د. هبة محمد العطار **

 

في الأول من نوفمبر، لا تفتح مصر أبواب متحف جديد؛ بل تفتح زمنًا جديدًا من الوعي الوطني والحضاري. فالمتحف المصري الكبير ليس حدثًا أثريًا عابرًا في سجل الثقافة؛ بل إعلان عن أن مصر قررت أن تُخاطب العالم بلغتها الأبدية، لغة الحضارة والهوية. في زمن تتصارع فيه الدول على رواية الماضي، تقف مصر لتقول: “نحن الأصل، ونحن السردية التي لم تنقطع يومًا”.

 

إن افتتاح هذا الصرح العظيم ليس مجرد احتفال بالآثار؛ بل تجسيدٌ لفكرة الدولة الحديثة التي تدرك أن التاريخ ليس ماضيًا يُروى؛ بل طاقة حاضرة يمكن أن تُستخدم في بناء المستقبل. فالمتحف المصري الكبير مشروع دولة، ومبادرة وعي، وتجسيد لرؤيةٍ سياسيةٍ عميقةٍ ترى أن الثقافة هي أقوى أدوات البقاء، وأن من يمتلك ذاكرته يمتلك مستقبله. لقد أرادت مصر بهذا المشروع أن تتحول من بلدٍ يروي تاريخه إلى دولة تصنع روايتها من جديد.

المتحف لا يكتفي بعرض أكثر من 100 ألف قطعة أثرية؛ بل إنه يُعيد صياغة علاقة المصري بماضيه، ويفتح أمام الزائر الأجنبي أبوابًا لفهم فلسفة مصر، لا مجرد رؤية آثارها. إنه المكان الذي تلتقي فيه السياسة بالثقافة، ويتحوّل فيه الحلم الوطني إلى واقع ملموس يُخاطب العيون والعقول في آنٍ واحد.

كل حجرٍ في المتحف يقول إن مصر ليست مجرد دولةٍ عريقة؛ بل مشروع حضاري ممتد، يملك القدرة على التجدد، وعلى إنتاج المعنى في كل عصر. وكل قطعةٍ تُعرض فيه تُذكّر بأن الحضارة المصرية لم تكن يومًا تاريخًا منقضيًا؛ بل وعيًا متجددًا بالحياة، وبالإنسان، وبالخلود. ما يميز المتحف المصري الكبير أنه لا يُعيد تقديم التاريخ فقط؛ بل يُعيد توظيفه في بناء السياسة الثقافية للدولة. فهذا المشروع الضخم هو ترجمة لرؤية القيادة السياسية التي أرادت أن تضع الثقافة في قلب التنمية، وأن تُحول التراث من رمزٍ صامت إلى قوةٍ ناعمة تتحرك في العالم وتُعيد تشكيل الصورة الذهنية عن مصر.

وهكذا يتحول المتحف إلى بيان سياسي حضاري، يعلن أن مصر الحديثة لا تُنافس بالحاضر فقط؛ بل بتاريخها أيضًا، وأنها قادرة على صياغة خطابٍ جديد يربط بين الماضي والحداثة بلغةٍ واحدة. في هذا الافتتاح الاستثنائي، تتجسد لحظة ميلاد وطنٍ يسترد صورته من ذاكرة العالم، لا بوصفه متحفًا للحضارة؛ بل بوصفه صانعًا لها. فالمتحف المصري الكبير ليس مبنى من الحجر؛ بل رسالة من إرادة، تؤكد أن مصر التي منحت الإنسانية فجر التاريخ، ما زالت قادرة على أن تمنحها فجر الوعي. لقد نجحت الدولة في أن تجعل من هذا المشروع الثقافي حدثًا وطنيًا جامعًا، أعاد إلى المصريين إحساسهم بالانتماء، وإلى العالم احترامه للهوية المصرية بوصفها جذرًا لا ينقطع.

إنَّ هذا المتحف هو مساحةٌ للحوار بين الأزمنة؛ حيث يتحدث الماضي إلى الحاضر دون وساطة، وحيث تتجلّى فكرة الدولة الحضارية التي تؤمن أن السياسة لا تكتمل إلا حين تُترجم إلى ثقافة.

