عجزت مصر فأصبح سد النهضة واقعا وأمن قومي سوداني
تاريخ النشر: 11th, September 2025 GMT
عجزت مصر فأصبح سد النهضة واقعا وأمن قومي سوداني
أحمد عثمان جبريل
“الحقيقة لا تهزمها الضوضاء، بل تُرسخها”.
– جبران خليل جبران
في زمنٍ تحكمه الوقائع لا التهديدات، يصبح سد النهضة واقعًا جيواستراتيجيًا لا تُجدي معه التصريحات الغاضبة، ولا تُغير شيئًا فيه نبرة “الرد المناسب”.. فقد افتتح السد رسميًا، بحضور أفريقي واسع، وبدعم داخلي إثيوبي لم يضعف رغم كل الضغوط.
لكن في خضم هذا المشهد، هناك سؤال مُلحّ يجب أن يُطرح من داخل الخرطوم لا من خارجها: ما موقع السودان من هذا التحول الكبير؟ وهل نحن شهود عيان على خطر داهم، أم شركاء محتملون في فرصة إقليمية؟
منذ اللحظة التي بدأت فيها إثيوبيا في بناء السد عام 2011، وحتى لحظة تدشينه بالأمس، ظلت القاهرة تتحدث عن “الخط الأحمر”، وتلوّح بورقة “الرد المناسب”، دون أن تُقدِم على أي تحرك فعلي- لا دبلوماسي ناجع، ولا عسكري مباشر.. وهنا يُطرح السؤال المشروع:
لماذا تُركت إثيوبيا تبني السد عامًا بعد عام، مرحلة بعد مرحلة، حتى اكتمل؟..
ولماذا لم تُفعل مصر أي من أوراقها الصلبة خلال مراحل الملء الأولى والثانية والثالثة، حين كان السد لا يزال تحت الإنشاء، وتوازن القوى أكثر مرونة؟
إنَّ من يتأخر عن الفعل في لحظة الحسم، لا يُعوَّل عليه حين تُغلق الأبواب، وتتحول الوقائع إلى حقائق غير قابلة للتفاوض.. انتهى الزمن؛ فاربعة عشر عاما كانت أكثر من كفيلة لتغيير مستقبل هذا السد، أما الآن وبافتتاحه، فقد أصبح السد أمن قومي للسودان قبل أن يكون خطرًا عليه.. هكذا يقول الواقع فقد انضم سد النهضة إلى أمن السودان شاء من شاء وأبى من أبى.
ولذلك نقول إنه وبعيدًا عن الاستقطاب الإقليمي، يجب أن يُفكر السودانيون اليوم بعيون سودانية بحتة: إن أي اعتداء على سد النهضة، سواء كان عسكريًا أو تخريبيًا، لا يُهدد إثيوبيا وحدها، بل قد يكون كارثيًا على السودان قبل غيره.. لماذا؟ لأن سد النهضة يقع فوق سد الروصيرص مباشرة، على بُعد 15 كيلومترًا فقط، أي أن أي تصدع أو انهيار في بنيته سيؤدي إلى تدمير كارثي للسدود السودانية ومناطق واسعة من النيل الأزرق.
هناك ملايين السودانيين يقطنون على ضفتي النهر، ويعتمدون على مياهه في الشرب والزراعة، وأن أي فيضان مفاجئ نتيجة انهيار السد سيتحول إلى كارثة بيئية وإنسانية فورية في السودان.. كارثة لا يمكن أن يتصورها العقل.
من هذا المنطلق، فإن أمن سد النهضة يجب أن يُدرج في صميم الأمن القومي السوداني. التهديدات الموجهة ضد السد- سواء من جهات رسمية أو غير رسمية- لا تخدم السودان في شيء، بل تُقربه من حافة الخطر.
ولكن وسط هذا الواقع الذي أصبح حقيقة لا تزال مخاوف الانهيار موجودة عند بعض السودانيين.. فهل هي حقيقية؟.. إن ما يروّجه البعض، خصوصًا من الأطراف المعارضة للمشروع، لفكرة أن سد النهضة مهدد بالانهيار، بسبب “عيوب في التصميم” أو “غياب دراسات الأمان” أجابت عليه دراسات الخبراء علميا وفنيا، فقد أجمعا من الناحية العلمية والفنية، بأنه لا توجد حتى اللحظة أدلة قاطعة تُثبت أن السد مصاب بتصدعات تهدد وجوده.
فما نعرفه علميًا، أن السد صُمم من قبل شركة إيطالية كبرى (Salini Impregilo)، ونفذته فرق هندسية بخبرات متعددة، ولم تُسجل حتى الآن تشققات حرجة أو تسريبات غير مسيطر عليها وفق بيانات الأقمار الصناعية ومصادر فنية متعددة.
