بين القوة الغاشمة والانتحار الصامت

لم يحدث في تاريخ الحروب الحديثة أن تحوّلت القوة الغاشمة إلى أداة انتحار ذاتي كما يحدث اليوم في صفوف “الجيش الإسرائيلي”، فمنذ اندلاع حرب “طوفان الأقصى”، تكشف الأرقام المتزايدة لحالات الانتحار في صفوف “الجنود الإسرائيليين” عن أزمة وجودية عميقة داخل جيش يُفترض أنه الأقوى في المنطقة.

هذه الظاهرة، التي أصبحت تُرصد بشكل يومي تقريبًا، لا تنفصل عن بنية المشروع الصهيوني القائم على الاستعمار والعنف، ولا عن التحولات العميقة التي طرأت على طبيعة المواجهة العسكرية مع المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي أثبتت أن “الردع الإسرائيلي” يتآكل ليس فقط في الميدان، بل أيضًا في الوعي، وفي الروح المعنوية لجنوده.

الانتحار كظاهرة… لا كحالات فردية

منذ بداية الحرب، انتحر أكثر من 44 “جنديًا إسرائيليًا”، وهو رقم يعكس حجم الأزمة النفسية التي يعاني منها أفراد جيش الاحتلال. ما يدعو للتأمل أن هذه الحالات لا تقع بعد الحرب كما كان الحال سابقًا، بل خلال المعارك، أي أن الجندي لم يعد قادرًا على الصمود حتى نهاية المعركة. هذا تطوّر نوعي، وصفه رئيس مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي في “إسرائيل”، يوسي تيفي بلز، بأنه غير مسبوق، موضحًا أن “الجنود لم ينتظروا انتهاء العمليات العسكرية كي ينهاروا… لقد انهاروا من اليوم الأول”.

تقول الأرقام إن الانتحار بات السبب الثاني لفقدان الحياة داخل الجيش بعد القتال المباشر، وهو ما يفضح الفجوة الهائلة بين الصورة الإعلامية للقوة “العسكرية الإسرائيلية” وبين الواقع النفسي المتصدع لجنودها.

الكمائن والوحشية… حين تحوّل الفاعل إلى ضحية

يرتبط هذا الانهيار النفسي جزئيًا بتكتيكات المقاومة الفلسطينية، التي حوّلت شوارع غزة إلى حقول ألغام ميدانية ونفسية في آن واحد. فالمعارك التي خاضها “الجنود الإسرائيليون” في مناطق مثل الشجاعية وجباليا وخان يونس وبيت حانون اتّسمت بكمائن معقّدة، اشتباكات غير متوقعة، وخسائر متكررة دون أي تقدم استراتيجي واضح.

هذا النوع من المواجهات يُدخل الجندي في دوامة شعورية من الخوف والذنب: الخوف من الموت، والذنب مما يرتكبه من فظائع بحق المدنيين. عدد كبير من المنتحرين كانوا ممن شاركوا في “عمليات تطهير” داخل غزة، وعايشوا لحظات مرعبة، أو تولّوا مهامًا قذرة، كجمع جثث رفاقهم أو تفتيش الأنفاق.

الجندي دانيئيل إدري، على سبيل المثال، لم يحتمل ذكريات الأجساد المحترقة، فأحرق جسده في وضح النهار. أما إليران مزراحي، فلم يتحمّل 78 يومًا في غزة… قالوا عنه إنه خرج من غزة، لكن أمه أكدت أن غزة لم تخرج منه.

اضطراب ما بعد الصدمة… الجماعي

يشير تقرير عسكري “إسرائيلي” إلى أن 75 % من المحاربين القدامى طلبوا دعمًا نفسيًا بعد الحرب، وأن الجيش اضطر إلى تشغيل 800 أخصائي نفسي. وهذا رقم غير مسبوق، ويعني أن ما يقارب ثلث الجنود الذين شاركوا فعليًا يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مثل الكوابيس، فقدان المعنى، نوبات الغضب، العزلة، وفقدان الشعور بالغاية، وهي ما يسمى في الأدبيات النفسية بـ”إصابات الهوية”.

الوضع يزداد سوءًا مع اقتراب نهاية العمليات العسكرية، إذ يتوقع الجيش ارتفاعًا كبيرًا في أعراض PTSD .. الصحف تتحدث عن ما لا يقل عن خمسين ألف حالة نفسية ستحتاج إلى علاج مستمر بعد الحرب، وهي أرقام “مرعبة” في جيش قوامه الفعلي لا يتعدى مائة وخمسين ألفًا.

البنية العسكرية كعامل قمع نفسي

ما تكشفه التقارير أيضًا هو أن البيروقراطية العسكرية الصهيونية باتت تشكّل عاملًا من عوامل الضغط على الجنود بدلًا من أن تكون نظام دعم. فهناك قمع ممنهج لكل جندي يعترف بضعفه أو يشكو، وهناك عقوبات تصل إلى المحاكمة والسجن لمن يرفض تنفيذ الأوامر أو يخالف قاعدة “الصمت المعنوي”. بعض الجنود حُكم عليهم بغرامات مالية بسبب اعترافهم بأنهم غير قادرين على القتال.

