إسرائيل.. بين الانهيار وإعادة التموضع
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
عبدالنبي الشعلة
منذ اندلاع الصراع العربي الإسرائيلي قبل أكثر من سبعة عقود، لم يكن ميزان القوة العسكرية يومًا في صالح العرب والفلسطينيين؛ فكل المواجهات والحروب التي خيضت ضد إسرائيل انتهت، للأسف، بنتائج عكسية؛ إذ فقد العرب أراضي جديدة وتراجعت الحقوق الفلسطينية وتقلّصت الآمال في قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لقد قُلتها من قبل وأكررها: لم يعد ممكنًا للعرب والفلسطينيين، حتى لو حسنت نواياهم وتوحدت صفوفهم، أن يحققوا حلمهم المشروع في استعادة الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني- من النهر إلى البحر- عبر القوة العسكرية. إن السبيل الوحيد الممكن الآن هو استخدام قوة العقل والمنطق والقانون؛ فهي القوة التي تكفل استعادة ما تبقى من الحقوق، وصون الكرامة من دون تدمير الإنسان أو إحراق المستقبل.
إنَّ العالم اليوم يقف عند مفترق حاسم، ومعه منطقتنا التي أنهكتها الحروب والصراعات. ولعلّ خطة الرئيس دونالد ترامب لوقف الحرب في غزة تفتح نافذة أمل جديدة، إذا ما أحسن الفلسطينيون والعرب والإسرائيليون التعامل معها بعقلانية وشجاعة. فالمبادرة- رغم ما تحمله من صعوبات وتحديات- تُمثِّل أول اتفاق متوازن منذ سنوات يلتزم به الطرفان الأساسيان، وتجد دعمًا إقليميًا ودوليًا متناميًا لأنها تنطلق من واقعية سياسية لا تنكر المأساة الفلسطينية، لكنها تسعى إلى إنهاء دوامة الدم والانتقام.
إن الصعوبات الحقيقية أمام تنفيذ الخطة ليست خارجية فحسب، بل داخلية أيضًا، خصوصًا في إسرائيل ذاتها؛ فالمجتمع الإسرائيلي بعد "طوفان الأقصى" لم يعد كما كان قبله؛ إذ تغلغل اليمين المتطرف في مفاصل الدولة والمجتمع، وارتفع الخطاب الداعي إلى الإقصاء والهيمنة ورفض قيام الدولة الفلسطينية. وتشير تقارير واستطلاعات منشورة في الصحف الإسرائيلية إلى اتساع هذه النزعة بين الإسرائيليين، بما يعكس حجم التحوّل الذي أحدثته الحرب في وجدانهم وسلوكهم السياسي.
هذا التطرف ليس طارئًا؛ بل امتداد لجذور فكرية عميقة تعود إلى منظّرين مثل جابوتنسكي والحاخام كهانا، الذين أسسوا لمفهوم "إسرائيل الكبرى" القائم على رفض الحلول السلمية والتوسع الدائم في الأراضي المحتلة. ومع كل أزمة جديدة، يعيد اليمين المتشدد إنتاج هذا الفكر بأشكالٍ أكثر حدة، ويستثمر الخوف والألم للبقاء في الحكم، كما يفعل اليوم بنيامين نتنياهو وحلفاؤه.
ومن المفارقات أن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة وجدت في أحداث 7 أكتوبر 2023 فرصة وذريعةً لإخماد أصوات دعاة التعايش والسلام في الداخل الإسرائيلي، وعلى رأسهم حركة “السلام الآن” ومثقفون إسرائيليون كثيرون يرون في استمرار الاحتلال خطرًا على هوية الدولة ومستقبلها. وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام خطة ترامب للسلام؛ فنجاحها يتوقف على قدرة الإسرائيليين على التحرر من خطاب التطرف والكراهية والانتقام، وإدراكهم أن أمنهم الحقيقي لا يتحقق بإخضاع الفلسطينيين، بل بالتعايش معهم على أساس العدالة والمساواة.
إن الفلسطينيين والعرب أمامهم فرصة نادرة لإعادة بناء موقفٍ موحّد يستند إلى الواقعية السياسية لا إلى الانفعال العاطفي. وعليهم أن يدركوا أن كسب الرأي العام العالمي اليوم أصبح ممكنًا أكثر من أي وقت مضى، بعد أن شاهد العالم حجم الدمار والمعاناة الإنسانية التي لحقت بشعب غزة، وبدأ يتعاطف بصدق مع قضيتهم العادلة. هذا التحوّل الأخلاقي في المواقف الدولية يجب استثماره لإحياء مسار المفاوضات وإقناع القوى الكبرى بأنَّ السلام لا يمكن أن يكون سلام المنتصر على المهزوم، بل سلام الشجعان الذين يعترفون بحق كل طرف في الوجود والكرامة.
ودعم خطة ترامب للسلام لا يعني بالضرورة تبني كل بنودها حرفيًا؛ بل التفاعل معها بوصفها منصة انطلاق نحو حلٍّ أشمل يضمن للفلسطينيين دولة قابلة للحياة، وللإسرائيليين أمنًا واستقرارًا دائمين. فالتاريخ يعلمنا أن السلام الحقيقي لا يُفرض من الخارج، بل يُبنى من الداخل، حين تتوافر إرادة صادقة لدى الشعوب والقادة على حد سواء.
وإذا لم تُستثمر هذه الفرصة، فإن البديل سيكون استمرار الانقسام والتطرف، وربما دخول المنطقة في موجة عنف جديدة لا يعرف أحد مداها. والدول لا تنهار عادة بفعل أعدائها الخارجيين؛ بل بسبب عوامل التآكل الداخلي التي تضعف تماسكها وتفتت قيمها. ولعلّ التجربةَ السوفييتيةَ مثالٌ واضح: قوةٌ نووية هائلة، لكنها انهارت من داخلها حين فقدت توازنها الاقتصادي والسياسي والأخلاقي.
من هنا، فإن إسرائيل، رغم قوتها الظاهرة، ليست بمنأى عن هذا المصير إذا استمرت في تبني سياسات التطرف والاستبداد والعدوان، واحتقار حقوق الآخرين وإنكار واقع التعدد والتعايش الذي لا مناص منه في هذه المنطقة؛ فالدولة التي تزرع الكراهية وتحكمها الأيديولوجيا بدل القانون، ستجد نفسها يومًا فريسةً لصراعاتها الداخلية، مهما امتلكت من ترسانة سلاحٍ أو دعمٍ خارجي.
إنَّ خطة السلام الراهنة التي أطلقها الرئيس ترامب تبرز كفرصة لإعادة التموضع- ليس لإسرائيل وحدها، بل لكل دول المنطقة- في اتجاهٍ جديد قوامه التنمية والشراكة والتعاون. فبعد كل ما جرى من مآسٍ وقتل ودمار، بات على الجميع أن يدرك أن الأمن لا يُشترى بالدم، وأن السلام ليس ضعفًا، بل هو قمة القوة والعقل.
ولعلّ في هذا الإدراك بداية الطريق نحو شرق أوسط مختلف، يتصالح مع ذاته ويعيد للعقل مكانته وللإنسان كرامته. عندها فقط يمكن القول إن «طوفان الأقصى» قد انتهى، لا بالخراب؛ بل بولادة عهدٍ جديد من السلام والاستقرار.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الدويري: إسرائيل لا تعرف إلا لغة القوة وعندما تكون ضعيفا لا تعبأ بك
أكد اللواء محمد إبراهيم الدويري، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية السابق، أن التاريخ أثبت أننا نستطيع أن نوقع سلاما مع قيادة إسرائيلية متطرفة أو متشددة، لكن لابد من الاستعداد.
وتابع الدويري خلال استضافته ببرنامج "الجلسة سرية" الذي يقدمه الكاتب الصحفي والإعلامي سمير عمر، على شاشة "القاهرة الإخبارية": "عملنا معاهدة السلام مع بيجين وهو زعيم عصابة، وشارون انسحب من قطاع غزة ونتنياهو وقع في 1998 اتفاق الخليل، الذي بمقتضاه حصل إعادة انتشار في الضفة الغربية، وترك جزءا للسطلة الفلسطينية، ولكن عندما تتعامل مع هذه القيادات العسكرية المتطرفة يجب أن تكون قويا، لأن إسرائيل لا تعرف إلا لغة القوة وعندما تكون ضعيفا لا تعبأ كثيرا بك".
وتابع: "نتنياهو كان متشددا للغاية في البداية كما يفعل الآن، لكن بالضغط عليه والضغط الشعبي لأن شاليط كان أول عسكري إسرائيلي يخطف من داخل إسرائيل، فكان هناك زخما شعبيا وضغوط شعبية كثيرة، ومطالبات، وكذلك أن شاليط كان حاصلا على الجنسية الفرنسية، ووساطات ومورست على نتنياهو ضغوط كثيرة، وكذلك فشل إسرائيل في الوصول إلى شاليط، وهذه العوامل مجتمعه اتخذوا قرار الافراج عن أكثر من ألف أسير فلسطيني".