إثيوبيا نفسها ليست في مصلحتها انهيار السد، ولديها موارد كبيرة لحمايته، لكن رغم ذلك، لا يعني هذا أن المخاطر غير موجودة.. أي سد عملاق في العالم يحمل خطرًا محتملاً، سواء نتيجة خطأ بشري أو كارثة طبيعية أو اعتداء خارجي.. وهنا يكمن مربط الفرس: إذا كان السودان هو الأقرب جغرافيًا، فهو كذلك الأكثر عرضة للخسارة في حال حدوث الأسوأ. وبالتالي، فإن دعوات “ضرب السد” التي تُطلق من مصر، ينبغي أن تُقابل في الخرطوم بالرفض الحاسم والصريح.
ولذلك علينا كسودانيين، أن نسأل أنفسنا ما هي مصالح ومكاسب السودان من هذا السد، وما هي مخاوفه وخسائره؟..
إذ تنحصر المكاسب في أولا: تنظيم انسياب مياه النيل الأزرق، ما يُقلل من الفيضانات المدمرة التي اعتادها السودان سنويًا.
ثانيا: فرصة لاستيراد الكهرباء الرخيصة من إثيوبيا عبر الربط الشبكي، مما يخفف من أزمة الطاقة المتفاقمة.
ثالثا: تخفيض الطمي الذي يُقلل فعالية السدود السودانية، ورفع كفاءة التخزين الزراعي.
رابعا: فرصة لتوسيع الرقعة الزراعية باستغلال الانسياب المنتظم.
أما عن المخاوف فنجدها في.. اولا: غياب اتفاق قانوني مُلزم، يجعل إثيوبيا صاحبة اليد العليا في التحكم في تدفقات المياه.
ثانيا: خطر الإفراج المفاجئ عن المياه في أوقات الأزمات أو النزاعات.
ثالثا: تهميش السودان في التفاوض النهائي، خاصة في ظل انشغاله بالحرب الأهلية الداخلية.
ليبقى السؤال الجوهري.. إلى أين يجب أن يتجه السودان الآن؟.. إننا نقول وبدلًا من الارتهان إلى خطابات الغضب القادمة من القاهرة، يجب أن ينتهج السودان سياسة مستقلة وواقعية، تضع أمنه القومي أولًا..
إذ لا مصلحة للسودان في عداء مفتوح مع إثيوبيا، بل في تفاهم فني دقيق على أسس واضحة، تُؤمن له تدفق المياه، وتحميه من الكوارث، وتُدخل في حساباته فرص التعاون الكهربائي والزراعي.
أما الحديث عن “ضرب السد”، فبالنسبة للخرطوم، ليس خيارًا، بل تهديد وجودي يجب صده علنًا، وأسماء لا تزلفا.
إنّ أسوأ ما يمكن أن تفعله الدول هو أن تُخطئ في التوقيت، ثم تحاول تعويض خطأها، بالصوت المرتفع.. سد النهضة حقيقة واقعة، لا تهدمها التهديدات ولا تلغيها البيانات، والسودان اليوم أمام فرصة ليُعرّف أمنه القومي بطريقة جديدة: لا بالانحياز الأعمى لأي طرف، بل بحساب مصلحته أولًا، وأمن شعبه قبل كل شيء… إنا لله ياخ.. الله غالب.
الوسومأحمد عثمان جبريل إثيوبيا الروصيرص الزراعة السودان الملء الثالث النيل الأزرق سد النهضة مصرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: إثيوبيا الروصيرص الزراعة السودان النيل الأزرق سد النهضة مصر سد النهضة یجب أن ی
إقرأ أيضاً:
السودان يتحسّب لتطورات عسكرية في حدوده مع إثيوبيا
الخرطوم- كشفت مصادر رسمية سودانية للجزيرة نت، أن السودان يتحسّب لفتح جبهة عسكرية جديدة في شرقه بعدما سمحت إثيوبيا المجاورة بفتح معسكر لتدريب قوات الدعم السريع ومرتزقة أجانب تابعين لها لمهاجمة إقليم النيل الأزرق المتاخم لحدودها.
وأوضحت المصادر الحكومية -التي طلبت عدم كشف هويتها- أن السلطات الإثيوبية لديها تنسيق عسكري مع قوات الدعم السريع عبر قوى إقليمية تساندها، حيث تم الاتفاق على خطوط إمداد وبناء معسكرات تدريب وتجهيز مهابط طائرات.
وحسب المصادر ذاتها فقد بدأت حركة إمداد ووصول مركبات قتالية ومنظومات مدفعية وأجهزة تشويش عبر مدينة أصوصا عاصمة إقليم بني شنقول قمز في الشمال الغربي من إثيوبيا المتاخم لإقليم النيل الأزرق في السودان، ويوجد به سد النهضة.
تدريب وإمداد
كما كشفت المصادر الحكومية أن هناك تنسيقا استخباريا للجيش الإثيوبي مع الدعم السريع والجيش الشعبي، وهو الذراع العسكرية للحركة الشعبية-شمال في إقليم النيل الأزرق بقيادة جوزيف توكا التابع للحركة بزعامة عبد العزير الحلو، حيث تنتشر قوات توكا في جيوب بالإقليم وتنشط في الشريط الحدودي بولاية أعالي النيل في دولة جنوب السودان.
وأوردت منصات قريبة من السلطات السودانية تفاصيل أخرى عن التطورات الجديدة المرتبطة بالحرب في البلاد، وذكرت أن معسكر التدريب الإثيوبي المخصص للدعم السريع يستوعب أكثر من 10 آلاف مقاتل، في منطقتي منقي والأحمر بمحلية أوندلو، ويشرف عليه الجنرال الإثيوبي غيتاتشو غودينا بتنسيق مع ضباط أجانب تقف دولهم خلف القوات.
وتشمل العناصر الأجنبية المتدربة مرتزقة من دولة جنوب السودان، وآخرين من دول بأميركا اللاتينية أبرزهم مقاتلون كولومبيون، إضافة إلى عناصر من الدعم السريع، كانوا قد فرُّوا من جبهات القتال في السودان وتم تجميعهم وترحيلهم من دارفور.
إعلانوأفادت تلك التقارير، أن الإمدادات اللوجيستية للمعسكر، تصل عبر مينائي بربرة الصومالي ومومباسا الكيني قبل نقلها إلى داخل إثيوبيا.
وأضافت أن جوزيف تكا الذي يتخذ من منطقة يابوس السودانية الحدودية معسكرا رئيسيا لقواته تسلّم أخيرا طائرات مسيرة استخدمت خلال الأيام الماضية واستهدفت مدينتي الدمازين عاصمة إقليم النيل الأزرق والكرمك القريبة من الحدود الإثيوبية انطلاقا من مناطق يابوس ومكلف وبليلة.
وكشفت أن الأسلحة والمعدات القتالية والإمداد اللوجيستي يعبر عن طريق حاضرة إقليم بني شنقول إلى قرى أبورامو وشرقولي وأهوفندو ثم قشن التي تبعد نحو 30 كيلومترا من مدينة يابوس السودانية، لتُسلّم إلى الدعم السريع وقوات الحركة الشعبية التي لها عدة معسكرات في تلك المنطقة، كما يُنقل إمداد الطائرات المُسيّرة جوا.
ويعتقد الاستاذ الجامعي المهتم بالشأن الأفريقي، إسماعيل الأمين، أن التطورات الأخيرة بإقامة معسكر لتدريب مقاتلين من الدعم السريع بالأراضي الإثيوبية، يكشف عن تحول خطر في نمط التدخلات الإقليمية في الأزمة السودانية.
وإذا لم يُواجه بتحرك سوداني وإقليمي ودولي فاعل -يضيف الأمين للجزيرة نت- فإن الحرب ستدخل مرحلة جديدة أكثر دموية، وتهدد الأمن والاستقرار في القرن الأفريقي، حيث إن السودان وإثيوبيا أكبر دول الإقليم بجانب موقعهما الجيوسياسي.
ويرى أنه في ظل الضغوط الاقتصادية والتوتر في بعض أقاليم إثيوبيا يبقى من غير المرجح أن تمتلك أديس أبابا المقدرة المالية لخوض حرب كبيرة جديدة، وسيكون انخراطها عسكريا في الأزمة السودانية مصدرا محتملا لمزيد من عدم الاستقرار داخل إثيوبيا، إذ تمتلك الخرطوم أوراق ضغط يمكن أن تؤذي جارتها أمنيا للتداخل الحدودي وانتشار جماعات مسلحة معارضة لها قرب الحدود.
"شد الأطراف"من جانبه، يقول الكاتب والمحلل السياسي يوسف عبد المنّان، إن ما يحدث في حدود السودان الشرقية هو سياسة "شد الأطراف"، حيث يمر الإمداد العسكري واللوجيستي للدعم السريع عبر الحدود مع شرق ليبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد وجنوب السودان وأخيرا إثيوبيا.
ويشبّه عبد المنّان في تصريح للجزيرة نت، التطورات الجديدة بما جرى في منتصف التسعينات، حين سعت واشنطن لإسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير عبر عملية "الأمطار الغزيرة"، حيث شاركت أوغندا وإثيوبيا وإريتريا في دعم قوات الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق وشنّت هجوما متزامنا على حدود السودان الجنوبية والشرقية انطلاقا من الدول الثلاث لتغيير نظام الحكم أو حمله لتوقيع اتفاق سلام مع المتمردين.
ومنذ الأسابيع الأولى لاندلاع الحرب في السودان، اتسم موقف إثيوبيا بتقارب بقيادة الدعم السريع وقوى سياسية متحالفة معها، واستضافت مسؤولين من القوات والقوى المعارضة خلال قمة زعماء دول المنظمة الحكومية للتنمية "إيغاد" في يوليو/تموز 2023 التي انسحب منها الوفد السوداني احتجاجا على ذلك.
وقد أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، آنذاك، غضب الخرطوم، حين ادّعى أن السودان يعاني من فراغ في القيادة، وطالب بنشر قوات أفريقية وبفرض منطقة حظر طيران في البلاد.
إعلانوزار آبي أحمد بورتسودان في يوليو/تموز 2024 وأجرى مباحثات مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان، لإذابة الجليد بينهما، والتوسط لاحتواء التوتر بين الخرطوم وأبوظبي، كما زار مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين بورتسودان في يوليو/تموز الماضي في مهمة لم تُعلن نتائجها.