عبد العزيز الحلو في لقائه مع قناة “الحدث”: خطاب بين الثورة والمأزق
تاريخ النشر: 16th, April 2025 GMT
في مقابلة مثيرة للجدل مع قناة "الحدث"، رسم عبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية – شمال، ملامح خطابه السياسي الراهن، الذي جاء مشبعًا بأفكار إعادة التأسيس، لكنه لم يخلُ من التناقضات والتحديات الكامنة. وقد تنقل الحلو بين قضايا تتصل بجوهر الدولة السودانية، وتاريخها الدموي، وتحالفاتها الراهنة، وملامح المستقبل الذي يطرحه، وهو ما يستدعي قراءة تحليلية متأنية لمضامين الخطاب ودلالاته.
وثيقة التأسيس: عقد اجتماعي جديد أم مظلة لتحالفات متناقضة؟
يبدأ الحلو بتقديم ما أسماه "وثيقة تأسيس السودان الجديد"، بوصفها عقدًا اجتماعيًا يهدف إلى إعادة تشكيل النظام السياسي. تقوم الوثيقة على ثلاث دعائم رئيسية:
فصل الدين عن الدولة (العلمانية).
توحيد الجيوش عبر دمج المليشيات في جيش قومي مهني.
تطبيق لا مركزية حقيقية تُنهي هيمنة المركز على الأطراف.
غير أن اللافت في الخطاب، هو محاولة الحلو ربط هذه المبادئ الثورية بالتحالف مع قوى ذات سجل دموي، مثل قوات الدعم السريع، التي اعتبرها جزءًا من "الهامش" الموقع على الوثيقة، ما يطرح تساؤلات حول مدى التزام الموقعين الحقيقي بهذه المبادئ.
إدانة الجيش وتبرئة نسبية للدعم السريع
في سرده للتاريخ الدموي للصراع السوداني، وجّه الحلو سهام النقد العنيف للجيش السوداني، وخصّ حقبة التسعينيات باتهامات جسيمة، منها مجازر المساليت في 1992، مذكّرًا بأسماء قيادات عسكرية بارزة مثل محمد عثمان الدابي وعبد الفتاح البرهان.
لكن الأكثر إثارة للجدل، كان قوله إن انتهاكات الدعم السريع تمت "بأوامر من الجيش"، محاولًا تحميل المؤسسة العسكرية كل تبعات جرائم الحرب، بما فيها تلك التي ارتكبتها قوات حميدتي، والتي وثقتها منظمات دولية بشكل مستقل.
وبرغم توقيع الدعم السريع على وثيقة تلزمه بالمحاسبة، فإن تبرير الحلو لتحالفه معها باعتبارها "جزءًا من الهامش المهمش" لا يمحو تورطها العميق في جرائم دارفور وتجنيد الأطفال. فهل هو تحالف تكتيكي لموازنة قوة الجيش، أم مجازفة أخلاقية وسياسية ستكلفه الكثير؟
النقد الجذري للنظام القديم: الكيزان في مرمى النار
أعاد الحلو تعريف الجيش باعتباره الحارس الأخير للنظام القديم، ذي الخلفية الإسلامية، مشيرًا إلى أن الإسلاميين "استخدموا الدين كسلاح لقمع الأطراف". وتحت هذا التوصيف، جاء نقده لحكومة بورتسودان، التي وصفها بأنها:
تتبنى خطابًا تمييزيًا (مثل قانون الوجوه الغربية).
تعيد إنتاج مشروع "مثلث حمدي" الانفصالي.
توظف الدين في الحرب، كما في فتوى عبد الحي يوسف بقتل "ثلث الشعب".
وبذلك، رسم الحلو صورة لحكومة تسعى إلى إعادة إنتاج السودان القديم، في مقابل مشروعه للسودان الجديد القائم على العلمانية واللامركزية.
المستقبل كما يراه الحلو: بين الواقع والطموح
رؤية الحلو لمستقبل السودان ترتكز على تأسيس دولة مدنية علمانية، تعترف بالتعدد الإقليمي والإثني، وتضمن حكمًا لا مركزيًا حقيقيًا. ويقدم نموذج إدارات الحركة الشعبية في النيل الأزرق وجنوب كردفان كمثال على هذا التصور.
لكنه حذر من امتداد الحرب شرقًا نحو بورتسودان ومروي، ما لم تفتح الحكومة الباب أمام حل سلمي، وهي إشارة ضمنية إلى خيار الحرب الشاملة كأداة ضغط سياسي.
نقاط الإشكال: بين خطاب الحقوق وتحالفات الدم
التحالف مع الدعم السريع:
يحاول الحلو أن يلبس الدعم السريع ثوب الضحية، متجاهلًا دوره الأساسي في جرائم دارفور. الخطورة هنا أن التحالفات القائمة على المظلومية المشتركة قد تتحول إلى شراكة في العنف، لا مشروع للتحرر.
المغالطات الرقمية:
القول بمقتل "أربعة ملايين سوداني" على يد الجيش يفتقر للدقة، إذ تشير تقارير الأمم المتحدة إلى 300 ألف قتيل في دارفور، ومليوني نازح. استخدام الأرقام بهذا الشكل يُضعف من مصداقية الخطاب حتى لو حمل في طياته كثيرًا من الحقائق التاريخية.
الخطاب الانتقائي:
رغم نبرة العدالة والمحاسبة، لم يقدّم الحلو مراجعة ذاتية لسلوك الحركة الشعبية في مناطق سيطرتها، وسط اتهامات بارتكاب انتهاكات في جبال النوبة. العدالة الانتقائية تُقوّض أي مشروع وطني حقيقي.
السياق الأوسع: الهامش ضد المركز أم تفتيت الدولة؟
يرتكز خطاب الحلو على سردية "الهامش المظلوم" ضد "المركز المتغطرس"، وهو ما يبرر، في نظره، التحالف مع قوى مثل الدعم السريع. لكن هذا المنطق يُهدد بتحويل السودان إلى أرخبيل من المليشيات، لا دولة موحدة.
وإذا نظرنا إلى الخارطة الراهنة:
الدعم السريع يسيطر على أربع ولايات.
الحركة الشعبية تدير منطقتين.
حكومة بورتسودان تمسك بالشرق.
فنحن أمام واقع أقرب إلى تفتيت فعلي للدولة، حتى دون إعلان رسمي للانفصال.
دور المجتمع الدولي: غياب التوازن
اتهم الحلو الأمم المتحدة بالتغاضي عن جرائم الحرب، في إشارة إلى تعاملها المستمر مع الجيش كشريك سياسي. وهو نقد يعكس فجوة بين الخطاب المحلي والدعم الدولي، الذي غالبًا ما يتعامل ببراغماتية تحكمها توازنات القوى لا مبادئ العدالة.
خلاصة: خطاب ثوري في مأزق سياسي
يحاول عبد العزيز الحلو في خطابه أن يقدم نفسه كمحور لمشروع وطني بديل، يتجاوز الإسلام السياسي، والهيمنة المركزية، والانتهاكات الممنهجة. لكن مشروعه يصطدم بتحالفاته الهشة، وخطابه الانتقائي، والمشهد الجغرافي المفكك.
يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لثورة الهامش أن تنجح، إذا ما تبنّت أدوات النظام الذي ثارت عليه؟
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة الدعم السریع خطاب ا
إقرأ أيضاً:
قضيتنا الوطنية.. حين يشيخ الخطاب وتتمرد المرحلة
كأننا نعيش في شريط يُعاد بثه دون أن تُضاف إليه لقطة واحدة جديدة.
منذ خطاب جلالة الملك في افتتاح الدورة التشريعية الأخيرة، كُشف الستار عن مرحلة جديدة، لكنها – وللأسف – لم تجد من يقرأها، من يفك شفرتها، من يغوص إلى ما وراء الكلمات..
فالفاعل السياسي والمدني ظل وفيًا لعاداته القديمة، كأن الزمن لم يمسّه، وكأن سياق الخطاب لا يعنيه إلا كعرض مسرحي آخر.
هناك من لا يزال يتعامل مع قضيتنا الوطنية كما لو أنها عقد امتياز حصري لا يقبل المنافسة ولا المشاركة، وكأن الوطن وثيقة ملكية باسمه الشخصي.
منهم من يرى في الاختلاف مسًّا بالثوابت، وفي الرأي الآخر خيانة عظمى، وكأن حب الوطن لا يُقاس إلا بمقدار ما يُردَّد من شعارات، لا بما يُقدَّم من نقد صادق ومقترح جريء.
لم نعد بحاجة إلى من يرتدي “الدراعة” ليمنح نفسه شرعية الحديث، ولا إلى من يُتقن فنون الخطابة أكثر من فنون الفهم.
القضية أكبر من اللباس، أعمق من الخطاب، وأسمى من الصراعات الصغيرة التي تُدار خلف الكواليس.
الملك دعا إلى الكفاءة، لكن الكفاءة هنا تُترجم بعلاقات النسب والولاء، لا بعمق التحليل، لا بامتلاك المشروع، ولا بالقدرة على فهم التحولات الجيوسياسية.
إنه الزمن نفسه يعود، بالوجوه نفسها، بالعناوين ذاتها، بندوات تُعيد اجترار الكلام القديم بلغة جديدة باهتة، دون أن تغيّر شيئًا من المعنى أو المضمون.
نحن في أمسِّ الحاجة إلى شيء مختلف..
إلى ثورة ناعمة في المفاهيم..
نحتاج إلى خطاب لا يصرخ، بل يُقنع..
لا يلعن، بل يُناقش..
نحتاج إلى اختيار الكلمات كما يختار الجراح موضع شقّه بدقة، بحذر، وبحب.
نحتاج إلى أن نُشرك الجميع، حتى أولئك الذين يختلفون معنا، فحب الوطن لا يُقاس بالتطابق في الرأي، بل بالصدق في النية.
نحتاج إلى مساحة تحمي النقد ولا تخنقه، لأن أكثر الناس حبًا لهذا الوطن هم من يتألمون حين يرون العبث يُعيد نفسه بثقة العارفين.
نحن جيل لم يراكم الثروات، ولم يتخذ من القضية جسرًا إلى المناصب، جيل يُحب هذا الوطن كما تُحب الأم وليدها: حبًا قاسيًا، صامتًا، لكنه لا يساوم.
كم يُوجعنا ألّا يتغير شيء، أن تبقى الندوات على حالها، والأصوات نفسها، واللغة ذاتها، والوجوه نفسها تذهب وتعود دون أثر يُذكر.
أن نناقش مستقبل الصحراء ونحن لم نتصالح بعد مع أنفسنا، ولم نكتشف بعضنا البعض بعد.
أن نرفع راية الوحدة ونحن نغرس خناجر التخوين في ظهور من يختلفون معنا في زاوية النظر.
أيها المتحدثون باسم الوطن..
ليس من يرفع صوته أكثر هو من يحب هذا الوطن أكثر، وليس من يختزل القضية في صورة ولباس هو الأدرى بها.
الفهم لا يُمنح، بل يُبنى، والحقيقة لا تُحتكر، بل تُناقش.
الدبلوماسية المغربية تحت قيادة صاحب الجلالة حققت انتصارات على الأرض، اعترافات دولية، ومكاسب استراتيجية، بينما نحن – نخب الداخل – ما زلنا نُصارع بعضنا البعض في زوايا معتمة، كأننا نخشى النور، نخشى أن نُرى كما نحن: بلا مشروع، بلا أفق، بلا شجاعة للاعتراف بأننا بحاجة إلى بداية جديدة.
دعونا نُخرج القضية من قيد الشعارات.. دعونا نمنحها لغة جديدة..
لغة المصالحة، مع الذات أولًا، ثم مع الآخر، ثم مع التاريخ الذي يُكتب الآن، ولا ينتظر..
نحتاج إلى خطاب لا يكتفي بترديد ما قيل، بل يخلق ما لم يُقل بعد..
خطاب لا يرث، بل يبتكر..
فالقضية لم تعد تحتمل المزيد من الجمود، ولا المزيد من التمثيل الرديء على مسرح الواقع..
ولأننا نحمل وجع الوطن في صدورنا، نعرف جيدًا أن الأوطان لا تُبنى بالصوت العالي، بل بالعقل العميق، ولا تُحمى بالرقابة، بل بالحقيقة.
وما أقسى أن يظل الوطن حبيس خطابات لا تُشبهه..
وأن تتحول قضيته الأولى إلى قصيدة مكسورة الوزن، يكتبها من لا يعرف لغة الأرض، ولا وجع أهلها…