ولعل أعظم ما في هذا المشروع أنه لا يخاطب السياح فقط؛ بل يخاطب الوعي الجمعي للمصريين، ويدعوهم إلى قراءة تاريخهم بوصفه مرآة للمستقبل لا صفحة من الذكريات. في عالمٍ مضطربٍ تتنازع فيه الأمم على الرموز والهوية، يأتي هذا الافتتاح ليعلن أن مصر- التي وقفت على ضفاف النيل منذ فجر الحضارة- لا تزال قادرة على الوقوف في قلب العالم بكرامةٍ ووعيٍ ودهشة.

فى هذا الصرح العظيم تتكامل السياسة مع الجمال، والعقل مع الوجدان، والحجر مع الإنسان، ليولد مشروع حضاري جديد يُعيد للعالم ذاكرته. ففي الأول من نوفمبر، لا نحتفل بافتتاح متحف… بل نحتفل بولادة فكرة: أن مصر هي التاريخ الذي لا يُنسى، والمستقبل الذي لا يُكتب إلّا بها.

** أستاذة الإعلام بجامعة سوهاج في مصر، وجامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى بالسعودية سابقًا

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مصر على موعد مع التاريخ.. شريف عامر يعلق على افتتاح المتحف الكبير

أكد الإعلامي شريف عامر، أن العالم كله يتابع باهتمام حقيقي الاستعدادات الجارية لافتتاح المتحف المصري الكبير، مشيرًا إلى أن الحدث لا يقتصر على كونه شأنًا مصريًا فقط، بل يمثل حدثًا عالميًا غير قابل للتكرار، يحظى بمتابعة من مختلف وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية الدولية.

"السياحة": لم نصدر إعلانات للتطوع في تنظيم احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير محافظ الجيزة: المحافظة بطل مشهد افتتاح المتحف المصري الكبير.. نعمل ليل نهار

وأوضح شريف عامر، خلال تقديم برنامج "يحدث في مصر"، المُذاع عبر شاشة "إم بي سي مصر"، أن الحدث الثقافي والأثري المنتظر هو الأبرز على مستوى العالم في الوقت الحالي، حيث سيحضره عدد كبير من الوفود الدولية، من رؤساء وقادة دول، ويُعد مناسبة استثنائية تُبرز مكانة مصر الحضارية والتاريخية.

 ألف شخصية من مختلف أنحاء العالم ستشارك في الاحتفال،

وأضاف الإعلامي شريف عامر، أن ما سيتم عرضه داخل المتحف المصري الكبير سيكون محط أنظار الجميع، وأن أكثر من ألف شخصية من مختلف أنحاء العالم ستشارك في الاحتفال، الذي ستُبث فعالياته على نطاق عالمي.

وأشار شريف عامر، إلى أن حجم الجهود المبذولة في التحضير للحدث وصل إلى درجة كبيرة من الضغط والإجهاد، حتى أن بعض القائمين على التنظيم تم استدعاء سيارات إسعاف لهم بسبب الإعياء الشديد نتيجة العمل المتواصل لضمان خروج الافتتاح في أبهى صورة تليق بمكانة مصر.

 

مقالات مشابهة

  • منار عبد العظيم تكتب: المتحف المصري الكبير.. لحظة فخر لكل مصري وأيقونة حضارية يشهد لها التاريخ
  • أنغام التاريخ.. هشام نزيه يوقّع الموسيقى الرسمية لافتتاح المتحف المصري الكبير
  • مصر على موعد مع التاريخ.. شريف عامر يعلق على افتتاح المتحف الكبير
  • شريف عامر: افتتاح المتحف المصري الكبير حدث لا يتكرر عالميًا.. مصر على موعد مع التاريخ
  • مصر تفتح بوابة التاريخ.. نجوم الفن بالزي الفرعوني استعداداً لافتتاح المتحف المصري الكبير
  • برلماني: المتحف المصري الكبير صرح حضاري عالمي يجسد عظمة التاريخ المصري
  • المتحف الكبير.. تحت قبة التاريخ.. مصر تكتب شهادة ميلاد «دبلوماسية الحضارة»
  • أحمد موسى: مصر أصل التاريخ وحان الوقت لتوثيق عظمتها في كتاب عن المتحف المصري الكبير
  • جاكلين سعد: مصر تكتب فصلًا جديدًا في التاريخ بافتتاح المتحف المصري الكبير