ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية «4- 4»

مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، “ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)‎”، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.

د. عبد الله الفكي البشير

الكبوة الأخلاقية: الفشل في حقن الدماء وتحقيق التسوية الوطنية

وضعت ثورة أكتوبر الأحزاب التقليدية أمام تحد أخلاقي. فالمطلوب حسن التصرف في الحرية في اتجاه مبادئ الثورة حيث حقن الدماء في الجنوب، وتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، حفاظا على وحدة السودان. فخروج الجماهير في ثورتهم بسبب قضية الجنوب، التي وفرت شرارة الانفجار للغضب الشعبي، كان تعبيرا عن الورع الأخلاقي عبر رفض الحسم العسكري للقضية، وبحثا عن سبل تحقيق التسوية الوطنية الشاملة وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة للجنوب، والذي عقد في مناخ ثورة أكتوبر وكان من ثمارها، وهو أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام، فرصة عظيمة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة. إلا أن فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثنى عشر التي خرجت منه، كان تعبيرا قويا عن عجز الأحزاب السودانية في تحقيق التسوية الوطنية، ومن ثم المفارقة لأشواق الجماهير و”تجميد الأوضاع”. ففي الحفل الذي أقامته لجنة الاثني عشر في مساء يوم 26 سبتمبر 1966 لتقديم تقريرها رسميا إلى الحكومة، جاء في خطاب التقديم: “لقد أجمعت الأحزاب السودانية في مؤتمر المائدة المستديرة على أن الوضع الحالي للحكم- الحكومة الموحدة الممركزة- لم يعد يخدم المصلحة القومية، إذ ثبت عجزه عن مواجهة التحديات التي تواجه البلاد الناشئة كبلادنا، التي يسبق فيها الاستقلال السياسي بناء القومية، وحيث تتعدد عناصر الأمة، وتنشأ بالضرورة نوازع الفرقة بينها، نسبة للعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية. وعلي جيلنا هذا، إما أن يقابل هذا التحدي، أو أن يخلد إلى اليأس، وتبديد الطاقة في تجميد الأوضاع”.  غاب الورع الأخلاقي في التعاطي مع القضايا وحيكت المؤامرات، ففشل قادة الأحزاب التقليدية في تحقيق التسوية الوطنية، وجمدوا الأوضاع وبددوا الطاقات. ويضيف يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثنى عشر، قائلا: “ولم يقدر لتلك التجربة أن تؤتي ثمارها للأسف. فقد نكست رايات أكتوبر بعد حين، وعادت النظم الاستبدادية –برلمانية وعسكرية- تتناوب على التسلط والقهر”.  ما من ثورة جماهيرية غاب عنها مبدأ الأخلاق لدى قادة الجماهير، كما كان حال ثورة أكتوبر، إلا ونكست راياتها. فغياب مبدأ الأخلاق عند خدمة الجماعة يعني بالضرورة غياب القانون وهو قاعدة الأخلاق، ويعني بالضرورة أيضا، خيانة الجماعة وخيانة مبادئ الثورة. فالأخلاق تعطي الناس الفرصة ليكونوا أحرارا وشجعانا في سعيهم لخدمة الجماعة والفكر والثقافة وأنسنة الحياة، فغياب الأخلاق يعني موت المعاني الإنسانية.

تبع فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وهو بمثابة الإعلان عن عجز الساسة في تحقيق التسوية الوطنية الشاملة، أن اتبعت الدولة السودانية، بمختلف أنظمتها السياسية المتعاقبة، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات في أقاليم أخرى، منهج الترقيع والترميم عبر الاتفاقيات الثنائية والجزئية والمؤقتة، في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار والوحدة. فمنذ ثورة أكتوبر، وحتى تاريخ اليوم، لم تتوفر فرصة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، مثل تلك التي توفرت مع مؤتمر المائدة المستديرة. وأصبحت المعالجات جزئية وثنائية ومؤقتة وفوقية. فمنذ توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا عام 1972، تفشت في السودان ثقافة عقد الاتفاقيات، فقد تم توقيع عشرات الاتفاقيات، ولا يزال توقيع الاتفاقيات مستمرا وبكثافة حتى تاريخ اليوم. وبرغم التوقيع المستمر للاتفاقيات ظلت الصراعات تتجدد وتتوسع والانقسامات تتالى وتتمدد. فالاتفاقيات – برغم حقنها المؤقت للدماء وهو أمر مطلوب وواجب وطني وإنساني- لا تمثل سوى حلا جزئيا ومرحليا للصراع مهما قيل عنها وطال سريانها، في حين أن المطلوب هو الحل الكلي والشامل والدائم. كما أن الاتفاقيات الثنائية والحلول الجزئية والمؤقتة، في بلدان التعدد الثقافي، كحال السودان، ما هي إلا ترميم لبناء متهالك، وتعبير فصيح عن العجز والفشل في تحقيق التسوية الوطنية، أقصى مراتب مصيرها الانهيار وأدناه الانفصال.

إن تفشي ثقافة الاتفاقيات الثنائية والجزئية، هو نتيجة طبيعية لفشل مؤتمر المائدة المستديرة، وعجز الأحزاب التقليدية عن تحقيق التسوية الوطنية الشاملة. والمفارقة العجيبة أن نفس تلك الأحزاب عندما وقع انقلاب 25 مايو 1969، عادت إلى مربع النضال من أجل استعادة الديمقراطية، وظلت تناضل حتى عادت بالمصالحة الوطنية عام 1977. وما لبثت أن غطت سماء الخرطوم مرة ثانية بالدعوات للدستور الإسلامي، الأمر الذي تحقق لها في عام 1983. فدخلت البلاد في الحرب الأهلية مرة ثانية، وتحكم مناخ الانفصال والتشظي حتى تاريخ اليوم. ولا مخرج إلا بالثورة الكبرى، ثورة العقول.

ثورة اكتوبر تذكير قبل الختام: ثورة أكتوبر السودانية وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة

عندما اندلعت ثورة أكتوبر، كما وردت الإشارة في الحلقات السابقة، لم يكن السودان من حيث المكونات والإرث التاريخي، وهو تحت حكم عسكري، بمعزل عن المشهد العالمي في عقد ستينات القرن الماضي. فقد شهد عقد الستينات انتصار حركة الحقوق المدنية (Civil Rights Movement) التي فجرها الأمريكيون المنحدرون من أصل إفريقي، إلى جانب ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وتمدد خطاب القومية العربية والاتجاهات الزنُوجية وأسئلة الهوية. تبع ذلك أن شهد العقد استيعاب التعدد الثقافي، الذي برز لأول مرة، إلى الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية، ومع إنشاء منظومة الأمم المتحدة ، في التشريعات ومواثيق الحقوق والحريات ثم وجد طريقه إلى الدساتير القومية والقواميس السياسية، مع توسع تداوله في حقول البحث العلمي. فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت كندا منذ السبعينيات نموذجاً آخر لاستيعاب التعدد الثقافي في دستورها .

عبَّر الشعب السوداني عن اتساقه مع هذا المشهد العالمي حيث انتصار الحقوق المدنية من خلال خروجه من أجل مشكلة جنوب السودان، وهي أعظم معالم التعدد الثقافي في السودان. كانت مشكلة الجنوب من أهم أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، كما أنها مثلت أكبر مظاهر فشل الحكم العسكري. لقد أذكت مشكلة الجنوب ثورة أكتوبر، وظلت كذلك ذريعة لكل الانقلابات العسكرية. لقد وفر الجنوب شرارة الانفجار للغضب الشعبي ضد النظام العسكري، فعبرت الجماهير السودانية عن رفضها لسياسة الحسم العسكري في الجنوب، وعن أشواقها للتغيير، بتناغم مع المشهد العالمي في مناخ ستينات القرن العشرين. وعلى الرغم من قوة ثورة أكتوبر وتفردها، إلا أنها لم تحقق التغيير المفضي لانتصار الحقوق المدنية، والاعتراف بالتعدد الثقافي. فقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضى إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي. ولهذا فإن ثورة أكتوبر من حيث القاعدة، كانت تطلعاً جماهيرياً للتغيير بتناغم مع المشهد العالمي، ومن حيث القمة لم تكن سوى إعلان لمفارقه قادة السودان من زعماء الأحزاب السلفية والطائفية وأصحاب الامتياز (من غير المهمشين)، لأشواق الجماهير، وتناقض تناغم السودان مع المشهد العالمي، منذ ذلك الوقت وحتى يوم اندلاع ثورة 19 ديسمبر 2018. وعلى الرغم من ذلك فإن ثورة أكتوبر، عبرت عن قوة الاجماع على إرادة التغيير، كما أنها تركت إرثاً ثورياً ينتظر الاكتمال والتطوير لفكرة التغيير وطريقة تحقيقه.

خاتمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقول

على الرغم أن ثورة أكتوبر الشعبية السلمية العزلاء، إلا من قوة إجماع الجماهير على إرادة التغيير، استطاعت أن تغير الحكم العسكري، بيد أنها لم تحقق المكاسب المرجوة حيث التغيير الجذري والشامل في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية ووحدة البلاد، والمنطلق من مكونات السودان وتكويناته المتنوعة وانتمائه الأفريقي، والمتصل بالمشهد العالمي حيث انتصار حركة الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي. لقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضي إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي.

وعلى الرغم الخسائر الضخمة الناتجة من اختطاف ثورة أكتوبر، وعدم تحقيقها للمكاسب المرجوة، إلا أن ثورة أكتوبر، لم تكتمل مراحلها بعد. فقد تركت إرثاً ثورياً ضخماً وعميقاً، سيعين في اكتمالها يوم اشتعال الثورة الكبرى من جديد، ثورة في عقول الجماهير، بقيادة المثقفين الأحرار. وعندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية من ثورة أكتوبر.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى، وواجب اشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة عبر تنوير الجماهير وتحريرهم من التبعية والطائفية والقوى التقليدية والدينية ورجال الدين والأوصياء على العقول.

إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار “الثورة الكبرى”. وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة.

(بالطبع تتضمن الورقة قائمة بالمصادر والمراجع، وهي منشورة ضمن: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014).

[email protected]

ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية «3- 4»

الوسومالتسوية الوطنية السودان الولايان المتحدة ثورة اكتوبر السودانية ثورة العقول حركة الحقوق المدنية حيدر إبراهيم د. عبد الله الفكي البشير مركز الدراسات السودانية

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: التسوية الوطنية السودان ثورة اكتوبر السودانية حيدر إبراهيم د عبد الله الفكي البشير مؤتمر المائدة المستدیرة الاتفاقیات الثنائیة التعدد الثقافی الشعب السودانی المشهد العالمی الثورة الکبرى ثورة أکتوبر على الرغم فی اتجاه کما أنها فی عقول کما أن

إقرأ أيضاً:

حركة فتح: مصر لها دورًا محوريًا فى التوصل إلى وقف إطلاق النار

قال ماهر النمورة، المتحدث باسم حركة فتح، أن جمهورية مصر العربية والرئيس عبد الفتاح السيسى والقيادة المصرية كانوا وما زالوا يقفون ويساندون الشعب الفلسطينى منذ نكبة عام 1948 وحتى اليوم، مؤكدًا أن لمصر دورًا محوريًا وكبيرًا فى التوصل إلى وقف إطلاق النار وفى دعم وحدة الصف الفلسطينى، وهو ما يجب أن يُقدّر ويُشكر فى كل المحافل.


وأضاف النمورة، خلال مداخلة فى برنامج "ثم ماذا حدث" الذى يقدمه الإعلامى جمال عنايت على شاشة القاهرة الإخبارية، أن القيادة الفلسطينية وحركة فتح بذلتا جهودًا كبيرة منذ اليوم الأول لعدوان الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطينى، بالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة، وعلى رأسها مصر، من أجل التوصل إلى تهدئة شاملة وحماية المدنيين من التصعيد المستمر.

 

وأكد المتحدث باسم حركة فتح أن هناك فرقًا بين الوفد الحكومى الفلسطينى المشارك فى الحوارات برئاسة حسين الشيخ نائب رئيس الوزراء واللواء ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامة، وبين أى وفد رسمى يمثل حركة فتح بشكل مباشر، موضحًا أنه عند وجود وفد رسمى للحركة يتم إبلاغ القيادة به رسميًا.

الهدف الأهم الآن هو تثبيت وقف إطلاق النار

وشدد على أن الهدف الأهم الآن هو تثبيت وقف إطلاق النار وضمان التزام الجانبين بالاتفاق لتجنيب الشعب الفلسطينى أى تصعيد جديد.

وأوضح النمورة أن منظمة التحرير الفلسطينية تبقى الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى، داعيًا إلى توحيد النظام السياسى الفلسطينى تحت قانون واحد وسلطة واحدة، بما يضمن استقرار الأوضاع ومنع أى اختراقات قد يستغلها الاحتلال لإعادة إشعال الحرب مجددًا.

مقالات مشابهة

  • في ذكراه الرابعة.. كيف يرى السودانيون انقلاب 25 أكتوبر؟
  • الهلال السوداني يفوز على البوليس الكيني بـ3 أهداف مقابل هدف – شاهد فرحة الجماهير
  • حركة فتح: مصر لها دورًا محوريًا فى التوصل إلى وقف إطلاق النار
  • عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية السودانية اليوم الجمعة 24 أكتوبر 2025م
  • مجلس السيادة السوداني يوضح حقيقة المفاوضات مع الدعم السريع في واشنطن
  • مجلس السيادة السوداني: لا مفاوضات مع الدعم السريع في واشنطن
  • هجوم جديد بالطائرات المسيرة على العاصمة السودانية الخرطوم