طبول الـستيل بان.. موسيقى برميل الزيت التي أدهشت البريطانيين
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
كانت تلك هي المرة الأولى التي يكتشف فيها الجمهور البريطاني أن برميل زيت بسعة 55 غالونا يمكن أن يتحول إلى آلة موسيقية مذهلة، وذلك عندما اعتلت أوركسترا ترينيداد للآلات الفولاذية مسرح ساوث بنك في خمسينيات القرن الماضي.
وانبهر الحاضرون بما أطلقوا عليه آنذاك "مقلاة الزيت"، حتى إن بعضهم انحنى ليتفحص أسفل الآلات، متأكدين من أن هذا الصوت العذب يصدر بالفعل منها.
وفي حفل بُث على شاشة التلفزيون البريطاني عام 1950، ظهرت طبول الـ"ستيل بان" -أوانٍ معدنية واسعة مصنوعة من حديد خاص- تُشكّل وتُثقب بطريقة محددة، ثم تُثبت على حوامل معدنية خاصة لضمان إنتاج نغمات موسيقية متقنة.
وعند العزف عليها بعصي مطاطية، تنساب الألحان بسلاسة وهدوء نحو قلب المستمع، في تجربة صوتية غير متوقعة، لا تشبه الإيقاع التقليدي للطبول وقرعها، بل تحمل مزيجا فريدا من أنفاس الطبيعة ورنين الحديد.
تاريخ أوركسترا براميل البترولفي وثائقي أعدته هيئة الإذاعة البريطانية، تم توثيق تاريخ الحفل الأول لطبول الـ"ستيل بان" في بريطانيا، الذي شاركت فيه فرقة تاسبو المكونة من 70 عازفًا على براميل الزيت، جرى اختيار 12 منهم للمشاركة في هذا الحدث الكبير.
كانت تلك أول أوركسترا من جزر ترينيداد، الواقعة على ساحل الكاريبي في أميركا الجنوبية، وهي جزر يشبه سكانها الأصليون سكان أفريقيا، وقد عانوا لقرون من الاستعمار الذي استعبدهم وأخضعهم، قبل أن يتحرروا من قيوده.
ورغم قسوة التاريخ، ظل الإرث الموسيقي لتلك الجزر حاضرًا، ينتقل من جيل إلى جيل، حتى جاء الموسيقي الترينيدادي بوسكو هولدر وفرقته الراقصة ليطوروا عروض الموسيقى الفولاذية، التي قُدمت لاحقًا على المسرح البريطاني في أول حضور لافت لهذا اللون الموسيقي الفريد.
فرقة تاسبو التي قدمت عرضها الأول في بريطانيا، ثم قدمت عرضا آخر في باريس قبل عودتها إلى ترينيداد، حصدت ملايين المعجبين في رحلتها الأوروبية، واشتهر الاثنا عشر عازفا الذين قادوا الفرقة وقدموا معزوفات لم ينسها التاريخ وسجلها الفيلم الوثائقي الذي حمل اسم الفرقة.
إعلانمن الأشياء التي ارتبطت تاريخيا بإنشاء أوركسترا تاسبو، أن قائد الفرقة كان واحدا من رجال الشرطة في ترينيداد، وهو الملازم جوزيف جريفيث، ثم صار الاثنا عشر فنانا الذين كوّنوا اللبنة الأولى لأوركسترا طبول براميل البترول، من أهم أساطين موسيقى الستيل بان حول العالم.
شبانة: الآلات الموسيقية الشعبية نتاج مجتمعهايقول أستاذ الموسيقى الشعبية بأكاديمية الفنون، الدكتور محمد شبانة، في حديثه للجزيرة نت، إن الآلات الموسيقية هي انعكاس لمجتمعها ونتاج لثقافته. وظهور طبول الـ"ستيل بان"، المعتمدة على براميل النفط، كان نتيجة طبيعية لثقافة الشعب الكاريبي، الذي شهد طفرة كبرى عقب اكتشاف البترول.
ويتابع أنه بالنظر إلى ما عانته هذه الشعوب من قوى الاستعمار الخارجي، كان اللجوء إلى الموسيقى المحلية وابتكار آلات شديدة الخصوصية خيارًا للبقاء والحفاظ على الهوية أكثر منه مجرد رغبة في إنتاج الموسيقى.
ويلفت شبانة إلى أن الطبول، على اختلاف أنواعها، ارتبطت بالشعوب التي عانت من فترات استعمار طويلة أو عمليات إبادة جماعية، كما حدث في أفريقيا والأميركتين. فقد كانت الطبول بمثابة صوت صراخ هذه الشعوب، يختلف في نبرته مع كل عزف، فيأتي قويا تعبيرا عن الغضب، وهادرًا ناطقا بالثورة والحرب، وناعما سلسا مترجما عن السلم والازدهار، باكتشاف البترول، كما هي الحال في طبول الـ"ستيل بان".
براميل البترول التي صنعت منها فرق ترينيداد وتوباغو موسيقى الـ"ستيل بان"، لا تختلف كثيرًا عن أعواد القصب والبوص التي استخدمها الفلاح المصري القديم لإنتاج الموسيقى، والتي كانت مصدر أول آلة موسيقية عرفها العالم وهي الناي المصري.
يوضح الدكتور محمد شبانة أنه في عام 2023 سجّلت الأمم المتحدة يوم 11 أغسطس/آب يوما عالميا لطبول الـ"ستيل بان"، ليس فقط تقديرا لقيمتها في الموسيقى الشعبية، بل أيضا باعتبارها رمزا للتنمية المستدامة وإعادة توظيف براميل البترول في صناعة الموسيقى.
غير أن هذه الرمزية بدأت قبل ذلك بعقود، ففي عام 1992 أعلن رئيس الوزراء باتريك مانينغ طبول الـ"ستيل بان" رمزًا وطنيًّا في جزر ترينيداد وتوباغو، لترسخ بذلك كهوية ثقافية للشعب. وفي عام 2024، وبعد عام من إعلان الأمم المتحدة، صادق برلمان ترينيداد رسميا على اعتبار الـ"ستيل بان" رمزا وطنيا للبلاد.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً: