بقلم : د. محمد نعناع ..

هناك وعي بالشيء، وبموازاته ثمة وعي بالمصلحة الخاصة بدون وعي ذات الشيء، وهذه مشكلة معرفية كبيرة، وهي في الوقت نفسه معضلة أخلاقية تجعل من الهموم الشخصية كأنها أولويات حياتية، وقد يلتزم بها عدد من الناس على أنها عقيدة مجموعاتية، ويحدث ذلك في ظل إعلاء قيمة الرمزية والزعاماتية على حساب الواقع، أما في عالم السياسة فإنها ( أي وعي المصلحة الخاصة فقط والاهتمام بها دون الالتفات للجدوى المتحققة في الواقع) تنتج عدم نضوج سياسي مستدام، وهذا ما يحصل بين الحكومة العراقية الإتحادية وحكومة إقليم كردستان، وفي ظل هذا الوضع غير المفيد للجميع قد تنمو أزمات جديدة، خصوصاً بعد حدوث متغيرات كثيرة على المستوى الدولي والإقليمي، كما في الوضع في سوريا، وحل حزب العمال الكردستاني، والتصعيد الاحتجاجي في تركيا، وعودة تصدير نفط الإقليم.

لقد استطاع الإقليم وبشكل اكثر دقة – استطاع الديمقراطي الكردستاني- ان يستمر في فرض هوية خاصة للإقليم بعيداً عن التأثيرات السياسية الداخلية والخارجية، وصمد أمام التحديات التي يعتبرها قادة الحزب تحديات وجودية، على حد قول زعيم الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، الذي كرر إشارته لرغبة أطراف كثيرة بتقويض الاستقرار في الإقليم، بل ذهب بعيداً الى حد التهديد بالانسحاب من العملية السياسية في أحد خطاباته؛ إذا استمر ما يسميه استهداف الإقليم عبر المحكمة الاتحادية وغيرها من القرارات السياسية. أن هذا المسار الجبهوي الذي يتفعل في الإقليم أثناء كل أزمة وافدة من الحكومة الإتحادية أو منبثقة من داخل الإقليم يعزز قوة الإقليم ذاتياً لكنه ايضاً يستنزف الحلول المركزية التي يجب ان يتم الحفاظ عليها حتى لا تتكرر سيناريوهات مدمرة كما حصل في صيف العام 2014. إن تصورات غير حقيقية تتبناها قوى استعدائية قد تُخرب العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، في الوقت الذي تعصف بالمنطقة متغيرات تتجاوز الحدود المحلية، وان اتفاقاً بين مظلوم عبدي رئيس قسد وأحمد الشرع رئيس النظام السوري من شأنه أن يُدخل أكراد العراق في حسابات معقدة مع شركاء لهم في الوطن، على اعتبار ان قسد يهيمن عليها المكون الكردي وتتشارك بهذا مع أكراد العراق، وهذا ما لا يروق لأطراف عراقية تعد أي تقوية لنظام الشرع في سوريا يأتي على حساب مصالحها الاستراتيجية. وتطورات من هذا القبيل تستدعي التنسيق بين القيادات الكردستانية وقادة الحكومة الاتحادية بناءً على برنامج عمل مؤسساتي يراعي المسائل التالية :
1- المشاركة في الحلول الأمنية، وعدم الانفراد بالقرار الأمني، فضلاً عن إدارة الظهر لبعضهما في قضايا داخلية وخارجية.
2- تحييد التوجهات العدائية عبر بناء الشراكات السياسية الموثقة.
3- التفتيش عن حلول غير تقليدية للازمات المزمنة عبر مؤسسات الدولة وبناء الشراكات المؤكدة في سياق استراتيجي.
4- الاستفادة من نهج السوداني غير التصعيدي وتطبيق الاتفاقات السياسية في بيئة حكومية تضمن التطبيقات المتناظرة، وضمن برنامج طويل الأمد.
5- انهاء أزمة السليمانية وحقوقها الأساسية وخصوصاً في مسألة رواتب الموظفين على أسس تحترم خصوصيات الإقليم، أو اعتماد واقعية داخلية
تحفظ حقوق الجميع.
6- التعاون في تعزيز دور العراق الخارجي، والتأثير في الفواعل الإقليمية والدولية على أساس حماية الامن القومي العراقي وتوسيع المجال الحيوي له.
لقد أثبت إقليم كردستان وتحديداً الديمقراطي الكردستاني- بأنه يتقدم خطوة دائماً على بغداد في المسألة الخارجية، لقد اكدت ذلك الزيارات التي يقوم بها مسرور بارزاني للدول الكبرى والدول ذات الاهتمام الإقليمي، ومنها زيارته إلى الولايات المتحدة الامريكية التي سبقت زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الى واشنطن ولقاءه الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن في الخامس عشر من نيسان 2024 ، فقد مهدت زيارة مسرور بارزاني الطريق للحديث الأمريكي الجاد مع السوداني حول دور ووضع الكرد في العملية السياسية، وهذا النمط من التفكير يُكسب الكرد فاعلية دبلوماسية تستثنيه من أي عواصف قد تعصف بالنظام السياسي في العراق في إطار الحملة على أذرع “محور المقاومة” المرتبطة بطهران. ومن المنطقي بهذا الصدد أن يتهيأ الإقليم لأي متغير في محيط العراق مستقبلاً ويتعامل معه في سياقات مستقلة، بل قد يأخذ زمام المبادرة ويسبق دائماً أي موقف اتحادي حول القضايا الخارجية كما حصل في بيان أربيل حول سقوط نظام بشار الأسد، فقد صدر بيان سياسي رسمي من حكومة إقليم كردستان في الثامن من ديسمبر 2024 ركز على الابعاد الاستراتيجية في المنطقة دون التنسيق مع بغداد، وعد الإقليم ما فعلته هيئة تحرير الشام ( الإدارة العسكرية بقيادة الشرع) ضمن إرادة الشعب السوري، وتعمد البيان الإشارة الواضحة إلى حقوق المكونات، ويبدو أن الإقليم وعى مسألة أن سقوط الأسد يحمل أيضاً في طياته تغييرات أخرى لها تأثير على القرار الحكومي العراقي كتضاؤل الدور والنفوذ الإيراني في العراق والمنطقة. وهذه محاكاة براغماتية ستمنح الكرد إمكانية لعب دور يتجاوز المشاركة السياسية إلى مسك مفاتيح اللعبة الإقليمية بمساعدة الحلفاء الدوليين والاقليميين. ويتحقق هذا الدور عن طريق تحقيق أربيل لثلاثة مكتسبات لا تمتلكها الحكومة الاتحادية والأطراف والقوى السياسية التي تتشارك معها في معادلة السلطة :
الأول: التمكن من إقناع الفاعليات السياسية في المنطقة بأن الإقليم له توجهات خاصة لا علاقة لها بالصراع الوكالاتي والأدواتي في المنطقة، وله فلسفة خاصة في مسألة حقوق المكونات.
الثاني: الاستقلالية الاقتصادية عبر عودة تصدير نفط إقليم كردستان، وهذا ما لوحت أليه إشارات خلال الأيام الماضية مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية وسط عدم ممانعة بغداد.
الثالث: الحصانة الأمنية وخصوصاً في مدياتها الحدودية، وسيتعزز هذا الأمر مع التطبيق الفعلي لقرار حل حزب العمال الكردستاني.
إن هذه المكتسبات ليست سهلة، وهي الان ليست كلها في متناول أربيل، ولكن الإقليم أيضاً يتقدم خطوة على طريق تحقيقها خلافاً لجهود الحكومة الاتحادية المكبلة بالنوازع الأيديولوجية التي تفرض نفسها على معادلة السلطة. تدرك جميع القوى السياسية العراقية بأن متغيرات المنطقة هي متغيرات جيوبوليتيكية لها تأثيرات على التوجهات العامة والتفصيلية في أكثر من دولة، ولقد حان الوقت الذي تنزع فيه كل مجموعة اجتماعية لتحصين نفسها من هذه التأثيرات، ولكن الأفضل من وجهة نظر اغلب المراقبين أن تتجه عمليات التحصين في سياق مؤسسات الدولة، وهنا كلما استطاعت بغداد صياغة الإدراكات السياسية على أساسات مستقلة وحيادية كلما تقاربت وجهتا نظر الحكومة الإتحادية وحكومة إقليم كردستان، وهذا المنظور سيركز قوة العراق في الفعل الإقليمي والدولي، وهو غير متحقق الأن رغم أن الذي يرسم السياسة الخارجية العراقية هو رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي يتصف بالقرب من أربيل وبالتحديد قربه من مسعود بارزاني وبالتعامل الإيجابي مع القضايا الخلافية والحساسة، وينفذ هذه السياسة وزير كردي وهو وزير الخارجية فؤاد حسين، وسبب عدم تحقق التقارب الاستراتيجي والتنسيق التفصيلي بين بغداد واربيل لحد الأن يعود إلى عدم الثقة المتبادل بين أطراف سياسية في الإطار التنسيقي وبين القيادات الكردستانية، ولهذا المعوق تراكمات بعضها ناتج عن سوء إدارة الدولة بشكل عام من جهة، ومن جهة أخرى بسبب التصاق مصائر قوى سياسية بمعادلة إقليمية إذا انهارت فستنهار هذه القوى معها. سيبقى إقليم كردستان على تعهداته الخاصة بحماية مصالحه ومكتسباته ما دامت الأطراف الأخرى تحترم هذه المصالح والمكتسبات، وستبقى الحكومة الإتحادية تعاني من عدم التوصل إلى وصفة موحدة للتعامل مع الطبخات الإقليمية والدولية، ولكنها قد تحتفظ بمساحة من النأي بالنفس لتجنيب العراق الدخول في منعطفات لا يقوى على إدارة نفسه في أتونها، ولكن السيناريو الأفضل لكلا الطرفين هو التوصل إلى إتفاقات متقدمة تقطع الطريق على استغلال الخلافات الداخلية وتوظيفها في عملية إنجاح مشروع يتعارض مع المصالح العليا للعراقيين، أي إجبار العراق على لعب دور وظيفي لا يمنحه استقلاليته المطلوبة، ولهذا على العراقيين وعي الأشياء بذاتها وليس بما يقوله الاخرون عنها، فالمصلحة تكمن في تفسيرنا للأشياء وفقاً لحاجاتنا الحقيقية، وليس لحاجات الاخرين المغلفة بدوافع وهمية.

د. محمد نعناع

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات الحکومة الاتحادیة إقلیم کردستان

إقرأ أيضاً:

الذهب يتراجع مع انحسار التوترات الجيوسياسية وترقب بيانات التضخم الأمريكية

تراجعت أسعار الذهب يوم الاثنين مع انحسار المخاوف الجيوسياسية، ما قلّل من الإقبال عليه كملاذ آمن، في وقت تتجه فيه أنظار الأسواق إلى بيانات التضخم الأمريكية المرتقبة، والتي قد توفّر مؤشراً على توجهات معدلات الفائدة لدى الفدرالي الأميركي.

انطلاق النسخة التاسعة من المائدة المستديرة ثنك كوميرشال 8 سبتمبرالدولار يواصل تراجعه.. أسعار العملات الأجنبية بمستهل تعاملات الإثنين

وانخفض الذهب الفوري بنسبة 0.5% إلى 3378.99 دولاراً للأونصة، بعد أن لامس يوم الجمعة أعلى مستوى له منذ 23 يوليو تموز.

وتراجعت عقود الذهب الأميركية الآجلة لتسليم ديسمبر كانون الأول بنسبة 1.5% إلى 3,439.70 دولاراً.

قال مات سيمبسون، كبير محللي «سيتي إندكس»، إن «تراجع حدّة التوترات الجيوسياسية المحيطة بالحرب في أوكرانيا دفع الذهب إلى مزيد من الانخفاض، بعد إعلان يوم الجمعة عن لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع فلاديمير بوتين على الأراضي الأميركية».

وكان ترامب قد أعلن يوم الجمعة أنه سيلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أغسطس آب في ألاسكا للتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا.

وتركّز الأنظار هذا الأسبوع على بيانات أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة المقرر صدورها يوم الثلاثاء، مع توقّع المحللين أن تؤدي تأثيرات الرسوم الجمركية إلى رفع المؤشر الأساسي بنسبة 0.3% ليصل إلى معدل سنوي يبلغ 3.0%، مبتعداً عن هدف الفدرالي البالغ 2%.

خفض معدلات الفائدة

وأضاف سيمبسون: «قراءة مرتفعة قد تعزز قوة الدولار وتحدّ من مكاسب الذهب، إلا أنني أتوقع بقاء مستويات الدعم قائمة بشكل عام، مع سعي المستثمرين لاقتناص فرص الشراء عند الأسعار المنخفضة».

عزّز تقرير الوظائف الأميركي الأضعف من المتوقع مؤخراً الرهانات على خفض الفدرالي معدلات الفائدة في سبتمبر أيلول، إذ تسعّر الأسواق احتمالاً يقارب 90% لخفض في سبتمبر أيلول، مع توقع خفض إضافي واحد على الأقل قبل نهاية العام.

ويستفيد الذهب، الذي لا يدرّ عائداً، من بيئة معدلات الفائدة المنخفضة.

كما تترقّب الأسواق المحادثات التجارية مع اقتراب مهلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 12 أغسطس آب للتوصل إلى اتفاق بين واشنطن وبكين.

وفي غضون ذلك، زاد المضاربون على عقود الذهب في بورصة «كومكس» مراكز الشراء الصافية بواقع 18,965 عقداً إلى 161,811 عقداً خلال الأسبوع المنتهي في 5 أغسطس آب.

وفي المعادن النفيسة الأخرى، تراجع الذهب الفوري بنسبة 0.8% إلى 38.02 دولاراً للأونصة، وانخفض البلاتين بنسبة 0.9% إلى 1,320.45 دولاراً، وخسر البلاديوم 0.3% ليسجّل 1,122.69 دولاراً.

طباعة شارك أسعار الذهب المخاوف الجيوسياسية التضخم الأميركية

مقالات مشابهة

  • مرشدات عمان يحصدن الأوسمة والدروع في مؤتمر الإقليم العربي
  • هواجس إقليمية.. ماذا يريد لاريجاني من زيارة العراق ولبنان؟
  • متحدث الحكومة يكشف مضامين مذكرة التفاهم الأمنية بين العراق وإيران
  • تصفير جريمة محطة الوقود.. عائلات الضحايا: الإقليم أثبت أن الشعب العراقي واحد
  • الذهب يتراجع مع انحسار التوترات الجيوسياسية وترقب بيانات التضخم الأمريكية
  • مطالبة إسرائيلية لـزامير برفض توجهات نتنياهو وإيقاف قراراته التدميرية
  • تشمل 10 آلاف شخص.. إقليم كوردستان يعتزم منح المتقاعدين مكافأة نهاية خدمة
  • ترامب يطلق ممر القوقاز وسط مخاوف من تداعياته الجيوسياسية
  • المالكي:لن نسمح للرافضين لإيران ولمشروعها المقاوم بالمشاركة في العملية السياسية
  • إيران:حشدنا الشعبي أصبح أكثر قوة وتماسكا مع باقي فصائل المقاومة في المنطقة