وطنيًا عقلانيًا جامعًا، بل عززا من التجزئة الاجتماعية والسياسية. كانت النتيجة دولة مركزية عاجزة عن الاستيعاب، وهامش يغلي بالغضب.
رابعًا: الميراث الاستعماري في البيروقراطية والسيادة استمرت البيروقراطية البريطانية المركزية كما هي، دون تفكيك أو إصلاح، فأصبحت الدولة السودانية بعد الاستقلال جسدًا استعمارياً بروح وطنية مزعومة. وهو ما يفسر لماذا استمر التهميش الجغرافي، والتمييز العرقي، والاقتصاد الاستخراجي (مثل مشروع الجزيرة)، بدون مراجعة بنيوية.
خامسًا: أزمة الشرعية والصراع على الغنيمة بغياب شرعية تحررية حقيقية، تحولت السلطة إلى غنيمة، وجرى تقسيمها على أسس طائفية وجهوية. لم تكن هناك برامج وطنية، بل تحالفات قائمة على الولاءات الضيقة، مما مهّد لهيمنة المؤسسة العسكرية، وصعود الحركات المسلحة كردّ فعل على التهميش.
سادسًا: حاج حمد والنقد الجذري للحداثة الوهمية يرى أبو القاسم حاج حمد أن الحداثة التي تبنتها النخب لم تكن حداثة حقيقية، بل قشرة سطحية؛ تقليد للغرب دون امتلاك لروح الحداثة القائمة على العقلانية والعدالة والمعرفة الحرة. فكانت النتيجة استنساخ الدولة الاستعمارية بشعارات وطنية.
سابعًا: شيطان المعرفة... حين تُضلَّل النخب ذاتها "الشيطان المعرفي" هنا لا يعني فقط الجهل، بل هو وعي زائف يتلبّس النخبة ويجعلها تعيد إنتاج القهر باسم الاستقلال. فالدولة لم تكن عقلًا جماعيًا بل جهازًا تكنوقراطيًا بلا روح، والنخبة لم تكن طليعة للتغيير بل ظلًّا للنظام الذي خلَّفه المستعمر.
ثامنًا: هل ما زال هذا التشخيص صالحًا؟ نعم، فالحرب الحالية (بين الجيش والدعم السريع) ليست سوى نتاج مباشر لتاريخ النخب المعطوبة معرفيًا:
• المؤسسة العسكرية تمثل الامتداد الطبيعي لتقاليد السلطة الاستعمارية.
• قوات الدعم السريع تمثل الردّ المتأخر للهامش على منطق الإقصاء.
• التدخلات الخارجية ما كانت لتتعمق لولا غياب المشروع الوطني المستقل.
ما العمل؟ لا يكفي تغيير الوجوه أو استبدال النخب القديمة بأخرى جديدة من ذات المنظومة. المطلوب هو تفكيك الشيطان المعرفي الذي يسكن بنية التفكير السياسي والاجتماعي.
إن إعادة تأسيس الدولة السودانية ينبغي أن تنطلق من:
• عدالة جغرافية تُنهي التمركز حول الخرطوم.
• اقتصاد إنتاجي يحرر البلاد من التبعية.
• عقد اجتماعي يعترف بالتنوع ويوحد على أساس المواطنة.
كما قال حاج حمد: "المشكلة ليست في من يحكم، بل في طبيعة النظام الذي يَحكُم". ولكننا نضيف: "ولا في طبيعة النظام فقط، بل في المعرفة التي يُنتج بها النظام نفسه".
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: العودة للخرطوم ورسائل مفضل
أصدر مجلس الوزراء الانتقالي التعميم رقم (18) لسنة 2025 موجّهًا وزارات العدل، الزراعة والري، المعادن، الثروة الحيوانية والسمكية، البنى التحتية والنقل، التحول الرقمي والاتصالات، التربية والتعليم، التعليم العالي، الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية، الشؤون الدينية والأوقاف، والثقافة والإعلام والآثار والسياحة ببدء ترتيبات انتقالها من بورتسودان إلى الخرطوم.
وعلى الرغم من أن القرار يبدو إداريًا، إلا أنه لا يخلو من الدلالات السياسية فهذه الوزارات كانت تعمل في بورتسودان بطاقة محدودة ومهام محدودة ، وعودتها الآن تعني استدعاء كامل القوة العاملة للدولة مع توفير امكانات العمل واستعادة نبض الجهاز التنفيذي إلى مركز السلطة.
وفي الوقت نفسه، فإن انتقالها إلى مقار بديلة داخل الخرطوم، دون منطقة الوسط ، وفقا لتقديرات لجنة الفريق جابر التي تدرس إعادة تخطيط المنطقة المركزية لصناعة عاصمة حديثة. وهنا يكتسب القرار بعده الاستراتيجي: فالدولة لا تكتفي بالعودة إلى الخرطوم، بل تعود ربما وهي تعيد تعريف قلب العاصمة حيث الواقع الجديد ، في خطوة تجمع بين استعادة المؤسسات ، والشروع في هندسة شكل الدولة المقبلة.
