تمّ تشكيل الهوية السياسية في قبرص بشطريها اليوناني والتركي عبر تلاحمٍ معقّد بين الجغرافيا والتاريخ، فالمكان المنقسم يحمل ذاكرة الصراع والتاريخ يعيد إنتاج ذاته في كل دورة سياسية جديدة. الجغرافيا هنا ليست موقعا ثابتا بل "عقدة عبور" تتحكم في خطوط الطاقة والمراقبة البحرية، ما يجعل الجزيرة ساحة تتقاطع فيها مشاريع النفوذ بين الشرق والغرب.



أما التغيير الديموغرافي فلم يقتصر على تبديل التركيب السكاني، بل تعداه إلى تفكيك بنية الهوية نفسها، إذ بات لكل طرف روايته للتاريخ وانتماؤه وولاؤه المتباينان بين تركيا وأوروبا، ومن ثمّ يتقاطع في قبرص صراعٌ جيوسياسي على الأرض والمصالح مع صراعٍ جيوهويّاتي على الذاكرة والانتماء. فالحدود لا تفصل بين دولتين فحسب، بل بين سرديتين للعالم؛ إحداهما تميل إلى الشرق العثماني الحديث والأخرى إلى الغرب الأوروبي، وفي قلب هذا التماس الجغرافي-الثقافي تتبدل الولاءات وتُعاد كتابة التاريخ.

 الانتخابات الأخيرة ليست مجرد تصويت لاختيار من يمثلهم بل استفتاء على الهوية؛ هل الولاء لأنقرة بوصفها مرجعية وحماية أم لقبرص بوصفها كيان يتطلّع إلى الاندماج الأوروبي؟ هكذا أعادت صناديق الاقتراع تعريف "القبرصية التركية" كهوية مزدوجة تبحث عن توازن بين الجغرافيا والسياسة والتاريخ.

إنّ ما يجعل الحالة القبرصية أكثر تعقيد هو أن الجغرافيا لم تعد خلفية للصراع، بل أداة لإعادة تشكيل الوعي. فعندما تتحكّم القوى في خطوط الطاقة والممرات البحرية تتحكّم أيضا في السردية التي تحدد من ينتمي إلى الشرق ومن ينتمي إلى الغرب. هذه العملية -التي يمكن تسميتها "الهندسة الجيوهويّاتية"- توظّف المكان لإعادة إنتاج الهوية؛ تُرسم الحدود لا لتقسيم الأرض فقط، بل لتقسيم الانتماء والمعنى. ومن ثمّ تبدو قبرص مختبرا حيا لتجربة أوسع في شرق المتوسّط، حيث تتحوّل الجغرافيا إلى أداةٍ لإعادة صياغة الإنسان قبل الخريطة.

سؤال مقارن: هل يتكرّر "النمط القبرصي" في سوريا؟ (الدروز جنوبا/ قسد شمال شرقا)

بدل افتراض تكرارٍ حتمي، يمكن تحديد مؤشراتٍ موضوعية تُظهر ما إذا كانت سوريا تسير نحو نمط مشابه من "الهندسة الجيوهويّاتية":

1. تثبيت الأمر الواقع الحدودي داخليا: خطوط تماس مستقرة بشكل نسبي وإدارات محلية موازية تنتمي لولاءات سياسية فرعية.

2. رعاة خارجيون دائمون: كلما امتلكت منطقة راعيا خارجيا سياسيا أو أمنيا أو اقتصاديا؛ زادت قابليتها لتكوين هوية مستقلة.

3. تحوّلات ديموغرافية طويلة الأم: نزوح وتوطين ومنع عودة وتغيّر ملكية الأرض والسكن؛ مؤشرات لتبدّل الهوية الاجتماعية.

4. اقتصاد منفصل ومنافذ مستقلة: منافذ حدودية وجمارك وموارد خاصة تُعيد إنتاج مجال معيش منفصل عن الدولة.

5. سرديات تعليمية وإعلامية محلية: مناهج ورموز تبنى على ذاكرة الحرب تُعيد تعريف "من نحن".

إن تحققت هذه المؤشرات معا وباستمرار تزداد احتمالات صناعة "هويات سياسية إقليمية" داخل الكيان السوري، لا مجرد اختلافات إدارية مؤقتة، أما إذا تراجعت (عودة السكان، اندماج اقتصادي، اختفاء الرعاة الخارجيين، توحيد المناهج، وبناء دولة وطنية بمؤسساتٍ قوية لا حكومة علاقات عامة)، فسيتضاءل احتمال تكرار النمط القبرصي.

"النمط القبرصي" إذن ليس قدرا بل نتيجة تراكب: حدود ثابتة + رعاية خارجية + ديموغرافيا متحوّلة + اقتصاد مفصول + سرديات محلية.

وفي الشرق الأوسط تُوظَّف الجغرافيا والتاريخ مرارا لإعادة هندسة الهويات، لكن الاتجاه النهائي يتوقف على هذه المؤشرات لا على الشعارات والخطابات.

ختاما: نداء إلى الوعي الإسلامي

ينبغي للعالم الإسلامي أن يُدرك أن ما يجري في قبرص وفي سوريا وفي غيرهما ليس أحداثا عابرة، بل حلقات في سلسلة طويلة تستهدف تفكيك الوعي الجمعي وإعادة تشكيل الهوية. فالجميع مستهدف لأننا جميعا أهل مكة واحدة وشعابنا واحدة، والآن يتم تغيير شعابنا لتخدم خرائط غيرنا.

الغرب يتعامل مع نفسه ككتلة واحدة تُخطِّط وتتحرك ضمن رؤيةٍ متكاملة، بينما ما زالت شعوبنا تتعامل مع قضاياها كجُزر متباعدة، كلٌّ يغرق في شأنه المحلي؛ لقد آن الأوان لأن تدرك الأمة الإسلامية أن مصيرها واحد وأن سقوط أي جزءٍ منها هو خصم من وعيها الجمعي.

فالوحدة اليوم ليست شعارا بل شرط بقاء حضاري ليتحول لمشروع إسلامي نهضوي، وإدراك الترابط بين الجغرافيا والهوية والسيادة هو الخطوة الأولى لاستعادة الوعي والكرامة، ومن لا يحرس هويته ستُعاد كتابتها له من الخارج.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الهوية قبرص الجغرافيا سوريا سوريا الشرق الأوسط قبرص هوية جغرافيا قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بین الجغرافیا

إقرأ أيضاً:

رئيس جامعة قنا: افتتاح ساحة الجامعة بأيدي أبنائها يجسد روح الانتماء والهوية الجامعية

في أجواء احتفالية مبهرة، افتتح الدكتور أحمد عكاوي رئيس جامعة قنا، ساحة الجامعة، بحضور الدكتور عباس منصور رئيس الجامعة الأسبق، والدكتور محمد محجوب عزوز رئيس مجلس أمناء جامعة جنوب الوادي الأهلية، والدكتور محمد سعيد نائب رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة والدكتور محمد وائل عبد العظيم نائب رئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث، و الدكتور أشرف موسى نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب، والدكتور محمود خضاري نائب رئيس الجامعة الأسبق والدكتور أحمد كمال نصارى نائب رئيس الجامعة الأسبق، والدكتورة سهير احمد حمدي نائب رئيس الجامعة الاسبق، والسيدة طروب طلبة أمين الجامعة، والأستاذ عبد الرازق حسين الأمين المساعد، و عمداء ووكلاء كليات ومعاهد الجامعة ورؤساء الأقسام والمديرين العموم، إلى جانب مشاركة حاشدة من طلاب الجامعة الذين ارتدوا ملابس تعكس تخصصاتهم العلمية في مشهد يجسد روح الانتماء والهوية الجامعية.

وخلال كلمته في الافتتاح، وجّه الدكتور أحمد عكاوي الشكر لجميع منسوبي الجامعة على جهودهم في تنفيذ مشروعات التطوير داخل الحرم الجامعي، مؤكدًا أن ما تحقق تم بأيدي أبناء الجامعة أنفسهم وبإيمان عميق بدورهم في تحقيق رؤية مصر للتنمية المستدامة وبناء بيئة جامعية متكاملة تجمع بين الجمال والوظيفة والابتكار.

