لجريدة عمان:
2025-12-14@04:49:06 GMT

اعتدال ميزان الأدب

تاريخ النشر: 27th, May 2025 GMT

عكفتُ منذ مدّة على إعادة النظر فـي القصّة القصيرة، وكتبتُ فـيها فـي هذا الركن، وفـي غيره عددًا من المقالات، وعلَّة عودتي إلى القصّة القصيرة، أنّ وجْهًا من السرد مكينًا بصدد التهجين، ولا معنى لهذا التهجين والنّاسُ يميلون بحكم وقْع حياتهم إلى وجيز المقروء ومختصره، ولكن يبدو أنّ قرّاء السرد يميلون بطبعهم إلى وفرة الحكايات وإلى الوقوف على تفاصيلها، وإلى إطالة الحكاية دون إملال.

يستوي ميزان الأدب هذه الأيّام وتُمنح جائزة البوكر العالمية فـي الرواية إلى القصّة القصيرة، إلى شخصيَّة كاتبة تأتي من الهامش المهمَّش، وتستمدّ قوّتها من رصيد تراكميّ فـي الدِّفاع عن حقِّ الإنسان فـي الوجود، فلستُ من أنصار التنظير لقضايا المرأة، والدفاع عن حقوق النسويّة، رغم إيماني بالقهر الذي تتعرَّض له المرأة فـي عوالم متخلّفة ومتطوّرة، ولكنّي أقف نصيرًا لهذه القضايا ضمن إطارٍ أشمل وأعمّ وهو قضايا الإنسان وحقّه فـي الوجود وفـي التعبير وفـي الكون.

لا يكتسب العمل قيمته من دخوله فـي قضايا النسويَّة، وإنّما نعود دوْمًا إلى الأصل فـي الأشياء، إلى الحكاية القصيرة كيف ينبغي أن تكون لتلامس نفس القارئ وتستحوذ عليه. العودة إلى القصَّة القصيرة بالنسبة إليّ عودة إلى أصْلٍ من أُصول القصص يدخل ضمن إطار القصص الوجيز، أو القصص المختَصَر الذي له أدواته المحقِّقة له، من تكثيف وتركيز وتوحيد التبئير، ووحدة الحدث وعدم تنجيم الشخصيّات، وله من التفاصيل باعٌ وذراعٌ، غير أنّ قُدرته ماثلة فـي التكثيف.

عودتي إلى القصص القصير كانت منذ سنة، اهتمامًا وكتابة ونقدًا، رغم أنّي لم أنفصل عن قراءة القصّة القصيرة، وتمتّنت هذه الأيّام باطّلاعي على مجموعتين قصصيتين لا أصفهما سلبا ولا إيجابًا، ولكن أقول أنَّهما فارقتان وحاملتان لتجربتين هامّتين فـي السّرد العربيّ، وهما مجموعة هدى حمد «سأقتل كلّ عصافـيري»، ومجموعة جوخة الحارثي «ليل ينسى ودائعه»، وعلى ما سأقوله لاحقًا فـي هاتين المجموعتين وفـي العودة القويّة إلى القصّة القصيرة، هنالك استعادة لجنس من السّرد له آثارٌ باقية، وله تراكم جميلٌ، وله أيضًا خصوصيّة قد توافق الرغبة فـي الإيجاز وقد لا تتوافق مع ذائقة القارئ النمّام الذي يصيخ السمع لوقْع الحكايات، ويريد منها استطالة واستفاضة.

فـي هذه الأثناء أيضًا -كما سلف أن ذكرتُ- تلتفت جائزة البوكر العالميّة إلى جزئيّات وعوالم من السَّرد أتمنّى من الجوائز العربيّة أن ترتقي إلى تهذيب ذائقتها وتشذيبها، لتبلغ هذا الوعي، هذه الجزئيّات لا تصنع كاتبًا قصصيًّا كبيرًا، ولكن تلفت الانتباه إليه، وتُسلّط الضوء على أعماله ليراه قصير النظر وطويله.

ذلك أنّ فوز الهنديّة بانو مشتاق بجائزة البوكر الدوليّة عن مجموعتها القصصيّة «مصباح القلب» التي ترجمتها الهنديّة ديبا بهاستي، يرجع إلى عوامل عديدة، وليس إلى عامل واحد، كما هو الأمر فـي أغلب الجوائز العربيّة، عاملٌ رئيس وأساسٌ أنّها تكتب قصَّة متحقِّقة، رائجة، وأنّ مجموعتها القصصيّة التي تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية هي حصيلة أعمالٍ امتدّت إلى أكثر من 3 عقود، وعاملٌ ثان أنّها ناشطة حقوقيّة ومدافعة عن حقوق المرأة فـي خصوصيَّتها المحليّة، ولم تُفارق أصْلها فـي العمل على النهوض بوضع المرأة التي تعيش منعًا وقهرًا وتسلُّطًا (وهذا موضوعٌ قابل للنقاش)، العامل الثالث، أنّ ثراءً أدبيّا فـي شبه القارّة الهنديّة يُعرض عنه العالم الذي طالما تركّز منظوره على المركز وأشباهه ونظائره، بدأ يخرج إلى العلن، وبدأت المركزيّة الأدبيّة تلتفت إلى الأقاليم النائية التي تحمل عوالم متعددة، وتعرض سرودًا مبينة عن عمق حقٍّ للإنسان.

هذا الاختيار من أعضاء لجنة التحكيم يروقني لأسبابٍ، السبب الأوّل والأساس هو تأكيد الخروج من براثن المركزيّة، ولا أقصد هنا المركزيّة مكانًا بل عقلا وفكرًا، ففـي الهند وفـي غيرها من مناطق العالم أدبٌ جمٌّ وعوالم من الخيال يحتاج القارئ الكونيّ اليوم أن يراها وأن يتعقّلها وأن يبصر أبعادها، السبب الثاني وهو مركز نقاش وجدل، هو الوعي الحقوقيّ للكاتبة، وهذا الوعي الحقوقيّ يشفّ عن تفاعل الذات الكاتبة مع عالمها الصغير، ويشفّ أيضًا عن خصوصيّة ومحليّة هي علَّة الكونيّة، كما كنت أقول دومًا، فلا يُمكن أن نقف على مبادئ كونيّة تُذيب المحليّة المميّزة للذوات والشعوب، لابد من الانغماس فـي المحليّة والإيمان بقضاياها، ومنها يكون الانطلاق إلى قضايا الكون، وهو السبيل الذي لم يؤمن به كاتب عربيّ مهمّ فـي أدائه الشعريّ، تعثَّر فـي التحقّق الكونيّ بسبب لهثه الدائم خلف تحقيق الكونيّة فـي صيغتها الاستعمارية الفجّة، هو أدونيس الذي أعرض عن محليّته وآمن بكونيّة عامّة عائمة، تتشكّل عبر هويّة إنسانيّة يتماثل فـيها البشر، فهل بشر فلسطين اليوم يشبهون بشر أوكرانيا فـي وقْع الإنسانيّة الكونيّة؟ بانو مشتاق منغمسة فـي محليّتها، تكتب بلغة جدّ محليّة هي اللّغة الكاناديّة الضاربة جذورها فـي أعماق الذاتيّة الهنديّة، التي تجري على ألسنة عدد محدود من الهنود (ما يقارب 50 مليونًا)، وتعبّر عن قضايا المرأة المسلمة فـي منطقتها تحديدًا، وتحكي حكايات تُظْهِر انصرافها إلى المقاومة لا إلى شكوى الحال وتسعى إلى البحث عن استرجاع الذات، وهنا مكمن الجدل، فأنا لا أراها ضمن النسويّات الغربيّات، ولا ضمن الأدب النسويّ، ولا أراها أيضا ذائدة عن قضايا المرأة تحمل همّها فـي الحقّ والباطل، وإنّما هي كاتبة واعية بحالِ الإنسان، ومنه حال المرأة، فلمَ لم ينتبه عددٌ ممَّن حملوا الجائزة إلى القضايا النسويّة إلى التعبير عن عبوديّة الرجل للعمل، وعن عدم توفّر وقت له ليمتّع نفسه، فقد عبّرت الكاتبة بشكل واضح فـي عدد ممّا توفّر لي من قصصها عن وقوع العامل الهندي تحت أسْر العمل حتّى يتمكّن من سدّ حاجيّاته الماديّة.

الكاتب إنسان، وهو الأوعى بقضايا الإنسان، بعيدًا عن شعاراتٍ صرْت أمقتها، وهي شعارات النسويّة والأقلّيّات التي تذيب القضيّة الكبرى التي نعيشها اليوم، وهي قضيّة الإنسانيّة. استواء ميزان الأدب فـي أيدي لجان التحكيم مهمّ جدّا لبعثِ أملٍ فـي كونٍ لم ينصفه السّاسة ورجال الأعمال، فلعلّ الأدب أن يُنصفه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى القص الهندی ة التی ت

إقرأ أيضاً:

هيئة الأدب والنشر والترجمة تُطلِق معرض جدة للكتاب 2025

أَطلقت هيئة الأدب والنشر والترجمة اليوم الخميس فعاليات معرض جدة للكتاب 2025 في مركز جدة سوبر دوم، تحت شعار “جدة تقرأ”، بمشاركة أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلية ودولية تمثل 24 دولة، توزعت على 400 جناح، في حدث ثقافي يشكل إحدى المنصات الثقافية الكبرى في المملكة، ووجهة للناشرين والمبدعين وصنّاع المعرفة، ومقصدًا للمهتمين بالكتاب من داخل المملكة وخارجها.

وأوضح الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل أن المعرض يعكس مسارًا متقدمًا للهيئة في تطوير صناعة النشر، ودعم المواهب الإبداعية، وتعزيز حضور الناشرين، والكتّاب السعوديين، مضيفًا أن هذه النسخة تتضمن مبادرات جديدة، توسّع حضور الأدب المحلي، وتقدم برامج نوعية ترتقي بتجربة الزوار.

وأشار الواصل إلى أن المعرض يضم لأول مرة برنامجًا خاصًا بالإنتاج المحلي للأفلام، يقدّم عروضًا يومية لأفلام سعودية حظيت بتقدير فني وجماهيري، وذلك على المسرح الرئيسي، بدعم من برنامج “ضوء لدعم الأفلام” وبشراكة نوعية مع هيئة الأفلام، في خطوة تعزز التكامل بين قطاعات الثقافة والفنون، وتُبرز الحضور المتنامي للقصة السعودية المرئية.

وعلى صعيد برنامجه الثقافي يقدّم المعرض أكثر من 170 فعالية ثقافية، تتنوع بين الندوات والجلسات الحوارية، والمحاضرات، والأمسيات الشعرية، إضافة إلى ورش عمل متعددة في مجالات مختلفة، بمشاركة نخبة من أبرز الأدباء والمفكرين.

كما تتضمن الفعاليات منطقة للطفل ببرامج تفاعلية، تجمع بين الثقافة والترفيه، وتستهدف صقل المهارات الإبداعية لدى الأطفال واليافعين.

ويواصل المعرض دعم المبدع المحلي عبر ركن المؤلف السعودي، الذي يحتضن عناوين للنشر الذاتي، ويتيح للأدباء عرض أعمالهم مباشرة أمام الجمهور، كما توفر منصات توقيع الكتب فرصة للقاء الكتّاب والحصول على إصدارات موقعة، في وقتٍ تعرض الهيئات الثقافية والمؤسسات المجتمعية والجامعات مبادراتها وإصداراتها الحديثة طوال أيام المعرض.

ويضم المعرض قسمًا خاصًا لعوالم المانجا والأنمي، إضافة إلى مجسمات ومقتنيات وكتب نوعية تحتفي سنويًا بهذا الفن ومحبيه، إضافة إلى قسم الكتب المخفضة الذي يوسّع خيارات القراءة وييسر إمكانية الوصول للكتاب لكل الفئات.

واستمرارًا في الاحتفاء بعام الحرف اليدوية 2025 خصص المعرض ركنًا للحرف اليدوية، يعرّف الزوار بالحرف التقليدية، ويمكّن الحرفيين من عرض منتجاتهم، دعمًا للتراث الوطني والصناعات الإبداعية.

وتشهد هذه الدورة إضافة نوعية تتمثل في عرض عدد من الأفلام السعودية، مثل: “سوار”، و”هوبال”، و”سليق”، وغيرها؛ احتفاءً بالمبدع السعودي، ودعمًا للسردية الثقافية بمختلف قوالبها المقروءة والمرئية والمسموعة.

كما يبرز عدد من المواضيع في ندوات البرنامج الثقافي المصاحب بمختلف التوجهات المعرفية، مثل: “الفلسفة للجميع: كيف نقرأ الفلسفة اليوم”، و”الرياضة كمنصة للتواصل الثقافي والإعلامي”، و”جسور التفاهم: كيف يصنع الفكر الإسلامي حوارًا حضاريًا عالميًا”، و”توظيف اللهجات المحلية في الكتابة المعاصرة”.

كما تُقام خمس ورش عمل في مهارات الصحافة، وإدارة الأزمات الرقمية، وكتابة قصص الأطفال، وبناء العلامة الشخصية، وأثر القراءة المبكرة في التطور اللغوي والعقلي.

هذا ويستقبل المعرض زواره يوميًا من الساعة 12 ظهرًا حتى 12 منتصف الليل، عدا يوم الجمعة؛ من الساعة الثانية ظهرًا، كمحفل سنوي في قاعة سوبر دوم، مُرسِّخًا مكانته كتظاهرة ثقافية متكاملة تعكس تطلعات هيئة الأدب والنشر والترجمة نحو صناعة نشر مزدهرة ومجتمع قارئ ومبدع.

أخبار السعوديةآخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • منطقة الكتب المخفضة توسّع خيارات الوصول للكتاب في معرض جدة للكتاب 2025
  • عرض خاص للأفلام الفائزة بجوائز الدورة الثانية لمهرجان العين السخنة للأفلام القصيرة بنقابة الصحفيين
  • ماسك يحذر: الفيديوهات القصيرة والذكاء الاصطناعي يهددان تركيز البشر”
  • إحدى أعظم ألغاز الأدب.. دراسة تستكشف سر وفاة جين أوستن عام 1817
  • الفريقان فى ميزان الفلوس .. لاعب من فلامنجو يساوي القيمة التسويقية للاعبى بيراميدز بالكامل
  • حين يسقط العالِم في فخ التبسيط .. خطيئة جمال حمدان حين أفتى في الأدب
  • إصدارات 104 دور نشر إماراتية في «جدة للكتاب»
  • اعتدال الحراراة في الشمال وأمطار خفيفة على الساحل الشرقي مع رياح نشطة في الجنوب الغربي
  • المنتخب النسوي تحت 14 يهزم السعودية ويتأهل لنهائي غرب آسيا لملاقاة لبنان
  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تُطلِق معرض جدة للكتاب 2025