صحيفة البلاد:
2025-08-13@00:08:37 GMT

اغتيال المعلّم بدم بارد

تاريخ النشر: 7th, May 2025 GMT

اغتيال المعلّم بدم بارد

تعاقبت النظريات التربوية على المعلّم فحرّكته أول الأمر نحو النظرية السلوكية فأصبحت عملية التعلم تحت رحمة الثواب والعقاب والمثير والاستجابة إلى الدرجة التي يتحكّم فيها المعلم بكل شيء. يمكن للمعلم أن يضرب الطالب بالعصا ضربا مبرحاً، كما هو الحال في المدارس لدينا قبل أربعين سنة. مكانه في مقدمة الصف. ولا يبدو أن هذه النظرية قد أفل نجمها رغم إعلان إفلاسها النظري في منتصف القرن الماضي على يد نعوم تشومسكي إذ أن ملاحظة بسيطة لأروقة المدرسة تكشف عن تغلغل هذه النظرية وسيطرة أشباح سكنر وشلّته السلوكية على مفاصل العملية التعليمية والدليل على ذلك تلك الاختبارات المكثفة، المحلية والإقليمية والدولية، التي تشهدها المدرسة خلال العام الدراسي.


ثم جاءت النظرية البنائية في محاولة للإطاحة بالنظرية السلوكية عن طريق سحب بعض الصلاحيات التي يتمتع بها المعلم ونقلها للطلاب الذين أصبحوا يشاركون في عملية التعلّم. أصبح دور المعلم تحت رحمة هذه النظرية منحصراً في تهيئة الظروف لدى المتعلم وتمكينه وإشراكه في تقديم المعرفة ومتابعة عملية التعلم عنده وتقديم المساعدة له عندما تغوص أقدامه في رمال المعرفة ورمضائها. المعلم، بحسب هذه النظرية، مجرد مقاول معماري يوفّر السقالات التي يرتقي عليها هؤلاء البنّاؤون لتشييد صروحهم المعرفية التي يريدونها وتتناسب مع مهاراتهم الإنشائية والمعمارية. مكانه في ناحية ما على يمين الصف أو يساره وليس مقدمته. كما هو واضح من هذه النظرية، تراجع دور المعلّم تدريجياً وأصبح مجرد مسهّل للعملية التعليمية بعد أن كان يقف أمام أبنائه ينقل الحكمة لهم والويل كل الويل لمن يعترض طريقه.
ثم جاءت فلسفة ما بعد الحداثة في نهاية القرن الماضي لتنشر فوضى تعدّد الرؤى وغموض المعنى وترويج القصص الصغيرة وإلغاء القصص الكبرى، أو بمعنى آخر الرفع من شأن الحرية الفردية وإلغاء الحقيقة المطلقة الواحدة، فأصبح المعلم نفسه تحت التهديد من هؤلاء الذين كانوا أتباعه وتحت يده. تزحزح مكانه وأصبح بالقرب من الباب. المعلم، تحت وطأة هذه الفلسفة، يتحرّك داخل مدرسته وهو خائف يتلفّت ويترقّب. لا يستطيع أن يفعل أي شيء مهما كان هذا الذي كان تحت يده يضع وشماً، أو يقص شعره بطريقة شاذة أو أن يلبس القلائد على رقبته، أو يربط شعره برباط كما تفعل النساء.
ثم جاء زلزال الذكاء الصناعي في القرن الحادي والعشرين الذي يبدو، من وجهة نظر خاصة لكاتب هذه السطور، أنه تشكّل واضح لفلسفة ما بعد الحداثة التي لم تكن تحمل اسما وقتها. انتهت مرحلة “الما بعد” وأصبح الأمر واضحاً، وتحوّلت فلسلفة ما بعد الحداثة إلى هذا الشيطان الذي يحمل اسم الذكاء الصناعي. اختفت المدرسة برمتها وأصبحت مجرد منصّة افتراضية لا وجود حقيقي لها. أصبح دور المعلم فنياً فقط بحيث يمكن استبداله بروبوت افتراضي يدرّس عبر الأثير. الله وحده يعلم المصير المحتوم الذي ينتظر هذا المعلم المغلوب على أمره الذي تم ركله خارج غرفة الصف واغتياله بدم بارد.

khaledalawadh @

المصدر: صحيفة البلاد

كلمات دلالية: هذه النظریة ما بعد

إقرأ أيضاً:

المنقذ.. الرجل الذي جاء من اللامكان!!

في الثمانينات، شددنا الرحال من أمدرمان قاصدين الأبيض، لي خيلانا المهاجر أبوهم من الشمالية، واستقر هناك… وطاب به المقام في مدينة من أجمل وألطف وأنظف مدن السودان ????.
ركبنا بص سفريات الربوع، والجو يومها مغبَّر شديد، غبار خانق بيغطي الدنيا. الناس العقلاء نصحوا السائق: “أنتظر لحدي ما الجو يروق”. لكن، وكعادة أي مسؤول في السودان — حتى لو كان سواق بص — ما سمع الكلام، وضرب بالنصيحة عرض الحائط ومشى.

توغل بينا في الفيافي، طرق ما فيها روح، ولا حتى شجرة تستظل بيها. ساعات طوال والبص يتخبط في المسارات، لحدي ما السائق اقتنع، بعد معاندة طويلة، إنه ضيّع الدرب. وقف البص، والركاب بين خوف وترقّب… بدأنا نفكر: سينفذ الأكل والماء… وبعد داك الموت البطيء!
وفجأة، ومن العدم من اللامكان، طلع لينا راجل كبير في السن، ماشي على رجليه في المكان المقفر دا. ما لقينا فرصة نسأله أنت منو ولا شنو الجابه هنا.
هو بادر بالكلام:
– “تائهين؟”
السواق، بخجل: “… نعم”.
– “أبشروا”.
ركب معانا البص، وبدأ يوصف: “دوغري… لف هنا… تاني دوغري…” وكدا لمسافة طويلة، لحدي ما قال: “المجري دا كان فكاك، ما تفكوه”.
سألوه الركاب: “طيب وإنت؟”
ابتسم وقال: “أنا ما ليكم شغلة بي… نزلوني هنا وتوكلوا على الله”.
ونزل، كأنو جا من عالم تاني.
واصلنا الطريق حسب إرشاداته لحدي ما وصلنا جبرة الشيخ، ومنها إلى الأبيض.
والله القصة دي واقعية 100٪، أنا عشتها بي نفسي. لكن السؤال البظل يرن في عقلي لي هسع: من هو ذاك الرجل؟ ومن أين جا؟ وإلى أين ذهب؟!

????️ جنابو عمر عثمان

١١ أغسطس ٢٠٢٥م

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • المنقذ.. الرجل الذي جاء من اللامكان!!
  • السودان الذي يسكننا… وما يخسره العالم إن غاب
  • اليمن.. طفل شجاع ينقذ شقيقته من محاولة اختطاف في محافظة ذمار / فيديو
  • محافظ المنيا: المعلم يظل رمزا للعطاء وصانعا للأجيال
  • محافظ المنيا: المعلم سيظل رمزًا للعطاء وصانعًا للأجيال… والتعليم على رأس أولويات الدولة المصرية
  • أنس الشريف .. صوت غزة الذي فضح جرائم الاحتلال
  • "أضرار محدودة" جراء حريق في مسجد قرطبة التاريخي
  • جريمة مركبة في ذمار.. الحوثيون يختطفون أطفال مختطف لديهم لإجباره على تسجيل اعترافات
  • شبكة حقوقية: مليشيا الحوثي تختطف أطفال معلم معتقل في ذمار وتواصل حصار أسرته
  • ما مقدار البروتين الذي يحتاجه الجسم؟