الدبلوماسية هي مدرسة الكلمة؛ يُحسب فيها للكلمة ألف حساب، هي مُبدئة الحروب ومُنهيتها.
في حديثٍ مع أحد الدبلوماسيين ذكر أنه حينما تفاوض أمريكياً أسمر البشرة فغالباً ما يكون أكثر تشدداً ليؤكد على وطنيته، وهو ما يعني أنه رغم أن للتفاوض والدبلوماسية قواعد وأصولًا حاكمة، لكنها كأي ممارسة إنسانية أخرى تتأثر بالسمات الشخصية للاعبين.
لا تقاتل الثور:
هناك قول مأثور ينصح في جزءٍ منه بألا تقاتل الثور، والثور في هذه المقالة رمزٌ لكل خصمٍ قوي، عنيد، غشيم. فحينما تقاتل خصماً يعرف كلاكما أنه الأقوى، وأنه لن يتراجع عن تحطيمك، فوقوفك في وجهه يعد غباءً وانتحاراً، ولكن عليك أن تستخدم طرقاً أخرى غير المواجهة المباشرة التي سوف تخسرها بالطبع، ولا ضير حينها أن تتراجع عن مناطحة الثور الهائج.
ينطبق المثال السابق بشكلٍ كبير على التعامل مع الإدارة الأمريكية في ظل حكم الرئيس ترامب، الذي يعلم هو قبل غيره أنه بوضعه الحالي في قوة الثور وغشمه، وأنه لا يتردد في نطح كل من يفكر في الوقوف أمامه، طالما أيقن أنه أضعف منه، ولكن رغم ذلك فإن هذا الطبع يتغير، ويتسم الثور بقدرٍ من التعقل حينما يواجه خصوماً في مثل قوته مثل روسيا- خاصة في ظل رئاسة بوتين- والعملاق الصيني.
أدركت الدبلوماسية الإيرانية قواعد هذه اللعبة منذ فترة كبيرة، ومن ثم أخذت تستخدمها في مواجهة الضغط الأمريكي الأوروبي، الذي يفرض إرادته على غالبية دول العالم، فتاريخ الإمبراطورية الفارسية والشخصية الإيرانية العريقة لم يسمح لها بالخضوع لمحاولات الإذلال الغربية، لكنها في الوقت نفسه لم تصطدم بهم إلى مرحلة عدم الرجعة.
استفاد النظام الإيراني في بداية تفكيره في إعادة هيكلة دوره الإقليمي والدولي من ازدواحية القرار مع صعود الإصلاحيين إلى رأس الحكومة وخاصة مع بداية رئاسة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي في مواجهة الغرب وكذلك في إدارة ملف المفاوضات النووية لرفع العقوبات في عهد الرئيس روحاني، ورغم أن ازداوجية النظام الإيراني ليست متوازنة، نظراً للفارق الشاسع بين منصب المرشد والرئيس الإيراني وبين وضع المحافظين- الطرف الأقوى- والإصلاحيين، ولكن رغم ذلك استغل النظام وجود الإصلاحيين على رأس السلطة التنفيذية، فرغم أن الكلمة الأولى في إيران هي للمرشد الأعلى، ورغم قدرته على فرض خطاب سياسي موحد ملزم تجاه الغرب حتى لرأس السلطة التنفيذية- رئيس الجمهورية- لكنه لم يفعل ذلك وترك الأمر متنفساً كشعرة معاوية، كي لا تصل الأمور إلى مرحلة اللاعودة، وبينما يتولى المرشد الإيراني والأصوليون خطاباً متشدداً تجاه المفاوضات الإيرانية، لكنه سمح باستئناف المفاوضات وتبني خطاباً سياسياً أكثر دبلوماسية من الرئيس ووزير خارجيته، وهذا ما حافظ على عدم وصول التصعيد إلى ذروته، ولولا دور الإسرائيلي نتنياهو ورعونة ترامب، لما كان من الممكن أن تحدث الحرب المفاجئة في يونيو الماضي.
الأسلوب نفسه اتبعته حركة حماس في ردها على مقترح الرئيس الأمريكي للسلام في غزة، فبنود الاتفاق في مجملها هي محاولة لاقتناص أي نصر لإنقاذ نتنياهو وحكومته من مستنقع الحرب الذي غرق فيه هو وحكومته لمدة عامين، والذي جعله في منتصف البحر، فلا هو قادر على إنجاز ما بدأه، ويثنيه خجل الهزيمة عن الرجوع.
هدّأ هذا الاتفاق قليلاً من غضب بعض الأنظمة في العالم، وأصبح الجميع في ترقب لنتيجة هذه المحاولة لفرض السلام بالقوة والغبن والتهديد من الرئيس الأمريكي الذي راعى أن يخرج منتصراً في حالتي القبول أو الرفض.
في حالة القبول فسوف ينزع سلاح حزب الله، ويضمن وجوداً رسمياً له ولحلفائه في غزة، وينقذ نتنياهو من مذلة عدم الانتصار. وفي حالة الرفض فسوف يكسر التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني المُباد لأنه رفض الصلح، وسوف يجعل من ذلك الرفض ذريعة لتدخل مُعلن أكثر وحشية وإبادة.
رغم تهديد ترامب بجزاء أشنع في حال رفض حماس لمقترحه للسلام، لكن تهديده مفرغٌ من مضمونه إلى حد كبير، لأن أمريكا لم تتورع عن دعم إسرائيل في إبادتها لغزة بكل أشكال الدعم العسكري واللوجيستي والسياسي، حتى أنها صوتت 6 مرات لصالح عدم إنهاء الحرب في غزة في مجلس الأمن. ولكن رفض حماس كان سيمنح الأمريكي مزيداً من الجرأة في دعم إسرائيل، بعدما اضطر لاتخاذ موقف أكثر حياداً في الظاهر بعد الغضب والرفض العالمي لدعمه الإبادة.
"استخدم قوة الثور":
تجاوزت حماس في ردها الدهاء الإيراني، وانتبهت للقنبلة التي أُلقيت بين يديها، وقررت قبول مبادرة الرئيس الأمريكي والثناء عليه وعلى سعيه لإنهاء الحرب، وأعلنت موافقتها على تسليم الرهائن، لتبطل بذلك حجة نتنياهو في مواصلة الحرب حتى استرداد كافة الرهائن، كما أعلنت عن الدخول في المفاوضات المتعلقة بطريقة التسليم، تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية مستقلة، وأوكلت القضايا المتعلقة بمستقبل القطاع وحقوق الشعب إلى الإجماع الوطني، لكسب الوقت. وتجاهلت التعليق على الإملاءات التي لم ترق لها، مثل نزع سلاح الحركة، وبهذا أعادت القنبلة مرة ثانية إلى نتنياهو، وعادت هي إلى موقع المترقب مرة ثانية، وأثنى الرئيس الأمريكي على موافقتهم على المقترح وتعظيمهم للسلام. وجاء التعليق المصري على رد حماس متماشياً مع استراتيجيتها من الثناء على الإدارة الأمريكية، والتأكيد على النقاط المتفق عليها والتي أقرتها حماس في الخطة المقترحة، وتجاهل لأي دور إسرائيلي في اتخاذ القرار، بما يعكس قدرة على التعامل مع الثور.
أستاذ الدراسات الإيرانية بكلية الآداب جامعة عين شمس
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الرئیس الأمریکی
إقرأ أيضاً:
أزمة المياه تبلغ ذروتها.. الرئيس الإيراني: لا مفر من نقل العاصمة
في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، لوّح الرئيس بإمكانية إخلاء العاصمة إذا لم تهطل الأمطار قبل حلول الشتاء، دون تقديم تفاصيل إضافية.
اعتبر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الخميس، أن نقل العاصمة من طهران لم يعد خياراً قابلاً للتأجيل، بل ضرورة تفرضها الأزمات المتفاقمة التي تشهدها المدينة، وفي مقدمتها الاكتظاظ السكاني وأزمة المياه الحادة.
ويأتي هذا التصريح بعد تسجيل العاصمة أدنى مستويات هطول للأمطار منذ قرن، وفق ما أوردته وكالة "إرنا" الرسمية.
