بعد عددٍ كبير من الدواوين والكتب الفكرية والسيرية والأرشيفية جرَّب الكاتب المصري شعبان يوسف كتابة الرواية لأول مرة، وهو في السبعين من عمره، وأصدر باكورة إنتاجه فيها بعنوان "عودة سيد الأحمر"، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة له فهو بدأ فعلاً في كتابة الجزء الثاني لها!

في تلك الرواية الممتعة يقترب، في ثلاثة أيام فقط، هي زمنها، من أشخاص شديدي العادية، ليرينا حجم انكسارهم وألمهم بعد هزيمة 67 وتنحي عبد الناصر، ثم عودة الروح إليهم مع عودة الزعيم عن قراره.

صنع سيد الأحمر بطل الرواية أسطورته الخاصة، فبمجرد أن وصلته أنباء الهزيمة هرول بغضب وذهول وحطم سوراً بجسده ثم اختفى تماماً عن الأنظار، ليبدأ الجميع في البحث عنه. هنا يتحدث شعبان يوسف عن روايته وبطلها سيد الأحمر وبطلتها تغيانة وعشرات البسطاء مثلهما في منطقة عين شمس.

تعيدنا الرواية إلى الأفكار الكبرى التي كانت تتميز بها روايات جيل الستينيات، إذ يعاني الأبطال من فاجعة نكسة 67 مع شعور حاد بالخوف ثم استعادة الأمل مع عودة ناصر عن تنحيه.. ما تعليقك؟

نعم. هذا ما عشته، ورأيته، عاش الناس حالات من الفزع اليومي دون أن يكون لديهم أي وعي سياسي بما يحدث حولهم، فقط بيانات سياسية في الراديو، ومقالات تحليلية طويلة في الصحف تقرأها فئات قليلة من المجتمع آنذاك، ذلك المجتمع جمع بين الطالب الجامعي، والمثقف، والمتمرد، وبطلي سيد الذي جاء من أقصى الجنوب لكي يبحث عن خلاصه المادي ويتزوج ويؤسس أسرة سوية، لكنَّ اختفاءه أصبح دليلاً على رعب عاشته أسرة متوسطة الدخل في ضاحية عشوائية، تجمع بين عمال وفلاحين وصنايعية وموظفين. وقتها انحصرت أدوات الفهم في الإذاعة، وبعض الصحف، وما يتناقله الطلبة، لذلك كان هناك خوف هائل وصل ذروته في يونيو 1967.

الرواية من زاويةٍ تدور حول قصة حب سيد الزنباعي "سيد الأحمر"، وتغيانة، وكيف ترك بلده في جنوب مصر وذهب إلى القاهرة بحثاً عن المال لكي يكمل به حلم الزواج من الحبيبة.. لكنها من زاوية أخرى رواية عن الطريقة التي يتآزر بها الناس ويجتمعون على قلب رجل واحد في المصائب الكبرى.. أيهما كان سابقاً للآخر في تفكيرك وأنت تجهز للكتابة؟

حالات التآزر بين المصريين قائمة وموجودة طوال الوقت بشكل طبيعي، ولكنه تآزر كامن، ومستتر، وتتجلى مظاهره في الساعات الحرجة. ومن الممكن أن يشعر المرء بغضب ما تجاه شخص آخر، لكن في لحظات الفرح والسعادة تجد الخصم هو أول الراقصين في فرح جاره، أما في حالات المرض يتكاتف الناس بشكل أكثر مسؤولية، وتختلف أشكال التآزر من حالة إلى أخرى، وسنجد أن الناس الذين عملوا على إغضاب سيد، هم أنفسهم مَن ذهبوا لتوديعه في حشد جماعي مهيب، كنت أراه كثيراً في قريتنا النائية، وكل واحد من هؤلاء، راح يقدم ما يملك من عون وجمل مفعمة بالمودة التي كانت مستترة، وظهرت في لحظة وداعهم له، وهذه عادة مصرية شديدة الخصوصية، خاصة في القرى.

تنتهي الرواية بمشهد مؤثر، يعود فيه سيد الأحمر من اختفائه المباغت ويعود فيه الرئيس عبد الناصر عن قراره بالتنحي.. هل أردت أن يصبح الموقفان مرآة لبعضهما؟

بالطبع أردت أن تكون عودة سيد الزنباعي، متقاطعة بعودة جمال عبد الناصر، وتكون عودة سيد بعد معاناة شاقة منذ وقوع الهزيمة في 5 يونيو 1967، حتى 9 يونيو، يوم خطاب تنحي الزعيم، وكان لا بد أن تكون العودة مزدوجة، فمعاناة سيد، هي جزء من معاناة البلد، حتى لو اختلف شكل تلك المأساة التي تشبه المآسي الإغريقية القدرية، حيث لا يملك الانسان فيها أي شيء، عن مأساة الزعيم التي صنعتها أقدار سياسية واجتماعية وتآمرية معقدة، وانعكست على ذلك المواطن الغلبان فخرج للتكاتف ومطالبة القائد والزعيم والأب بأن يعود لكي يستمر في تنفيذ وعده لهم. إنها لحظة درامية كانت ضرورة شبه حتمية في ختام الرواية.

النساء في الرواية قويات جداً وعلى رأسهن خالة سيد الأحمر.. هل هي محاولة منك لتقديمهن بعيداً عن الصورة النمطية لهن في مجمتع الذكور؟

صورة النساء في روايتي، هي حقيقة في قريتنا، وفي أسرتنا على وجه الخصوص، النساء اللاتي يقدن كثيراً من المشاهد والأحداث، كنت أرى دائماً عمتي حليمة تجلس في مجلس الرجال، تأمر وتنهي في كثير من أحداث تخص الزواج والطلاق وبيع الأراضي، والخلافات العائلية البسيطة والمعقدة، وأحياناً كثيرة كان صوتها يعلو كل الأصوات المجتمعة، ويستقبل الجميع رأيها برضا تام، وبعض الابتسام، ويقول أحد الكبراء في العائلة: "ما دام الحاجة حليمة شايفة كده، يبقى خلاص"، وتتم الموافقة على كل ما تراه كأن ما قالته يصلح لخارطة طريق، وهذا يعود إلى أن الرجل كان منشغلاً بأكل العيش، والكدح من أجل الأولاد غالبية الوقت، والمرأة كانت ملمة بما يجري في المنزل والعائلة والحارة بشكل دقيق، وكذلك كنت أرى أبي يذهب إلى عمله صباحاً، ويعود عصراً، يأكل ما تختاره أمي. يتوضأ وينام، ثم يخرج إلى المسجد لكي يصلي المغرب، ولا يعود إلى البيت إلا بعد صلاة العشاء، ويتركها تأخذ كثيراً من القرارات في غيباته المتكررة. سلطة عمتي حليمة تجلَّت في شكل يتسم بقدر من العنف والهيمنة، أما هيمنة أمي فأخذت أشكالاً ناعمة، ورضخ لها أبي سعيداً، حيث رآها تملك رجاحة عقل نادرة، واعتبرها رمانة ميزان البيت وضابطة كل إيقاعاته.

من ملامح الرواية قدرتها على تحويل تفاصيل بسيطة وصغيرة إلى مشاهد أسطورية، ومنها مشهد هرولة سيد الأحمر بعد سماعه نبأ الهزيمة وتحطيمه لسورٍ ثم اختفائه تماماً.. هل ترى أن الواقع قد يكون ساحراً أكثر من الأساطير الخيالية؟

بالفعل كانت هناك مشاهد صغيرة حدثت، وعندما أتذكرها الآن، أكتشف أنها كانت مشاهد أسطورية، هي مشاهد حدثت بالفعل، ولكن بشكل طبيعي، وربما كان أهمها مشهد سيد الأحمر حين سمع دوي القنابل في السماء، وحركة الطائرات المجنونة، فأصيب مثل غيره بالهلع والجنون وقرر التحرك من تلقاء نفسه وظنه الناس اختفى بلا رجعة، لقد حدث ما حدث له للناس جميعاً ولكن بأشكال مختلفة، فآنذاك خرج أهل الحارة لكي يجدوا تفسيراً.

الأجواء كانت شبه مهيأة بقوة لحدث آخر، وذلك من منتصف مايو 1967، ثم غلق خليج العقبة، فقد بدأت الأغاني الحماسية تغرق الإذاعة المصرية، والمانشيتات القوية تتصدر الصحف، والعبارات الحماسية تعلو جدران الحارة، وقد صوَّرتُ كل ذلك في الرواية، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى منها قيام مثقف الحارة الدكتور شفيق بقراءة مقالات محمد حسنين هيكل ثم محاولة تفسيرها للناس في الحارة، كل ذلك جاء مجتمعاً جعل من الهزيمة حدثاً كبيراً، كما حوَّل ما يتعلق بها من رد فعل إلى مشهد أسطوري.

الرواية أيضاً تعيد الحكاية إلى الصدارة.. ما الذي يسببه افتفاد أي رواية لها؟

في اعتقادي أن الحكاية عمود رئيسي في الرواية، هي ليست الرواية كلها، ولكن لا بد أن تكون هناك حكاية "إطار" كما يسميها جيرار جينيت، الحكاية هي الصنبور الذي تنطلق منه كافة الأحداث والتأملات والحوارات، وغيابها يجعل من الرواية عملاً دون متعة، نحن المصريين أبناء ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وملاحم أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد وغيرها من مرويات متعددة الوجوه، والكاتب لا يستطيع أن يفلت من تكوينه الوجداني والتاريخي، وكذلك القارئ بالطبع، لا يمكن أن يستسيغ الرواية، دون حكاية. الحكاية هي قلب النص الروائي، وعندما حدثت أزمة في كتابة الرواية الأوروبية في الستينيات، وأعلن آلان روب جرييه وشركاؤه ما يسمى بالرواية الجديدة، وجدت تلك الأفكار صدى واسعاً في مصر، وكتب نجيب محفوظاً مقالاً مهماً قال فيه: "إن تلك ليست أزمتنا، بل أزمتهم"، لأنهم مزقوا الحكاية، وتقريبا استغنوا عنها، ولكن الحكاية في الرواية العربية ظلَّت فاعلة حتى الآن.

الحنين إلى الماضي ظهر جلياً في أسماء الماركات والأشياء القديمة.. كيف ترى الماضي؟

أنا مفتون بالماضي وصداه في الحاضر، ولديَّ ولع خاص بعقد مقارنات شديدة الثراء بين المفردات والتراكيب اللغوية والمعاني قديماً وحديثاً، المفردات جزء من الهوية في مصر وفي كافة بلادنا العربية، نحن لا نقول الهاتف، ولكننا نقول التليفون، بالطبع اختفت مفردات، لتحل محلها مفردات أخرى، ولكن النصوص الأدبية القديمة، ما زالت حافظة لكل التراث اللغوي، مثل التراسينة، والأوتومبيل، والتروللي باص، والشلن، والحضرة التي نطلق عليها "المولد" وهكذا، تراثنا غني بمفردات تحتاج إلى دراسات وتأملات واسعة وشاملة وعميقة.

لماذا أقدمت على كتابة الرواية وأنت على مشارف السبعين؟

حاولت طوال عمري أن ألتزم بكتابة الشعر وأصدرت فيه سبعة دواوين بالإضافة إلى مسرحية، والكثير من النقاد استهوتهم الكتابة عن تيمة السرد في قصائدي، وكنت بالفعل مفتوناً بذلك السرد، ولولا الإيقاع العروضي في شعري، لكانت كل قصائدي قصصاً قصيرة، وهناك حكاية طريفة عندما قدمت أحد دواويني للعزيز الراحل الروائي محمد البساطي، وكان رئيساً لتحرير سلسلة "أصوات أدبية"، وبعد شهر من تسليمه المخطوط، اتصل بي وقال لي وكان يمزح بشكل جاد: "عاوزينك تيجي عشان توقع عقد مجموعتك القصصية!"، وأنا غضبت من ذلك المزاح، ولكنه قال لي: "يا عم قصايدك كلها قصص وحكايات حلوة وتنفع قصص قصيرة!"، وعندما اتجهت إلى الكتابة البحثية في التاريخ الثقافي، كانت هناك ضرورة فنية لأن تتخلل أبحاثي حكايات عن كتَّاب وأدباء ومفكرين ولذلك نشَّطتُ الحاسة السردية عندي، ورغم ذلك اتخذت موقفاً عنيداً من الرواية، وكنت أسخر من كل الشعراء الذين كتبوا روايات، حتى عندما سألني الشاعر سعدي يوسف وكنت أعمل معه في مجلة "المدى" عن رأيي في روايته، قلت له إنها لم تعجبني، وكان لديَّ موقف أخلاقي، وهو أن الطبيب لا يعمل مهندساً، والمحاسب لا يعمل مدرساً، والشاعر لا يعمل روائياً، وهكذا اتخذت قرار عدم الخوض في كتابة الرواية، بل حاربت نفسي طويلاً في ذلك، حتى فرضت الرواية نفسها عليَّ، وكتبت ذلك على صفحتي في "الفيسبوك"، وفي اليوم ذاته طلبني مدير دار "دوِّن" وحرَّضني على استكمال الرواية، وبالفعل أنجزتها، وعندما سألني أحدهم، قلت له: "جعلوني روائياً".