هذه المنظومة القمعية لا تُظهر سوى حقيقة واحدة: أن المؤسسة العسكرية الصهيونية لا ترى الجنود سوى كأدوات. ولعل ما قاله أحد الضباط يعكس هذا المنطق حين برّر إعادة الجنود المرضى نفسيًا إلى ساحات القتال بعبارة: “نحن بحاجة إلى أكبر عدد من البنادق. سنتعامل مع العواقب لاحقًا”.

تجنيد المصابين نفسيًا… الأزمة البنيوية

بسبب النقص الحاد في القوى البشرية، بات “الجيش الإسرائيلي” يستعين حتى بمن يعانون من اضطرابات نفسية سابقة، دون تمحيص أو تشخيص كافٍ. الضغوط المتزايدة جعلت الجيش يُسقط معايير الفحص العقلي، فالمهم هو عدد البنادق، وليس مدى قدرة حامليها على المواجهة. ومع تصاعد الانهيارات النفسية، عاد الجيش لتجنيد من يعانون من إعاقات عقلية تفوق 50 %، أي أنه يدفع بهم عمدًا نحو حافة الانفجار.

الاحتلال كعامل تفكك نفسي… لا مشروع قومي

ما لا تريد “المؤسسة الإسرائيلية” الاعتراف به هو أن جوهر الأزمة أعمق من الحرب نفسها. إنها أزمة “المعنى”. فالجندي لا يحارب دفاعًا عن وطن، بل يحارب في مشروع استعماري عنصري، ضد شعب يطالب بحقه في التحرر والكرامة.

في هذه الحرب، لم تعد “أسطورة الجيش الأخلاقي” قابلة للتصديق حتى بين الجنود أنفسهم. فكلما تعمقت الوحشية، زاد الاغتراب النفسي. الصور التي ينشرها الجنود لأنفسهم وهم يضحكون فوق جثث الفلسطينيين، أو يتفاخرون بتدمير منازل، تتحول إلى كوابيس لاحقًا. فالضمير لا يُقمع إلى الأبد.

ولعل عبارة “لقد أصبحت خطرًا… قنبلة موقوتة”، التي كتبها الجندي إدري، تلخص تمامًا هذه المعادلة.

مقارنة تاريخية.. هل يعيد التاريخ نفسه؟

ظاهرة الانتحار في الجيوش ليست جديدة، وقد شهدتها جيوش كبرى في لحظات الهزيمة أو التراجع الاستراتيجي. في نهاية الحرب العالمية الثانية، انتحر مئات الجنود الألمان بعد فقدانهم الإيمان بانتصار الرايخ. وفي العراق وأفغانستان، سجّلت الجيوش الأمريكية معدلات انتحار غير مسبوقة، دفعت البنتاغون إلى الاعتراف بأن “الانتحار هو أعقد مشكلات الجيش الأمريكي”.

الفارق اليوم أن ما يحدث “للجنود الإسرائيليين” ليس في لحظة انسحاب أو هزيمة شاملة، بل أثناء المعركة، أي أن الانهيار النفسي يسبق حتى الانهيار العسكري، وهذه ظاهرة فريدة لم تعشها “إسرائيل” من قبل.

من الحرب إلى الدولة.. آثار زلزالية مقبلة

ما يجري في غزة اليوم لا يخص الجيش فقط، بل سينعكس حتمًا على “المجتمع الإسرائيلي” ككل. آلاف الجنود العائدين سيشكّلون قنبلة اجتماعية موقوتة. الاضطرابات النفسية ستنعكس في العلاقات الأسرية، الجريمة، الانعزال، وحتى الانفجار السياسي داخل “المجتمع الإسرائيلي”، خاصة إذا ما عادت الحرب دون تحقيق “نصر واضح”.

يجب أن نتذكّر أن الكيان الصهيوني لا يمكنه الاستمرار دون جيش قوي نفسيًا قبل أن يكون قويًا عسكريًا. وحين يبدأ هذا الجيش في التآكل من الداخل، فإن المشروع الصهيوني نفسه يصبح معرضًا للانهيار.

حين ينتحر الجندي.. ينهار السرد

في النهاية، الانتحار ليس حدثًا فرديًا، بل هو فعل رمزي عميق، يكشف تهاوي السردية الكبرى التي قام عليها “الجيش الإسرائيلي”: التفوق، الثقة، الأخلاق، والمناعة. حين يضغط الجندي على الزناد، لا يُنهي حياته فقط، بل يُنهي جزءًا من الرواية الصهيونية نفسها.

هؤلاء ليسوا فقط “ضحايا طوفان الأقصى”، بل هم في الحقيقة “ضحايا المشروع الصهيوني”، حين يتهاوى تحت ثقل أكاذيبه، وتبدأ أسطورته العسكرية بالذوبان في لهيب الواقع.

 

* كاتب وباحث فلسطيني

 

 

 

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

الجيش الروسي يستهدف مواقع للصناعة العسكرية والطاقة في أوكرانيا

أعلنت وزارة الدفاع الروسية، اليوم السبت، أن قواتها شنت هجوما باستخدام صواريخ كينجال باليستية فرط صوتية على مؤسسات للمجمع الصناعي العسكري الأوكراني ومنشآت الطاقة التي تدعم عملها.