وأكد رئيس الجامعة أن آفاق التطوير بجامعة جنوب الوادي لا تتوقف عند حدود البنية التحتية أو المشروعات المادية، بل تمتد لتشمل كل مجالات العمل الأكاديمي والبحثي والخدمي، من خلال تبنّي فكر مؤسسي قائم على الجودة والتكامل، ودعم المبادرات التي تعزز التميز والريادة على المستويين المحلي والدولي.

واضاف رئيس الجامعة أن جامعة قنا أصبحت رائدة بين الجامعات الوطنية والعالمية وانجزت خلال العامين الماضيين بمساندة الدولة المصرية وجهود أبناءها على سبيل المثال لا الحصر عدد ٥٢ تطبيقا إلكترونيا وقامت الجامعة بتحقيق الحوكمة الإلكترونية للأمن الجامعي والنظافة والتغذية والمراسم واستعرض رئيس الجامعة انجازات الجامعة في مختلف المجالات في قطاع شئون الطلاب والدراسات العليا والبحوث وخدمة المجتمع وشئون البيئة والمستشفيات الجامعية.

وتضم ساحة الجامعة مجموعة من المكونات المعمارية المتميزة التي تجعلها واحدة من أبرز معالم الحرم الجامعي، حيث تتوزع إلى أقسام متعددة تشمل ميدان الساحة في الركن الشمالي الشرقي، والبانوراما التي تطل على المحور الرئيسي للجامعة وتُعد خلفيتها التي يعلوها مبنى رئاسة الجامعة رمزًا بصريًا يعكس هوية المكان. كما تشمل الساحة الكبائن الرخامية المصممة للجلسات الطلابية، ومسرح الساحة المجهز بأحدث تقنيات الإضاءة والصوت ليكون منصة حرة للإبداع الفني والثقافي، إضافة إلى بهو الساحة المربع بمساحة 400 م² المخصص للفعاليات محدودة العدد، وفناء الساحة الذي يتوسطه برج خماسي الشكل يحمل لوحات فسيفسائية فنية تمثل رموز الجامعة، ويضم 63 عمود إنارة فنية و10 أحواض زينة تضفي على المكان طابعًا جماليًا فريدًا.

وتضمنت فعاليات الافتتاح فقرة شعرية قدمها الدكتور وحيد الدين طاهر عميد كلية الآداب، وفقرة عن الأخلاق والقيم قدمها الدكتور حمد الله عبد الحكيم، وفقرة شعرية وطنية للدكتور احمد سعد جاد وفقرات فنية قدمها كورال جامعة جنوب الوادي بإشراف اساتذة كلية التربية النوعية، إلى جانب عروض للفنون الشعبية التي أبدعها طلاب الجامعة، وعروض طلاب كلية التربية الرياضية وتكريم فريق عمل الجهة المنفذة وكل من ساهم وقدم جهدا في مشروع ساحة الجامعة، وعرض لفيلم توثيقي لمراحل تنفيذ الساحة، للمشروع وسط أجواء احتفالية تعكس روح التميز والانتماء، وتجسّد ما وصلت إليه الجامعة من تطور في بنيتها الجمالية والثقافية.

مقالات مشابهة

  • صندوق النقد: عام 2025 عنوان لصمود اقتصادات الشرق الأوسط.. والخليج يقود النمو الإقليمي
  • اختتام ثلاث برامج تطبيقية لطلاب كلية الهندسة بجامعة الحديدة
  • رئيس جامعة قنا: افتتاح ساحة الجامعة بأيدي أبنائها يجسد روح الانتماء والهوية الجامعية
  • ديب سيك يحوّل النصوص إلى صور بكفاءة عالية
  • الأرشيف والمكتبة الوطنية يستعرض ابتكاراته الرقمية في «الخليجي للتراث والتاريخ الشفاهي»
  • الفرح: طاعة الكيان الصهيوني انحراف عن قيم الإيمان والهوية الإسلامية
  • وزير الصحة القبرصي يزور عددًا من المؤسسات الصحية
  • حي الدحو في الرياض.. شاهد تاريخي يكشف عن العراقة والهوية النجدية
  • روائي يمني: اليمن حاصرته لعنة الجغرافيا