تآكل الجنيه إلى شلل النظام النقدي: نحو فهم جديد للأزمة النقدية السودانية
تاريخ النشر: 22nd, October 2025 GMT
تآكل الجنيه إلى شلل النظام النقدي: نحو فهم جديد للأزمة النقدية السودانية
عمر سيد أحمد
خلال الأيام الماضية، تداولت منصّات سودانية تقريرًا منسوبًا إلى مركز دراسات في إحدى الجامعات الأوروبية، يتحدث عن تحوّل السودان إلى ما يُعرف اقتصاديًا بـ”الاقتصاد ما بعد العملة”.
وسواء كان ما نُشر دقيقًا أم لا، فإن القضية التي يطرحها التقرير تستحق التوقف عندها، لأنها تسلط الضوء على واحدة من أخطر الأزمات التي يعيشها السودان اليوم: فقدان العملة الوطنية لوظائفها الأساسية كأداة للتبادل والادخار والتسعير.
ظل الجنيه السوداني يتدهور بصورة متواصلة طوال العقود الأربعة الماضية، نتيجة للاختلال المزمن في الميزان التجاري، وعجز الدولة عن بناء احتياطيات نقدية حقيقية تستند إلى إنتاج فعلي يوفّر غطاءً للعملة ويحفظ قيمتها، حتى في فترة تدفق عائدات البترول.
إلا أن المنعطف الأخطر في مسار تدهوره جاء خلال الفترة الانتقالية، حين أقدمت الحكومة بقيادة وزير المالية الدكتور إبراهيم البدوي على تنفيذ حزمة إصلاحات صندوق النقد الدولي، شملت تعويم الجنيه في وقتٍ كانت فيه موارد النقد الأجنبي محدودة بشدة، والقطاع الصناعي في حالة شبه انهيار، والدولة تعتمد اعتمادًا شبه كلي على الاستيراد، فيما تمدّد الاقتصاد الموازي وهيمن على حركة التجارة والسيولة.
كانت تلك السياسات بمثابة النقطة الفارقة التي عمّقت أزمة العملة الوطنية ومهّدت لانهيارها الكامل لاحقًا.
ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، بلغ سعر صرف الجنيه السوداني نحو 560 جنيهًا مقابل الدولار الأمريكي، قبل أن يواصل الانحدار الحاد حتى تجاوز 3,700 جنيه في بعض المدن خلال أقل من ثلاث سنوات، ومازال يتدهور في ظل سياسات مالية ونقدية مرتبكة تتبناها حكومة الأمر الواقع، وسط غياب شبه تام للدولة الاقتصادية والمؤسسية لم يعد المواطن يحتفظ بالجنيه إلا لساعات معدودة، إذ يسارع التجار والمستهلكون إلى استبداله بأي عملة أجنبية متاحة، حتى في أبسط المعاملات اليومية. أصبح السوق الموازي هو السلطة النقدية الفعلية التي تحدد الأسعار وتتحكم في السيولة، حيث تُسعّر أكثر من 65% من التعاملات اليومية بالدولار أو الريال، فيما تُستخدم العملات الخليجية والأوروبية لتسعير السلع والخدمات الأساسية كالوقود والغذاء والإيجارات.
الجنيه السوداني لم يعد عملة بل رقم متقلب. والحقيقة المؤلمة أن السودان لا يواجه مجرد أزمة صرف أجنبي، بل أزمة وجود نقدي. فالجنيه لم يعد يُعامل كأصل اقتصادي له قيمة، بل أصبح رقمًا متقلبًا في السوق الموازي، بلا سلطة تنظيمية أو غطاء فعلي.
فقدان الوظائف النقدية الثلاثتشير المؤشرات الاقتصادية إلى أن الجنيه السوداني فقد وظائفه النقدية الجوهرية:
وسيلة للتبادل: لم يعد يُستخدم إلا كمرحلة مؤقتة قبل التحويل إلى العملات الأجنبية. وحدة للقياس: الأسعار لم تعد تُقاس بالجنيه، بل بالدولار أو الذهب، ما يعني غياب المرجعية المحلية للقيمة. أداة للادخار: المواطن لم يعد يرى في الجنيه مخزنًا للقيمة، فاتجه نحو الذهب، والعقارات، والماشية، والعملات الصعبة.إنها حالة انهيار نقدي وظيفي تشبه ما حدث في زيمبابوي وفنزويلا، حيث تحوّلت العملة الوطنية إلى مجرد رمز سياسي فاقد لأي قيمة اقتصادية حقيقية.
أسباب التحلل النقدييتجلى هذا الانهيار النقدي في مجموعة من العوامل البنيوية والسياسية، أبرزها:
غياب الثقة المؤسسية: نتيجة ضعف استقلالية بنك السودان المركزي وتسييس قراراته.
هيمنة السوق الموازي: الذي أصبح صانع الأسعار ومصدر السيولة الرئيس.
تآكل الإنتاج المحلي: بسبب تراجع الصادرات واحتكار الذهب وانهيار الزراعة والصناعة.
الحرب والانقسام الإداري: وتعدد مراكز القرار النقدي وتفكك سلطة الدولة المالية.
هذه العوامل مجتمعة جعلت الجنيه عملة بلا سيادة، تفقد قيمتها بمجرد طباعتها.
ما المطلوب؟ نحو إعادة تأسيس نقديةالخروج من هذه الدائرة المفرغة يتطلب إعادة بناء النظام النقدي من جذوره عبر إصلاحات جذرية تشمل:
إصدار عملة جديدة مدعومة بأصول حقيقية مثل الذهب والموارد الطبيعية والأصول الحكومية. تأسيس هيئة نقدية مستقلة بعيدة عن التدخل السياسي، تُعنى بالسياسة النقدية وإدارة الاحتياطيات. ربط العملة الجديدة بسلة من العملات الدولية لتحقيق قدر من الاستقرار النسبي. توحيد السوقين الرسمي والموازي عبر منصة شفافة لتداول النقد الأجنبي. إطلاق برنامج وطني للتثقيف المالي لإعادة بناء الثقة المجتمعية في النظام النقدي. خاتمةوما لم تُستعد الثقة بين الدولة والمجتمع عبر سياسة نقدية مستقلة وسند حقيقي للقيمة، فإن السودان يسير نحو اقتصاد بلا عملة وطنية، يُدار عمليًا بالدولار والريال والذهب، فيما تبقى العملة المحلية مجرد ذكرى من زمن ما قبل الانهيار.
إن التحوّل من اقتصاد الجنيه إلى اقتصاد الدولار لا يمثل مجرد تبدّل في أداة التبادل، بل يُعد إعلانًا صريحًا عن انهيار المنظومة النقدية الوطنية.
السودان بحاجة إلى إصلاح نقدي جذري يعيد تعريف العملة بوصفها أداة للسيادة الاقتصادية لا رمزًا للعجز المالي.
فمن دون إعادة تأسيس نقدية شاملة، لن يعود الجنيه وسيلة للتبادل أوالادخار، بل سيظل شاهدًا على مرحلة فقد فيها الاقتصاد روحه، والدولة ثقتها في نفسها.
مستشار مصرفي ومالي وتمويل مستقل
[email protected]
أكتوبر2025
الوسومالاقتصاد ما بعد العملة البنك الدولي الجنيه السوداني الدولار الذهب الريال السودان العقارات العملة الوطنية تعويم الجنيه حكومة الفترة الانتقالية عمر سيد أحمد وزير المالية السابق إبراهيم البدويالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: البنك الدولي الجنيه السوداني الدولار الذهب الريال السودان العقارات العملة الوطنية تعويم الجنيه حكومة الفترة الانتقالية عمر سيد أحمد الجنیه السودانی العملة الوطنیة النظام النقدی لم یعد
إقرأ أيضاً:
حميدتي يتعهد بـ"تخليص" الشعب السوداني من الإخوان
حمل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" تنظيم الإخوان تبعات الحرب المستمرة في السودان منذ منتصف أبريل 2023، متعهدا بتخليص الشعب السوداني منهم.
وطالب دقلو في خطاب مساء الثلاثاء، بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في كافة الانتهاكات التي ارتكبت منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023.
وقال: "عناصر النظام السابق اختاروا الحرب والدماء وعليهم تحمل التبعات".
واعتبر قائد قوات الدعم السريع الهجوم الذي نفذه الجيش بطائرة مسيرة يوم السبت وأدى إلى مقتل زعيم قبيلة المجانين في كردفان و17 من قيادات وأفراد القبيلة "خطأ كبيرا"، وقال إن الجيش سيدفع ثمنه.
وجاء خطاب حميدتي بعد ساعات من هجوم مسيرات استهدف مواقع عسكرية ومخازن إمداد للجيش في مدن الدمازين وسنار جنوب غرب العاصمة الخرطوم وكسلا في شرق البلاد إضافة إلى مناطق في النيل الأبيض، وسط أنباء غير مؤكدة عن مقتل 250 فردا في معسكر تجنيد بمدينة سنار.
وتوعد حميدتي باستهداف أي مطار تنطلق منه طائرة أو مسيرة تهاجم المدنيين في دارفور وكردفان.
وقال: "أي طائرة من أي مطار في دولة مجاورة تسقط أو تُقلع من أي مطار سيكون هذا المطار هدفا مشروعا لنا".
وأضاف: "استهداف الإدارات الأهلية وأعيانها يمثل إبادة وتطهيرٍ يهدف إلى محو القبائل وإرثها".
وتعهد حميدتي بالرد على تلك الهجمات، وقال "ردنا سيكون قويا ولن نستهدف المدنيين في مناطق سيطرة الجيش".
واتهم حميدتي قائد الجيش عبدالفتاح البرهان بمحاولة خداع المجتمع الدولي بشأن علاقته مع الإخوان، وقال "لم يعد هنالك جيش في السودان والذين يقاتلون الآن هم الإخوان".
وأوضح: "البرهان أطلق دعاية التخلص من الإسلاميين ونقول له: أبدأ من نفسك أولا .. والإسلام بريء منكم جميعا".