وزارة الدفاع الروسية تعلن السيطرة على بلدة أوستابيفسكي في منطقة دنيبروبتروفسك الأوكرانية

وقالت في بيان صحفي، إن القوات المسلحة الروسية نفذت هذه الليلة ضربة واسعة النطاق بأسلحة دقيقة، بما في ذلك صواريخ كينجال، على شركات الصناعات الدفاعية الأوكرانية.

 

وأضافت الوزارة أن القوات الغربية التابعة للجيش الروسي، حققت انتصارا ساحقا على القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة خاركيف وجمهورية دونيتسك، مشيرة إلى أن خسائر العدو بلغت أكثر من 220 جنديا ودبابتين في يوم واحد.

 

وأوضحت في بيانها أن القوات المسلحة الروسية تواصل تدمير تشكيلات القوات المسلحة الأوكرانية المحاصرة في ديميتروف، بالإضافة إلى تطهير مناطق سفيتلوي وغريشينو في جمهورية دونيتسك، كما حسّنت وحدات مجموعة القوات الجنوبية وضعها التكتيكي وهزمت تشكيلات القوات المسلحة الأوكرانية، مع خسائر بلغت 190 جنديا.

 

من جهته، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إن روسيا استهدفت قطاع الطاقة وجنوب البلاد ومنطقة أوديسا مساء أمس، بأكثر من 450 طائرة مسيرة و30 صاروخا.

 

وأشار في تدوينة عبر صفحته الرسمية بمنصة إكس، إلى تضرر أكثر من 12 منشأة مدنية بمختلف أنحاء البلاد، منوهًا أن آلاف العائلات لاتزال بدون كهرباء، بعد الهجمات الليلية التي استهدفت مناطق: كيروفوغراد، وميكولايف، وأوديسا، وسومي، وخاركيف، وخيرسون، وتشيرنيهيف.

 

وذكر أن السلطات تعمل على إعادة الكهرباء والمياه الى المناطق المتضررة من هجوم روسيا، قائلا: موسكو تهدف إلى تدمير أوكرانيا وليس إنهاء الحرب.

 

أردوغان بعد لقاء بوتين: السلام ليس بعيدا

 

قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال عودته إلى بلده بعد اجتماع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، إنه يأمل في مناقشة خطة السلام بين أوكرانيا وروسيا مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مضيفا أن السلام ليس بعيدا.

 

ونشر مكتب أردوغان اليوم السبت، هذه التصريحات التي أدلى بها للصحفيين خلال رحلة عودته من تركمانستان حيث التقى مع بوتين، أمس الجمعة.

 

واقترح أردوغان على نظيره الروسي، خلال لقائهما في تركمانستان، الجمعة، وقفاً جزئياً لإطلاق النار مع أوكرانيا، يشمل على وجه الخصوص منشآت الطاقة والموانئ.

 

وقال مكتب الرئاسة التركية، إن الجانبين ناقشا خلال اجتماعهما بالتفصيل، جهود السلام الشاملة المتعلقة بالحرب، إضافة إلى ملف تجميد الاتحاد الأوروبي للأصول الروسية.

 

وأعرب أردوغان عن استعداد تركيا لاستضافة اجتماعات بمختلف الصيغ، مؤكداً التزام بلاده بدعم جهود إحلال السلام بين موسكو وكييف.

 

وتأتي هذه المحادثات في سياق الدور الذي تحاول أنقرة الحفاظ عليه منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير 2022، إذ تواصل تركيا طرح نفسها وسيطاً قادراً على التواصل مع الطرفين.

 

وسبق لتركيا أن استضافت جولات تفاوض مباشرة بين موسكو وكييف في إسطنبول، كما لعبت دوراً محورياً، بالتعاون مع الأمم المتحدة، في التوصل إلى اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود قبل انهياره لاحقاً.

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يتهم «الدعم السريع» بقتل جنود أمميين في كادقلي
  • ألمانيا تعلن إرسال جنود إلى بولندا لدعم تعزيز الحدود الشرقية
  • الحرب القانونية للاحتلال.. تحقيق أوروبي يكشف ذراعا لتعطيل ملاحقة الجنود
  • الجيش الروسي يستهدف مواقع للصناعة العسكرية والطاقة في أوكرانيا بصواريخ “كينجال”
  • الجيش الروسي يستهدف مواقع للصناعة العسكرية والطاقة في أوكرانيا
  • “كيم جونغ” يرسل جنوداً للقتال إلى جانب موسكو
  • بنك إسرائيل: قانون تجنيد الحريديم لن يوفر عدداً كافياً من الجنود
  • الجيش الإيراني يزيح الستار عن منظومة الحرب الإلكترونية “صياد 4”
  • حل لغز القراءات الغريبة التي سجلتها مركبة “فوياجر 2” لأورانوس عام 1986
  • اليونيفيل: جنودنا تعرضوا لإطلاق نار من الجيش الإسرائيلي على طول الخط الأزرق