عمدة نيويورك القادم المؤيد لفلسطين
تاريخ النشر: 28th, June 2025 GMT
كأنني أرى المشهد أمامي رأي العين: نتنياهو فـي مقر إقامته فـي نيويورك، يراجع كلمته الملأى بالأكاذيب قبل إلقائها على منصة الأمم المتحدة فـي المساء. فجأةً؛ تقتحم شرطة نيويورك المقر وتعتقله. يندهش رئيس الوزراء الإسرائيلي ويدور فـي ذهنه أن فـي الأمر خطأ ما؛ فقد تلقى قبل قليل مكالمة ترحيبية من الرئيس الأمريكي ودعوة إلى البيت الأبيض.
- لماذا تعتقل صديقي بيبي؟
- لأنه مجرم حرب، ومطلوب فـي محكمة الجنايات الدولية.
- هل تعرف أن الولايات المتحدة غير موقعة على معاهدة تسليم المطلوبين لهذه المحكمة؟
- أعرف. لكني أعرف أيضًا أن نيويورك مدينة تتماشى قيمها مع القانون الدولي.
- لا تنس أن لديه حصانة دبلوماسية، وعليك أن تحترم القانون، لأن سلطتك كعمدة لا تخولّك ارتكاب هذه الحماقة.
- وها قد ارتكبتُها. لقد آن الأوان لتتطابق أقوالُنا عن احترام القانون الدولي مع أفعالنا.
- أنا رئيس الولايات المتحدة وآمرك بإطلاق سراحه فورا.
- وأنا عمدة نيويورك، ولن أمتثل.
لا أستبعد أن يتحقق هذا السيناريو بحذافـيره، إن سولت لنتنياهو نفسه الذهاب إلى نيويورك فـي عهد عمدتها القادم زهران ممداني؛ الذي نجح يوم الثلاثاء الماضي فـي الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للعمودية، ولم يتبق له إلا أشهر قليلة لتسلُّم المنصب رسميًّا حال فوزه المتوقع فـي انتخابات نوفمبر المقبل. ما فعله هذا الشاب المسلم، ذو الأصول الهندية، الذي لم يُمنَح الجنسية الأمريكية إلا عام 2018، ولم يتجاوز عمره بعدُ الرابعةَ والثلاثين، يُعدّ إنجازًا سياسيًّا استثنائيًّا، فقد كانت نيويورك قبل صعوده إحدى أبرز الولايات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل وسياساتها العنصرية، وتحتضن أكبر تجمع يهودي فـي العالم بعد إسرائيل، فأنْ ينجح فـيها بفارق مريح عن أقرب منافسيه، شابٌّ مسلم، ومؤيد صريح للحق الفلسطيني قولًا وفعلًا، ومهاجم شرس لسياسات إسرائيل، هو أمر كان إلى وقت قريب أقرب إلى الخيال.
ولكن كيف استطاع زهران أن يخوض غمار السياسة دون أن يضطر، كما كثيرين، إلى تغيير مبادئه وتبديل قناعاته؟ الإجابة تكمن فـي العائلة. فهو نجل الأكاديمي الهندي محمود ممداني، أستاذ العلوم السياسية فـي جامعة كولومبيا، الذي يُعدّ من أبرز النقاد لما بعد الاستعمار، كما يُعدّ ناشطًا بارزًا فـي الدفاع عن الحقوق الفلسطينية. من مواقفه البارزة: دعمه لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التي تُعرف اختصارًا بحركة «BDS»، ومقارنته الصريحة بين نظام الأبارتهايد فـي جنوب إفريقيا – التي عاش فـيها مع أسرته فترة من الزمن - ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي. وهو مؤلف كتاب «المسلم الجيد، المسلم السيئ» الذي يخلص فـيه إلى أن هذه الثنائية ليس لها أي جذور ثقافـية، بل هي تصنيفات سياسية أمريكية نشأت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأن ما وُصِفَ بـ«الإرهاب الإسلامي» ليس نتاجًا للدين أو الحضارة، بل رد فعل على سياسات أمريكا الاستعمارية ودعمها للقلاقل والاضطرابات فـي العالم الإسلامي.
أما أم زهران فهي المخرجة السينمائية الهندية الشهيرة ميرا ناير، خريجة جامعة هارفارد، وصاحبة أفلام عالمية، مثل «ميسيسيبي ماسالا» (من بطولة دينزل واشنطن)، و«زفاف فـي موسم الأمطار» الحائز على جائزة الأسد الذهبي فـي مهرجان فـينيسيا. وقد زارت سلطنة عُمان عام 2018 مُشارِكةً فـي مهرجان مسقط السينمائي حيث عُرِضَ فـيلمها «ملكة كاتوي» فـي سينما «فوكس الشاطئ». عُرِفتْ هي الأخرى بمواقفها المؤيدة لفلسطين، ورفضت دعوة لحضور مهرجان حيفا السينمائي عام 2013 قائلة: «سأذهب إلى إسرائيل عندما ينتهي الاحتلال. حين ينتهي نظام الفصل العنصري».
من هذه الأسرة المناضلة ورث زهران نضاله الأخلاقي والسياسي، الذي بدأه منذ سنواته الجامعية، وتبلور تدريجيًّا فـي مواقف واضحة، لا لبس فـيها، ولا مساومة. كانت البداية أثناء دراسته فـي كلية بودوين، حين شارك فـي تأسيس فرع منظمة «طلاب من أجل العدالة فـي فلسطين»، ودعم - كما والده - حركة (BDS)، ورفع شعار «عولمة الانتفاضة»؛ أي تحويل الانتفاضة الفلسطينية إلى رمز عالمي للنضال والمقاومة ضد الظلم والاحتلال فـي أي بقعة من العالم. وبعد انتخابه عضوًا فـي الجمعية التشريعية لولاية نيويورك عام 2020، كان زهران أحد أبرز الأصوات المؤيدة لفلسطين فـي هذه الجمعية، وسعى إلى سنّ تشريعات تمنع استخدام أموال الضرائب الأمريكية فـي دعم الشركات المتورطة فـي الأنشطة الاستيطانية فـي فلسطين، وقد وصف حرب إسرائيل على غزة بــ«الإبادة الجماعية»، ورفض فـي مايو الماضي التوقيع على بيان فاقع صادر عن جمعية نيويورك التشريعية يؤيد إسرائيل ويصفها بأنها «تواصل السعي لتحقيق السلام مع الأمن والكرامة لنفسها وجيرانها والعالم، لتُحقق نبوءة أن تكون نورًا للأمم»! وفـي عام 2023، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، شارك فـي مظاهرات تطالب بوقف الاعتداءات على أهل القطاع، واعتُقِل خلال وقفة احتجاجية أمام منزل السيناتور تشاك شومر، مؤكدًا حينها أن أحداث السابع من أكتوبر لا يمكن أن تكون ذريعة لقتل المدنيين الفلسطينيين بدم بارد. وقد شارك فـي ديسمبر من العام نفسه فـي إضراب عن الطعام أمام البيت الأبيض لمدة خمسة أيام للمطالبة بوقف دعم أمريكا العسكري لإسرائيل. وقبل ذلك بسنتين، أي فـي أعقاب حرب إسرائيل على قطاع غزة عام 2021 دعا إلى «وقف غير مشروط للعنف الإسرائيلي ضد المدنيين» الفلسطينيين، وقال: إن «العدالة لا يمكن أن تتحقق فـي نيويورك فـي وقت نغض فـيه الطرف عن الظلم فـي فلسطين». أما السيناريو الذي افتتحتُ به هذا المقال عن اعتقال نتنياهو فـي نيويورك، فهو لم يكن من بنات خيالي، وإنما مبني على تصريح لممداني فـي مقابلة تلفزيونية أجراها معه الصحفـي والمعلق السياسي الأمريكي مهدي حسن فـي ديسمبر 2024.
ومهما يكن مصير زهران ممداني فـي انتخابات بلدية نيويورك فـي نوفمبر المقبل، وسواءً انتُخِب عمدة كما هو متوقع، أم صارت مفاجآت أخرى، فإن مجرد صعوده السياسي يمثّل اختراقًا فـي جدار الصمت الأمريكي حول قضية فلسطين، ورسالةً بأن العالم يتغير، ولم يعد هو نفسه ذلك العالم المطبِّل لإسرائيل وجرائمها وانتهاكاتها.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
في ظل الهجوم على أول مرشح مسلم لعمدة نيويورك ما تأثير والديه على أفكاره؟
نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرين تناولت في أولهما الهجمات المحمومة من اليمين الأميركي المتطرف ضد "اليساري المسلم" زهران ممداني، الذي فاز بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات العامة المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل لاختيار عمدة جديد لمدينة نيويورك.
وتطرق التقرير الثاني إلى مدى تأثير والدي ممداني في تشكيل آرائه السياسية، وما إذا كانا يتوقعان أن يأتي يوم يصبح فيه نجلهما عمدة لأكبر مدينة في الولايات المتحدة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إيكونوميست: جيش المهندسين الصيني الجديدlist 2 of 2خبراء أميركيون: ما الذي يدفع بعض الدول لامتلاك السلاح النووي؟end of listوذكرت الصحيفة في تقريرها الأول أن زهران ممداني -وهو أول مسلم يترشح لمنصب عمدة نيويورك عن الحزب الديمقراطي- بات هدفا للهجمات العنصرية من اليمين المتطرف، حتى قبل فوزه الأخير.
وأضافت أن تلك الهجمات اشتدت بعد إعلان نتائج التصويت يوم الثلاثاء، إذ اتهمه مسؤولو الحزب الجمهوري المنتخبون والشخصيات الإعلامية اليمينية بالترويج للشريعة الإسلامية ودعم "الإرهاب" وتشكيل تهديد لسلامة سكان نيويورك، خاصة اليهود منهم.
هجوم واسعوأوردت الصحيفة أن ستيفن ميلر، مهندس سياسات الهجرة في إدارة الرئيس دونالد ترامب، وصف فوز ممداني الكاسح بأنه "أوضح تحذير حتى الآن لما يحدث للمجتمع عندما يفشل في السيطرة على الهجرة".
وذهب أندي أوغليز، العضو الجمهوري في مجلس النواب عن ولاية تينيسي، إلى أبعد من ذلك متهما ممداني (33 عاما) بدعم "الإرهابيين"، وطلب من المدعية العامة للولايات المتحدة بام بوندي تجريده من جنسيته وترحيله.
وتضمنت الهجمات على ممداني -الذي سيصبح في حال انتخابه، أول عمدة مسلم لمدينة نيويورك- عبارات معادية للإسلام والمهاجرين.
ويعتقد البعض أن هذه الاتهامات ترديد لنظرية "الأخ الأكبر" التآمرية التي ظل ترامب يروج لها لسنوات قبل انتخابه رئيسا، عندما ادعى زورا -حسب نيويورك تايمز- أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مسلم ومولود في كينيا.
إعلانوتقول الصحيفة إن أوباما مسيحي وُلد في هاواي، بينما ممداني مسلم مولود في أوغندا لأبوين هنديين، وترى أن الانتقادات اللاذعة الموجهة إلى ممداني تهدف إلى تصويره كشخصية غامضة وخطيرة لا تشبه المرشح نفسه.
وطبقا للتقرير، فإن ممداني فاز في الأحياء التي تضم عددا أكبر من السكان ذوي الدخل المرتفع والمتوسط، ومثلهم من خريجي الجامعات، ومن السكان البيض والآسيويين وذوي الأصول الإسبانية.
ونقلت الصحيفة عن براندون مانسيلا، المدير الإقليمي لنقابة عمال السيارات المتحدة، القول إنهم في النقابة أيدوا زهران "لأننا كنا نعلم أنه يستطيع التحدث إلى سكان نيويورك العاديين"، واصفا الهجمات ضده بأنها "حقيرة ومخيبة للآمال، لكنها متوقعة في ظل المناخ السياسي السائد في هذا البلد الآن".
ومن جانبه، أعرب عابد أيوب، المدير التنفيذي الوطني للجنة الأميركية العربية لمناهضة التمييز، عن اعتقاده بأن "الذعر العنصري" إزاء نجاح ممداني يشير إلى التهديد الذي يشكّله على المؤسسة من كلا الجانبين.
وفي تحليلها للبيانات التي جمعتها، خلصت نيويورك تايمز إلى أن العوامل التي ساعدت ممداني على استمالة الناخبين المتنوعين جغرافيا وديموغرافيا إلى جانبه، تمثلت في سياساته اليسارية وأسلوبه المتفائل، بالإضافة إلى توق الناخبين إلى التغيير بعد أن سئموا من منافسه الرئيسي أندرو كومو حاكم نيويورك السابق.
وفي تقرير ثانٍ، قالت الصحيفة إن ترشح زهران ممداني لخوض الانتخابات التمهيدية كان مفاجئا لوالديه مثلما باغت المؤسسة السياسية في البلاد.
وأضافت أن والديه اللذين اعتادا على الأضواء -حيث تعمل أمه مخرجة سينمائية مرشحة لنيل جائزة الأوسكار، وأبوه استاذا في جامعة كولومبيا– لم يكن أي منهما يتوقع أن يكون قريبا لهذه الدرجة من أروقة السلطة.
وحسب الصحيفة، ينسب زهران الفضل لوالديه في توفير "تربية متميزة" له تضمنت نقاشات مستمرة حول السياسة والشؤون العالمية. لكن في هذه اللحظة التي تشهد خلافات سياسية حادة حول الصراع في الشرق الأوسط، فإن آراء والديه الناقدة لإسرائيل وعمل والده الأكاديمي المختص بالاستعمار الاستيطاني وحقوق الإنسان قد يجعلهما هدفا لهجمات اليمين.
ونقلت عن محمود ممداني (79 عاما)، والد زهران وأستاذ الشؤون الدولية والأنثروبولوجيا الشهير، وصفه للإسرائيليين في بعض كتاباته، بالصهاينة الظالمين، وألقى العام الماضي محاضرات في مخيمات الاعتصام التي نصبها الطلاب في حرم جامعة كولومبيا احتجاجا على الحرب على غزة، منتقدا تعامل الجامعة مع التظاهرات.
وانتقد ابنه أيضا إسرائيل ومعاملتها للفلسطينيين، وهو ما أثار اتهامات بمعاداة السامية التي يرفضها بشدة.
ورغم ذلك، ينفى الوالدان أي تأثير لهما على أفكار ابنهما السياسية، فقد أكدا أن زهران -وهو اشتراكي ديمقراطي- أن زهران لم يلجأ إليهما طلبا للمشورة السياسية. لكن الصحيفة تتوقع أن يجد الوالدان نفسيهما منجذبين الآن إلى حملته الانتخابية.
إعلانوفي مقابلة أُجريت معه، اختلف محمود ممداني والسيدة ناير حول مدى تأثير عملهما على رؤية ابنهما للعالم. فقد وصف الوالد ابنه بأنه "شخص مستقل بذاته، وأن ما نفعله تجاهه الآن كوالدين هو جزء من البيئة التي نشأ فيها، ولا يسعه إلا أن يتفاعل معها. وهذا لا يعني أن أي شيء يعود إلينا".
لكن والدته ميرا ناير (67 عاما) لا تتفق مع زوجها في رأيه إذ تقول "بالطبع، إن العالم الذي نعيش فيه وما نكتبه ونصوره ونفكر فيه هو العالم الذي استوعبه زهران كثيرا".
تجدر الإشارة إلى أن ممداني سيواجه في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الجاري عددا من المرشحين، أبرزهم الجمهوري كورتيس سليوا، والمستقل جيم والدن، إضافة إلى العمدة الحالي إيريك آدامز، في حين لا يستبعد بعضهم عودة أندرو كومو مستقلا، وهو ما قد يؤدي إلى انقسام أصوات الديمقراطيين وتقليص فرص ممداني، حسب مراسل الجزيرة نت في واشنطن محمد المنشاوي.