«فاروق شوشة» عمر من الإذاعة والثقافة
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
إيهاب الملاح -
(1)
على مدى سنوات طويلة وأنا أحاول فهم ما أعتبره ظاهرة «فاروق شوشة» (1936-2016). لا أظن أن الاسم رغم رحيل صاحبه منذ تسع سنوات بعيد عن وجدان جماهير غفيرة من المتصلين بالشعر والأدب والثقافة والإذاعة! عبر نصف قرن أو يزيد احتل الرجل مكانته في نفوس محبي اللغة العربية والشعر العربي ببرنامجه اليومي (لغتنا الجميلة)
كان تأثير فاروق شوشة كبيرا جدا ومؤثرا جدا في وجدان أجيال وأجيال وأجيال (خاصة من بداية الستينيات وحتى نهاية القرن العشرين) ممن احترفت الكتابة والصحافة والعمل الإذاعي والإعلامي عمومًا.
لفتني جدا وأنا أترحم عليه وأستدعي بعضا من سيرته العامرة في ذكرى رحيله التاسعة، حضوره القوي في نفوس العشرات من أجيال متباينة منهم من هو في العشرين من عمره وصولا إلى من تجاوزوا الستين والسبعين!
(2)
كان فاروق شوشة يحتل مكانة كبيرة جدا ومساحة ضخمة جدا من خريطة أو نوافذ الإعلام العربي المتاحة على مدى أكثر من نصف قرن أو يزيد. كان مسموعا وبشكل يومي منتظم من خلال برنامجه الخالد (لغتنا الجميلة) ولحسن الحظ أنه ما زال يبث بصوته حتى الآن على أثير البرنامج العام من القاهرة.
وكان مقروءا بجماهيرية كثيفة من خلال مقاله الأسبوعي في الأهرام ومقاله الشهري في مجلة العربي الكويتية الأوسع انتشارا وجماهيرية منذ عام 1958.
وكان يتابعه جمهور التليفزيون مرئيا من خلال برامجه الثقافية الممتازة التي وثق فيها ومن خلالها للقاءات وحوارات مع أعظم العقول والمفكرين والمثقفين والمبدعين المصريين والعرب؛ ومن ينسى حلقات برنامجه «شريط الذكريات» أو «أمسية ثقافية» أو «شموع» أو غير ذلك من حلقات تلفزيونية خاصة التقى فيها بأسماء ربما لا يوجد لها تسجيل مرئي أو صوتي واحد إلا مع فاروق شوشة.
وما زلت عند رأيي وظني بأن تاريخنا الثقافي على مدى قرنين من الزمان مهدر وغير موثق، ولم يكتب على وجهه الصحيح ما دامت هذه التفاصيل الرائعة وهذه الصفحات الغنية الخصبة تائهة متفرقة مشرذمة لم تجد من يجمع شتاتها ويلم شعثها ويرتبها ويصنفها ويعيد وضعها في إطارها النوعي، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة التحليل والربط والكتابة لنصل إلى صورة دقيقة واضحة المعالم لفترة مضيئة من نشاطنا الإعلامي والثقافي والفكري.
تسع سنوات كاملة مرت سراعا على رحيل فاروق شوشة؛ أحد أجمل الأصوات التي سمعتها تترنم بالعربية، وتتغنى بعذوبتها وجمالها، وتصدح بروائعها شعرا ونثرا، صاحب الصوت الذي جعل الآلاف (لا أبالغ لو قلت مئات الآلاف) وأنا منهم يدمنون سماع «الراديو»، ويقبلون بشغف عظيم على تعلم اللغة العربية وتذوق روائعها والتمتع بجمالها على كل المستويات، بل زاد على ذلك كله الرغبة العارمة في ممارسة هذا العمل ذاته، وأن أتمنى أن أصير ذات يوم إلى هذا المستوى العالي من الحديث العذب الجميل الممتع، وهذا الحضور وهذه التلقائية المتدفقة دون تلعثم أو ارتباك أو توتر مما أصبح هو القاعدة وليس الاستثناء!
بسبب عذوبة وجمال صوت فاروق شوشة وحده، نشأت أجيال (ليس في مصر وحدها بل في عموم العالم العربي كله) من محبي الإذاعة واللغة العربية وروائع شعرها ونثرها، ورغبت في أن تحترف العمل الإذاعي والتعليق الإذاعي، وتقديم البرامج الثقافية، وكان برنامجه الأشهر «لغتنا الجميلة» نسمة هواء منعشة وسط قيظ لغوي خانق، وكذلك الصفحات الممتعة التي كان يحررها في مجلة (العربي) الكويتية على مدى أكثر من 25 عاما متصلة، كانت تحمل من الفائدة والمعرفة والمتعة ما لا ليس له نظير في الدوريات الأخرى.
(3)
وفي ظني، إذا كان هناك من أحدٍ، بعد طه حسين، قد لعب دورًا في جسر الهوة بين الشعر العربي القديم وبين الراغبين في قراءته لكنهم كانوا يتهيبونه ويخشون الاقتراب منه، فهو فاروق شوشة، من خلال نشاطه الواسع في إعادة قراءة وتحليل عيون الشعر العربي بل وتبسيطه وشرحه وبيان أسراره. كان يتميز باختياراته الرائعة وتحليلاته التي كانت تتميز بالعمق والبساطة والجمال معًا.
ولعل، البرامج الإذاعية والكتب التي تركها فاروق شوشة في هذه الدائرة، من أهم وأجل ما يمكن أن يقبل عليه محب للعربية عاشق لفنها الأول «الشعر»، يتعرف ويتلمس مواطن السحر والجمال فيها، بلا إغراق في تفصيل أو تقعير أو غموض (راجع كتبه الرائعة: «لغتنا الجميلة»، و«أجمل عشرين قصيدة حب في الشعر العربي»، و«أحلى عشرين قصيدة في الحب الإلهي»، و«الشعر أولًا والشعر أخيرًا»، و«أصوات شعرية مقتحمة»، و«مختارات من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي».. وغيرها).
راد شوشة هذا الطريق بوحي وإلهام من العميد طه حسين في كتابه الرائد «حديث الأربعاء»، ووجه أنظار النقاد ودارسي الشعر القديم ومتخصصيه إلى ضرورة التوسط بين المقبلين على قراءة ودرس الشعر القديم بتشابكاته اللغوية والجمالية والفنية، وبين النصوص ذاتها. كان من الممتازين الذين أوتوا هذه الملكة وتلك البصيرة في مقاربة هذا الفن المرهوب وأبياته الخالدة، وأن يستطيع تقديمها وتذليل صعوباتها وعوائق تذوقها بهذه السلاسة والعذوبة، وكانت الصفحتان اللتان يحررهما في مجلة العربي واحةَ جمال، ووجبةَ شهية، يستعرض فيهما قصيدة «حلوة» من أجمل قصائد الشعر العربي.
منذ منتصف الخمسينيات، أصبح فاروق شوشة واحدا من النجوم البازغة بقوة في سماء حياتنا الأدبية والثقافية، فترة كان النشاط الثقافي فيها متوهجا مزدحما بالأسماء المبدعة والمتفوقة في كل المجالات، كانوا يكتبون ويبدعون بذوب قلوبهم ويسكبون على معاناتهم الإنسانية وتساؤلاتهم الوجودية وبحثهم المعرفي والجمالي المحموم. وعبر أثير الإذاعة المصرية، انطلق صوت شوشة يصدح بجمال لغتنا العربية؛ ذلك البرنامج المدوي الذي اكتسب شهرته من المحيط إلى الخليج، ينتظره كل عشاق العربية والباحثين عن جماليات الضاد من أبناء أجيال مختلفة رأوا فيه صوتهم، وأنصتوا من خلاله لهمس وجهر لغتهم الجميلة وما تحويه من كنوز ودرر.
عندما التحق فاروق شوشة بالإذاعة، كانت نقلة كبيرة، وكان قد بدأ ينخرط في خضم الحياة الأدبية، وقد استغل عمله بالإذاعة، (ثم بالتلفزيون بعد ذلك)، في جعلهما منارة حقيقية ووسيطا تثقيفيا بامتياز، وصارا منصة إطلاق لنشاط ثقافي محموم ومكثف من خلال برامجه الثقافية التي كان يقدمها، مثل (لغتنا الجميلة)، و(مع النقاد)، و(أمسية ثقافية)، و(شريط الذكريات) وغيرها، كما أتاح له هذا العمل أن يوثق صلاته بأعلام الأدب والفكر لا في مصر وحدها بل في العالم العربي على امتداده، إذ جعل من البرامج التي يقدمها نوافذ يطل منها هؤلاء الأعلام على جماهير المثقفين في الوطن العربي كله.
(4)
بالتأكيد، يحتل فاروق شوشة في وجدان كل محب للثقافة واللغة العربية والشعر العربي مكانة كبيرة، ويظل في قلوب محبيه وعارفي قدره نموذجًا نبيلًا لقيم الشرف والترفع والاحترام والتعفف. وقد كان فاروق شوشة متعدد النشاط والأوجه في الفكر والثقافة واللغة والصحافة والتدريس والإعلام. وربما لا يعرف الكثيرون عن الراحل الكبير أنه ظل يدرس مادة الإذاعة والتحرير الإذاعي لطلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وغيرها من أقسام الإعلام بالجامعات المختلفة لأكثر من عشرين عاما!
أما نشاطه المجمعي فحدث ولا حرج! وقد كان ملء السمع والبصر بمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ تم اختياره عضوا به وحتى رحيله، بل إنه في سنواته الأخيرة كان العلم المبرز في هذا المجمع وأحد أشهر أعضائه.