عودة الحكومة الاتحادية إلى الخرطوم في ديسمبر الجاري تعيد رسم مركز السلطة في السودان بعد أكثر من عامين من التشتت القسري جراء تمرد مليشيا الدعم السريع . الخرطوم، التي شهدت خرابًا ممنهجًا وفقدت دورها كمسرح للقرار الوطني، تعود لتصبح رمزية الدولة ومرآة سلطتها على الأرض، في وقت ما تزال فيه التهديدات الأمنية والمخاطر السياسية قائمة.
هذا القرار ، إعادة تعريف العلاقة بين المركز والجهاز التنفيذي وإعادة ضبط الأداء المؤسسي على أساس يضمن استقرار العاصمة وقدرة الحكومة على فرض إرادتها لاسيما اننا مقبلون علي خطة للعام الجديد حملت الكثير من الاهداف والتحديات .
بالمقابل جات زيارة المدير العام لجهاز المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل بالأمس لولاية الخرطوم في هذا التوقيت في صميم هذه الاستراتيجية، فهي رسالة مزدوجة: داخليًا تحذر من نشاط المتعاونين مع الميليشيات والخلايا النائمة، وتؤكد أن العودة ليست لحظة انتصار فحسب، بل بداية إدارة دقيقة لما بعد الحرب، وخارجيًا تؤكد قدرة الدولة على التحكم في الخرطوم، وتثبيت وجودها السياسي والأمني قبل أي ترتيبات.
اختيار مفضل لهذا التوقيت ليس صدفة، فهو يتزامن مع القرار الخاص بنقل الوزارات لذلك يهدف إلى ضبط المشهد الداخلي والسيطرة على النسق الأمني والسياسي في العاصمة، وشارة ذكية لتأكيد أن كل تحرك حكومي يتم ضمن خطة واضحة ومنسقة مع كافة الأجهزة الأمنية.
حديث مفضل أيضًا اكد الأهمية الرمزية للأمن والمجتمع المدني والثقافة في تثبيت الدولة: رتق النسيج الاجتماعي، نبذ خطاب الكراهية، وضمان مشاركة مؤسسات الدولة مع المجتمع، كلها أدوات تجعل السلطة ليست مجرد قوة مادية، بل قوة معنوية تستطيع أن تعيد رسم المشهد الداخلي.
لذلك العودة تحمل رسائل واضحة للجبهة الداخلية : أن انتظار القرار لن يكون خيارًا، وأن الخرطوم ستكون مركز المبادرة القادمة ، وأن أي تحرك سياسي داخلي يجب أن يأخذ في الاعتبار طبيعة السلطة المعاد تأسيسها في العاصمة. فالخطر الحقيقي الآن لا يكمن فقط في بقايا الميليشيات، بل في الفراغ السياسي أو التشتت المؤسسي الذي قد يسمح للقوى الداخلية المتربصة أو الخارجية الطامعة بإعادة صياغة الواقع على حساب الدولة.
سياسيًا، القرار يعيد تشكيل القوة بين الدولة وشعبها ، ويؤكد أن الحكومة تتحرك وفق استراتيجية مركزية متدرجة: استعادة السيادة على العاصمة، إعادة ضبط الجهاز التنفيذي، ومزج الأداء الأمني مع العمل السياسي، ما يخلق قدرة أكبر على إدارة الأزمة واستشراف المرحلة المقبلة. هذه الإجراءات ترسل رسالة لكل القوى الإقليمية والدولية: الخرطوم قلب القرار الوطني، بعودتها يعود التوازن وتعود الإرادة الوطنية متماسكة .
العودة للخرطوم إذن ليست مجرد إعادة مقار وزارات او ضبط للأداء التنفيذي للحكومة ، بل إعادة بناء الدولة نفسها من داخل العاصمة، مع وضع جميع الأطراف القيادات العليا ، إداريين، أمنيّين، ومجتمعيين ،ضمن رؤية واضحة لتحقيق تماسك سياسي واستقرار استراتيجي.
بحسب #وجه_الحقيقة ، العودة تمثل تحركًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد: داخليًا تؤكد قدرة الدولة على إدارة السلطة وتنظيم المشهد السياسي، أمنيًا تعيد ضبط العاصمة ومواجهة التهديدات، وإقليميًا ترسل إشارات قوية بأن الحكومة ما تزال قادرة على المبادرة والتحكم بزمام الأمور. الخرطوم اليوم ليست مجرد مقر، بل منصة لإعادة تعريف السلطة والسيادة، وقلب أي استراتيجية وطنية أو تفاوضية محتملة ، وما قاله حديث مفضل يؤكد أن المرحلة المقبلة ستُدار بحذر، مع مزج السياسة والأمن والإدارة المؤسسية في بوتقة واحدة لضمان استمرار الدولة واستقرارها.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 9 ديسمبر 2025م [email protected]
Promotion Content
أعشاب ونباتات رجيم وأنظمة غذائية لحوم وأسماك
2025/12/09 فيسبوك X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة إسحق أحمد فضل الله يكتب: (يا أيها القبر… كم أنت حلو)2025/12/09 من ينطق2025/12/08 وجوه يجب أن تتقدم المشهد.. لماذا تتجاهل الدولة أصحاب الحجة؟2025/12/08 عائشة الماجدي تكتب ✍️ (يٌمه نحن الجيش)2025/12/08 الصين من الهامش إلي المركز2025/12/08 تحولات آلية دعاية تبرير الغزو2025/12/08شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات غياب الدولة وتمدد المليشيا… ا 2025/12/08الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن