عبد السلام فاروق يكتب: قاسم أمين .. مشروع لم يكتمل !
تاريخ النشر: 26th, April 2025 GMT
في الثالث والعشرين من أبريل عام ١٩٠٨، رحل قاسم أمين، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا يعتبر حجرًا أساسًا في مشروع النهضة المصرية. إن ذكرى رحيله ليست مجرد استعادة لسيرة رجل، بل هي إعادة تقييم لمسار ثقافي طموح، حاول أن يربط بين تحرير المرأة وتحرير الوطن، في زمن كانت فيه مصر تتأرجح بين استحقاقات الحداثة وثقل التقاليد.
التاريخ والسياق: حين تصبح المرأة مقياسًا لتقدم الأمة
ولد قاسم أمين في حقبة اتسمت بصراعٍ بين المشروع الاستعماري والرغبة في التحرر، وبين النزعة التقليدية ورياح التحديث. هنا، انبثقت أفكاره كجزء من حركة "النهضة" العربية، التي رأت في التعليم والإصلاح الاجتماعي مفتاحًا للخروج من التخلف. لم يكن أمين منظرًا منعزلًا، بل كان ابنا لرواد مثل محمد عبده، لكنه تميز بجرأة طرحه لقضية المرأة، معتبرًا أن "تقدم الأمم يقاس بمدى تقدم نسائها". في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، دعا إلى تعليم المرأة، وإصلاح التشريعات التي تكرس دونيتها، معتبرًا ذلك شرطًا لبناء مجتمع قادر على المواجهة الحضارية.
بين التحرير والاغتراب: إشكالية النموذج الغربي
لا ينكر المرء تأثر أمين بالخطاب الليبرالي الأوروبي، خاصة خلال دراسته في فرنسا، لكن قراءة نقدية لإرثه تظهر أنه سعى لـ"توطين" الحداثة، لا استنساخها. لقد رأى أن تحرير المرأة ليس تقليدًا للغرب، بل استعادة لدورها التاريخي في الحضارة الإسلامية، التي كانت -بحسبه -أكثر إنصافًا لها من الممارسات الاجتماعية في عصره. لكن يظل السؤال: هل كانت رؤيته نخبوية، محدودة بأفق طبقته؟ أم أنها خطوة ضرورية في سياق لم يكن يسمح بغير ذلك؟
جامعة القاهرة: الفكر كمشروع مؤسسي
لم تكن دعوات قاسم أمين مجرد شعارات؛ فقد كان أحد المؤسسين لجامعة القاهرة (١٩٠٨)، التي مثلت آنذاك حلمًا بتعليم يحرر العقل من الجمود. هنا، يتجلى ارتباطه العضوي بين الفكر والممارسة؛ فالتعليم - في نظره -أداة لتخريج جيل قادر على حمل لواء الإصلاح. ورغم رحيله المبكر قبل اكتمال المشروع، فإن الجامعة أصبحت رمزًا لتحالف العلم مع الوطنية.
التراث بين التقديس والتفكيك!
يأتي كتاب "تراث قاسم أمين" (إعداد عبد المنعم محمد سعيد، وتقديم المؤرخ الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق ) ليعيد إحياء هذا الإرث، ليس كـ "نصب مقدس"، بل كمادة للحوار. فالنقد اليوم لأفكار أمين يجب أن ينطلق من فهم سياقها التاريخي، دون إسقاطات معاصرة جائرة. فإذا كان بعض النقاد يرون في خطابه تبنيا لمركزية غربية، فإن آخرين يذكرون بأنه - ككل رواد النهضة - كان يعاني من إشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وهي إشكالية لا تزال تلاحقنا.
اليوم، وبعد أكثر من قرن، لا تزال معركة تحرير المرأة - بكل تعقيداتها - مستمرة. فإذا كانت مصر قد قطعت أشواطًا في تعليم المرأة ومشاركتها السياسية، فإن قيودًا اجتماعية وقانونية ما تزال تذكرنا بأن مشروع أمين لم يكتمل. إن إعادة قراءته ليست استعراضًا للماضي، بل دعوة لاستئناف النقاش: كيف نحدث خطاب الإصلاح دون قطيعة مع الهوية؟ وكيف نصنع حداثةً لا تستورد حلولها جاهزة، بل تستلهمها من حوار حر بين التراث والواقع؟
هكذا يكون قاسم أمين - ككل المتنورين - حاضرًا في أسئلتنا، غائبًا عن إجاباتنا النهائية.
بين الحلم والواقع
لا تكتمل قراءة إرث قاسم أمين دون الغوص في التناقضات التي أحاطت بخطابه، والتي تجعله مرآة لعصر بأكمله. فإذا كان أمين قد حمل لواء تحرير المرأة، فإن سؤالًا جوهريا يظل عالقا: هل كان تحرير المرأة - في فكره - مشروعًا اجتماعيا شاملًا، أم مجرد أداة في معركة أوسع ضد الاستعمار وتخلف المجتمع؟ هنا تبرز ثنائية طالما لازمت خطاب النهضة: التحرير كغاية، أم كوسيلة؟
الثورة الهادئة
لم يكن تعليم المرأة - في منظور أمين - مجرد حق فردي، بل آلية لـ"إنتاج أمهات واعيات"، قادرات على تربية أجيال وطنية مناضلة. هذا الطرح يظهر إحدى الإشكاليات الكبرى في خطابه: فهو من ناحية يدعو لخروج المرأة من القيود، لكنه من ناحية أخرى يقيد دورها بـ"وظيفة أمومية" تخدم المشروع الوطني. أليس في هذا تناقض بين تحرير المرأة كذات مستقلة، واستعادتها كأداة في مشروع الذكورة الاجتماعي؟ يبدو أن أمين- كمعظم رواد عصره -وقع في فخ "الحداثة المقيدة"، حيث التحرير مشروط ببقاء الهياكل التقليدية للأدوار الاجتماعية.
الاستعمار والخطاب النسوي: تشابك تاريخي
لا يمكن فصل دعوات أمين عن السياق الاستعماري الذي عاش فيه. فالبريطانيون - آنذاك - روجوا لصورة "المجتمع المصري المتخلف" الذي يقهر المرأة، كتبريرٍ أخلاقي لاحتلاله. هنا، تحولت قضية المرأة إلى ساحة صراعٍ بين خطابين: خطاب استعماري يسيء استخدام الدعوة للتحرير كأداة هيمنة، وخطاب وطني يرفض التدخل الأجنبي لكنه يتبنى إصلاحًا داخليا. في هذا السياق، كان أمين يحاول المشي على حبل مشدود: انتقاد التقاليد دون الوقوع في أحابيل الخطاب الاستشراقي، والدعوة للتحرير دون إضفاء شرعية على المستعمر.
الدين والاجتهاد: حدود الإصلاح في فكر النهضة
على عكس ما يتصور، لم يكن أمين منفصلًا عن السياق الديني؛ فقد استند في حججه إلى اجتهادات إسلامية، معتبرًا أن التشريعات المجحفة بحق المرأة -مثل تعدد الزوجات - ليست من صميم الدين، بل نتاج عصور الانحطاط. لكن سقف اجتهاده ظل محكومًا بحدود عصره: فلم يطالب - مثلًا - بمساواة كاملة في الميراث، أو بإلغاء تعدد الزوجات جذريًّا، بل دعا لتقييده بشروط. هذا الموقف يطرح إشكالية العلاقة بين الفكر التنويري والمرجعية الدينية: هل كان أمين يؤمن بإمكانية التوفيق بينهما؟ أم أنه اضطر لاستخدام لغة الدين كـ"ورقة تبرير" لتقبل أفكاره في مجتمع محافظ؟
التراث النقدي: كيف قرأ اللاحقون سابقيهم؟
يقدم كتاب "تراث قاسم أمين" - كما حرره عبد المنعم محمد سعيد - فرصة لإعادة اكتشاف الرجل خارج إطار التمجيد أو الإدانة. فالنقاشات المعاصرة حوله تكشف انقسامًا بين من يرونه "بطلًا تأسيسيًّا" للنسوية العربية، ومن يتهمونه بتكريس النموذج الذكوري تحت غطاء التحرير. لكن هذه القراءات - برأيي - تفتقد للسياق التاريخي: فالأفكار لا تقاس بمعايير عصر لاحق، بل بمدى تقدمها النسبي على عصرها. صحيح أن خطاب أمين لم يخل من ثغرات، لكن جراءته في فتح ملف شائك - كالمرأة - كانت خطوة جريئة نحو تفكيك المُسَلَّمات.
المرأة اليوم: من تحرير الحقوق إلى تحرير الخطاب
بعد أكثر من قرن، نجد أن معركة أمين لم تنته، بل تحولت أشكالها. فمصر -رغم إنجازاتها في تعليم المرأة - لا تزال تعاني من فجوات قانونية وثقافية، مثل التحرش الجنسي، والتمييز في العمل، وخطاب الكراهية الذي يحاصر المرأة في الفضاء العام. يدفعنا هذا إلى التساؤل: هل كان فكر أمين - بتركيزه على التعليم والقانون - قاصرًا عن رؤية التعقيدات الاجتماعية التي تعيق التحرير الحقيقي؟ أم أن المشكلة تكمن في أن خطاب الإصلاح ظل حبيس النخب، دون أن يتحول إلى حركة شعبية جذرية؟
التنوير مشروع دائم
في النهاية، يبقى قاسم أمين رمزًا لإشكالية أكبر من شخصه: إشكالية المثقف التنويري في المجتمعات التي تتصارع فيها الهويات. فكما قال ماركيز: "الحياة ليست ما يعيشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليحكيه". لذا، فإن إعادة قراءة أمين اليوم ليست استعادة للماضي، بل محاولة لفهم كيف يمكن أن نستلهم جرأة السؤال في عصرنا، دون أن نقع في فخاخ اليقين المطلق.
إن تحرير المرأة - في عمقه - ليس قضية نسائية فحسب، بل قضية مجتمعٍ بأكمله؛ فما لم يتحرر الرجل من صورة "السيد" التي صنعتها التقاليد، وما لم تتحرر المؤسسات من هيمنة الخطاب الذكوري، ستظل دعوات التحرير - بكل أشكالها - ناقصة. وهنا يبرز سؤال أمين الخالد: كيف نصنع حداثتنا دون أن نكون ظلالًا لغيرنا؟
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: قاسم أمين تحرير المرأة المرأة المصرية تعلیم المرأة تحریر المرأة قاسم أمین مشروع ا هل کان لم یکن
إقرأ أيضاً:
حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..
هو واحد من أبرز الإعلاميين.. قضى من عمره «عقودًا» في العمل الصحفي ..عاش بين رواد الأدب والصحافة السعودية وأجيال شتى من المبدعين على اختلاف معارفهم، وسطر بقلمه ألوف الصفحات كاتبًا ومحاورًا .. الذين عملوا مع الأستاذ حامد مطاوع في جريدة الندوة يشهدون له بتجربتة الصحفية الغنية بمفرداتها ، وعمله الدؤؤب وقدرته على توظيف قدرات من حوله، وتوزيع الأدوار بينهم..
في “شعب علي”أحد أقدم أحياء مكة المكرمة ولد حامد مطاوع في عام 1347هـ وفي الثالثة من طفولته المبكره توفي والده؛ فعاش يتيمًا في كفالة جده لأمه الشيخ صالح باعيسى ونشأ في حضن أمه الرؤوم التي منحته كل عنايتها وحبها. ألحقه جده بحلقات المسجد الحرام حيث بدأ تعليمه بالقراءة وحفظ القرآن الكريم، وتعلم الحديث والتوحيد، ثم التحق بمدرسة الرحمانية ومنها التحق بمدرسة تحضير البعثات في قلعة «جبل هندي» وتخرج منها عام 1364هـ/ 1365هـ، ثم التحق بالمؤسسة العلمية للثقافة الشعبية عام 1367هـ ودرس علم الاقتصاد وإدارة الأعمال والشؤون المحاسبية، ثم خاض غمار الحياة العملية؛ فالتحق بوظيفة مساعد رئيس شعبة بالمديرية العامة للحجً بوزارة المالية سابقًا، وعن طريق صديقه الأديب والكاتب عبدالعزيز ساب، الذي كان يعمل بجريدة البلاد، دخل حامد مطاوع باب الصحافة عام 1372، وعمل أمينًا لصندوق جريدة البلاد السعودية، ثم مسؤول الحسابات بها ، وفي عام 1380 أصبح مديرًا لإدارتها، وحين صدر نظام المؤسسات الصحفية عام 1383هجرية.
.انضم حامد مطاوع لعضوية مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، وأصبحت جريدة الندوة تصدر عنها، ولعلنا نشير هنا إلى أن جريدة الندوة تأسست في عام 1958 على يد الأديب والمؤرخ الكبير والرائد الصحفي أحمد السباعي، الذي أنشأ مؤسسة” دار الندوة للطباعة والنشر” .وأصدر عنها جريدة الندوة في مكة المكرمة، التي صدر عددها الأول يوم 26 فبراير 1958م وكانت تصدر في البداية بصفة أسبوعية، ثم مرتين في الاسبوع ثم ثلاثة أعداد في الأسبوع قبل ان تتوقف بعد أحد عشر شهرًا من صدورها.. لتندمج فيما بعد مع جريدة (حراء) التي كان يصدرها صالح محمد جمال- رحمه الله- وصدرتا باسم (الندوة) في 30 ینایر عام 1959م وفي شهر مارس من العام نفسه اشترىصالح جمال حصة الاستاذ السباعي، وآصبح صاحب امتياز نشرها. وبعد صدور نظام المؤسسات الصحفية في عام 1383 تكونت ثماني مؤسسات صحفية..كانت «مؤسسة مكة للطباعة والإعلام»إحداها، وكان حامد مطاوع أحد أعضائها وأصبحت جريدة الندوة الجريدة الوحيدة الصادرة في مكة المكرمة.. وأسندت إليه مهمة إداراتها وكان يرأس تحريرها الأستاذ الكبير محمد حسين زيدان، ثم عين حامد مطاوع نائبًا له قبل أن يتولى رئاسة تحريرها عام 1384 وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى عام 1406هجرية ..حين غادرها تاركًا في في جنباتها أثرًا لايمحى ودورًا بارزًا في انتشارها، وحضورها الإعلامي وكانت فترة رئاسته لتحرير (الندوة) متميزة بالاستقرار، وبروز عدد من كتابها ومحرريها في العمل الصحفي .. وفي يوم تكريمه بالاثنينية في عام 1415 هجرية بحضور عدد كبير من الأدباء والمثقفين..
ــ قال عنه صاحب الاثنينية عبدالمقصود خوجه : (إن الأستاذ الكبير حامد حسن مطاوع ــ الذي نتشرف بالاحتفاء به هذه الليلة ــ يعتبر من الأساتذة الذين قامت على عاتقهم النهضة الصحافية في بلادنا.. وصاحب حاسة أدبية ارتفعت بالقيمة التحليلية التي امتازت بها كتاباته، الى درجة اكسبته طابعاً مميزاً أصبح معروفاً به، وبخصائصه وبصماته الذاتية).
ــ كما تحدث عنه في تلك الأمسية محمد احمد الحساني رفيق دربه في جريدة الندوة، وأحد محرربها الكبار قائلاً: (كان الأستاذ حامد
مطاوع من اصحاب الشفاعات الحسنة، يوظف علاقاته مع ولاة الأمر والمسؤولين لخدمة من حوله، ومن يطرق بابه من اصحاب الحاجات، حتى ان مكتبه في الجريدة كان يتحول كل مساء الى مكتب خدمات للمحتاجين الذين يتسلمون ــ بيد الشكر ــ خطاباته النبيلة الحاملة لشفاعاته الحسنة، وهم متفائلون بنجاح مساعيهم، وأن التوفيق سوف يكون حليفهم، لأن صاحب الشفاعة لا يريد منهم جزاء ولا شكورا، وكنا نرى الفرح يشع من عينيه عندما يبلغه أن حاجة من سعى إليه قد انقضت، ويهتف قائلاً : الحمد لله رب العالمين).
وتقديرًا لمسيرته الصحفية الثرية، منح حامد مطاوع وسام بدرجة قائد من الملك الحسن الثاني ملك المغرب..كما كرمته وزارة الثقافة والإعلام في حفلها في 27-3-2009م ضمن عدد من كبار الإعلاميين في المملكة نظير جهودهم في مسيرة الأدب والصحافة» ولحامد مطاوع العديد من المؤلفات؛ من بينها “فيصل وأمانة التاريخ “، و “شيء من الحصاد “،و”المقال والمرحلة”، و “ابن حسن ” [ مقالات باللهجة العامية المكية الدارجة] {مخطوط..}
توفي حامد مطاوع رحمة الله في ربيع الآخر عام 1431هـ، وقد ووري جثمانه ثرى مكة المكرمة الطاهرة في مقبرة «المعلاة»..