تسع سنوات افتقدنا صفحاته التي كان يحررها ويكتبها بروح الجمال والعشق للشعر واللغة (في «الأهرام» و«العربي» الكويتية وغيرها) والتي بسببها أصبحت كتاباته زادًا للألوف المؤلفة من قرائه ومتابعيه وعاشقي لغته وصوته الفخيم، سيفتقد أصدقاؤه وتلاميذه وجمهوره وجهًا إنسانيا نبيلًا، وقلمًا مبدعًا يتوهج بالصدق والنقاء والعذوبة والجمال.. لكن الإبداع والسيرة والإنتاج المعرفي كلها تبقى بعد رحيل أصحابها شاهدة لها أو عليها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لغتنا الجمیلة الشعر العربی فاروق شوشة التی کان من خلال على مدى
إقرأ أيضاً:
وزير الثقافة: رسالة حب وسلام من أرض الفيروز إلى أطفال غزة.. بالفن والثقافة نزرع الأمل
نظمت وزارة الثقافة تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفي إطار الدور الثقافي والإنساني الذي تضطلع به الدولة المصرية دعمًا للشعب الفلسطيني، قافلة “مسرح المواجهة والتجوال” إلى مدينة رفح بمحافظة شمال سيناء، تحت شعار “بالفن والثقافة نزرع الأمل من أجل أطفال غزة”، وذلك بالتعاون مع محافظة شمال سيناء وعدد من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
وشهدت القافلة، التي أقيمت فعالياتها اليوم بمجمع مدارس رفح الذي يضم نحو ٢٥٠٠ طفل من المرحلتين الابتدائية والإعدادية من أبناء رفح المصرية والمقيمين فيها من أبناء غزة، إقامة معرض للكتاب وتوزيع عدد من الكتب على جميع الأطفال، إلى جانب عروض فنية متميزة قدمتها فرقة طلائع الفنون الشعبية، ومجموعة من ورش الرسم، ومسرحية “السمسمية”.
كما تشمل القافلة، التي ستواصل عروضها للأطفال من أبناء المحافظة وضيوف مصر من غزة، تنفيذ مجموعة متنوعة من الأنشطة الفنية والثقافية، تتضمن عروضًا مسرحية، ومسرح عرائس، وورشًا تشكيلية، ومعارض كتب، وفنونًا يدوية. ومن المقرر توزيع أكثر من عشرة آلاف كتاب على الأطفال والأسر المشاركة، في رسالة رمزية تعبّر عن دعم مصر لأبناء غزة من أقرب نقطة على الحدود.
وأكد الدكتور أحمد فؤاد هَنو، وزير الثقافة، أن القافلة تأتي في إطار جهود الوزارة لتسخير قوة الفنون في دعم القيم الإنسانية والتخفيف من آثار ما مرّ به الأطفال خلال الفترة الماضية، مشيرًا إلى أن الفنون تُعد من أقوى أدوات السلام القادرة على إعادة البهجة والأمل إلى نفوس الأطفال، لأن رسائل الفن تصل إلى الجميع بعمق وتأثير يفوق الكلمات.
وأوضح وزير الثقافة أن هذه القافلة تمثّل الخطوة الأولى ضمن سلسلة من المبادرات والبرامج التي تستهدف دعم أطفال غزة نفسيًا ومعنويًا، بالتعاون مع الجهات الوطنية المعنية، مؤكدًا أن مصر كانت وستظل جسرًا للسلام الإنساني ورسالة دعم وصمود للشعب الفلسطيني.
وأشار الوزير إلى أن الوزارة حريصة على أداء دورها الثقافي والفني والوطني في هذه اللحظة التاريخية المهمة، مؤكدًا أن التواجد في غزة — متى توافرت الظروف — سيكون امتدادًا طبيعيًا للدور المصري الأصيل في دعم الأشقاء الفلسطينيين، خاصة في هذه البقعة العزيزة.
وأوضح أن هناك خططًا لإطلاق مسرح متنقل ومكتبات متنقلة في قطاع غزة بعد تهيئة البنية التحتية اللازمة لذلك.
وتابع وزير الثقافة: “القافلة تأتي في توقيت بالغ الأهمية، تزامنًا مع توقيع اتفاق شرم الشيخ للسلام، بما يعكس حرص الدولة المصرية على تعزيز حضورها الثقافي والفني في المناطق الحدودية.”
وأضاف: “إنها رسالة تضامن ودعم إنساني تعبّر عن وقوف الشعب المصري إلى جانب أطفال غزة.
وأكد محمد الشرقاوي، المشرف العام على مشروع “مسرح المواجهة والتجوال” التابع للبيت الفني للمسرح برئاسة المخرج هشام عطوة بقطاع المسرح، أن تنظيم القافلة يتم بدعم كامل من اللواء خالد مجاور محافظ شمال سيناء، وبمشاركة الهيئة العامة لقصور الثقافة، والهيئة المصرية العامة للكتاب،ووزارة التضامن الاجتماعي،ووزارة الشباب و الرياضة، ومؤسسة حياة كريمة ومؤسسة مصر الخير، مشيرًا إلى أن نجاح القافلة يعكس تكامل الجهود الرسمية والمجتمعية لنشر ثقافة الأمل والسلام عبر الفنون.