تكتب الجزء الثاني من الرواية فهل تخطط لكتابة ثلاثية؟

فعلاً أكتب الجزء الثاني من الرواية الآن، وسوف أتوسع في الكتابة عن شخصيات لم تظهر بشكل كامل في الجزء الأول، وأطمح في أن تكون ثلاثية بالفعل.

أخيراً.. ما الفرق بين جيلكم، جيل الكبار، والأجيال اللاحقة عليكم؟

أعتقد أن جيلنا كان رومانتيكياً بشكل مفرط، كانت رؤوسنا في السماء، وأقدامنا لا تسير على الأرض، وأنا واحد من الذين مارسوا العمل السياسي المتمرد في مقتبل حياتي، وكنت أترجم كثيراً من اعتقاداتي الفكرية إلى شعر وخيالات وأحلام، أعتقد أن الأجيال اللاحقة لا تعرف الرومانسية، إنها أجيال عملية جداً، وتكاد تكون مفرطة في ذلك، وهذا لا ينطبق على الكتابة فقط، بل يمد ظله على المواقف والأفكار والسلوك أيضاً.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتابة الروایة سید الأحمر فی الروایة من الروایة أن تکون

إقرأ أيضاً:

قصة وفاء لمواطنة تكرس حياتها لرعاية إبل زوجها الراحل .. فيديو

عرعر

ورثت المواطنة ركية الرويلي حبها للإبل عن زوجها الراحل، لتواصل رحلة العناية بها طوال أكثر من أربعين عامًا في مشهد يجسد أسمى معاني الوفاء.

وقالت ركية في حديثها لبرنامج “MBC في أسبوع”: “كان عندي إبل من زمان أنا وزوجي، وبعدين هو توفى والله ما رزقني منه بالعيال، وأنا مع هذول الإبل كأنهم بناتي وأولادي”.

ركية تجد سعادتها في التنقل وسط الصحراء ومتابعة إبلها يوميًا، مؤكدة أن هذه الحياة تعني لها الكثير، مضيفة: “بعض أقاربي يسألوني ليش مشقة نفسي، وأنا أرد عليهم وأقول لا يهمني البيوت ولا المدن ولا المكيفات، أنا مستأنسة مع الإبل”.

وعن طموحاتها، عبرت ركية عن أملها في المشاركة بمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، قائلة: “أسمع إن في المهرجان يبيعون بخمسة وبـ10 مليون، وأتمنى أبيع مثلهم ويكون معايا 5 أو 10 مليون، الواحد يبغى كل شيء حلو”.

https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2025/05/VG4cWgDCRMI0Atdj.mp4

مقالات مشابهة

  • قصة وفاء لمواطنة تكرس حياتها لرعاية إبل زوجها الراحل .. فيديو
  • كوميديا غير متوقعة.. شيري عادل تفتح صندوق أسرار “أصل الحكاية”
  • كيف غيّرت الجوائز الأدبيَّة أساليب الرواية؟
  • شيري عادل تكشف تفاصيل فيلمها أصل الحكاية .. خاص
  • ذكرى الحرب العالمية الثانية.. يوم انتصر الحلفاء وانهزم الإنسان
  • فعالية في حي ظفار في مديرية السبعين بذكرى الصرخة
  • رؤى تربوية وأدبية حول دور الحكاية في تشكيل وعي الطفل وهويته الثقافية في ظل التحديات المعاصرة
  • الرق في الرواية السودانية- من التاريخ المؤلم إلى التمثيل الأدبي الناقد
  • انتصر على السرطان مرتين..قصة مدافع إنتر ميلان فرانشيسكو أتشيربي