"لا خيار آخر"وقال بزشكيان: "الحقيقة هي أنه ليس لدينا خيار آخر، هذا النقل ضرورة. لا يمكننا أن نثقل كاهل هذه المنطقة بمزيد من السكان والبناء"، وأضاف أن تطوير العاصمة ممكن، "لكن لا يمكن حل مشكلة المياه فيها"، وفقاً لوكالة الأنباء الإيرانية.
وفي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، لوّح الرئيس بإمكانية إخلاء العاصمة إذا لم تهطل الأمطار قبل حلول الشتاء، دون تقديم تفاصيل إضافية.
تعاني طهران هذا العام صيفاً أشد حرارة وجفافاً من المعتاد، بينما بقيت قمم الجبال المحيطة بها بلا ثلوج على غير العادة.
وفي مواجهة نقص المياه، شرعت الحكومة في قطع الإمدادات بشكل دوري عن سكان المدينة البالغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، في محاولة للحد من الاستهلاك.
وقال وزير الطاقة عباس علي عبادي للتلفزيون الرسمي مطلع الشهر الجاري إنه "بسبب أعمال صيانة أنابيب المياه المتقادمة، قد نُضطر إلى خفض ضغط المياه إلى الصفر في بعض الليالي".
انتقادات واسعة.. والحكومة توضحفكرة نقل العاصمة أثارت موجة انتقادات في وسائل الإعلام المحلية، وأوضحت الحكومة لاحقاً أن الرئيس لم يطرح خطة إخلاء فعلية، بل أراد تسليط الضوء على خطورة الوضع الحالي.
وفي خطوة تهدف لتعويض نقص الأمطار، أعلنت السلطات مؤخراً بدء عمليات تلقيح السحب لتحفيز الهطول.
وباشرت السلطات الإيرانية عمليات تلقيح السحب في حوض بحيرة أرومية شمال غرب البلاد، في محاولة لتعزيز هطول الأمطار خلال أسوأ موجة جفاف تشهدها البلاد منذ عقود، وفقًا لوكالة إرنا.
وقال محمد مهدي جواديان زاده، رئيس منظمة تطوير واستغلال تكنولوجيا المياه الجوية، إن أول عملية لهذا العام أُجريت بعد مرور نظام جوي مناسب، وستستمر العمليات حتى منتصف أيار/مايو المقبل إذا توفرت الظروف الملائمة. وأكد أنّ التقنية المثبتة عالميًا تُستخدم في إيران فقط لزيادة الهطولات في أحواض المياه، مع توضيح قدراتها لتجنب توقعات مبالغ فيها.
Related "تلقيح السحب".. إيران تلجأ إلى تقنية جديدة لمواجهة أسوأ موجة جفاف منذ عقودأزمة غير مسبوقة في إيران.. طهران مهددة بانقطاع مياه الشرب خلال أسبوعين فقطالجفاف يشتد في إيران: طهران تلجأ إلى التقنين وسط تراجع خطير في مخزون المياهويقوم الأسلوب على استمطار السحب بمواد كيميائية مثل يوديد الفضة، وقد أعلنت طهران العام الماضي تطوير تقنيتها الخاصة بهذا المجال.
وأشارت "إرنا" إلى أنّ عمليات لاحقة ستُجرى في محافظتي أذربيجان الشرقية والغربية، مع محاولة تثبيت طائرة تلقيح سحب مخصصة في مطار تبريز لتغطية المناطق المجاورة
خطة قيد الدراسة ولا قرارات ملموسةومنذ العام الماضي، يكرر بزشكيان الإشارة إلى الازدحام المروري الحاد، ونقص المياه، والتلوث الشديد، وسوء إدارة الموارد كعوامل رئيسية تدفع نحو نقل العاصمة.
وفي كانون الثاني/يناير، قالت المتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني إن السلطات تدرس إمكانية نقل العاصمة إلى منطقة مكران على الساحل الجنوبي، رغم معاناتها من ضعف كبير في التنمية.
ومع ذلك، لم تُعلن السلطات عن أي خطوات تنفيذية حتى الآن، فيما يتواصل الجدل الداخلي حول هذا الاقتراح.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة