لجريدة عمان:
2025-10-30@21:07:21 GMT

لا ســـــلام فــــي غــــزة

تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT

ترجمة: بدر بن خميس الظفري - 

في الشهر الماضي، اضطرّ والدي وإخوتي، الذين شُرّدوا مرات عديدة منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى الفرار مجددًا من القصف الإسرائيلي على مدينة غزة. وخلال الأسابيع التالية، كانوا يسألونني باستمرار عمّا إذا كان وقف إطلاق النار وشيكًا، أو ما إذا كانت المساعدات ستصل إليهم قريبًا. وبما أنني أعيش في الولايات المتحدة وأتابع الأخبار على مدار الساعة، كانوا يتطلّعون إليّ لأمنحهم بعض الطمأنينة، أي بارقة أمل.

لكن الحقيقة أنني بدأت أفقد الأمل. لم أعد أجرؤ على مصارحتهم بأنني لم أعد أؤمن بوجود هدنة. كنت في السابق أتصل بهم للترفيه والدردشة، أما الآن فأحاديثنا باتت تقتصر على الأمور الضرورية: هل تحتاجون بطانيات؟ خيامًا؟ أدوية؟ هل لدى الأطفال ما يكفي من الملابس؟

في صباح الخامس والعشرين من سبتمبر، استيقظت على خبر من غزة، منشور على تطبيق «تلغرام» ذكر أن غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في مخيم الشاطئ للاجئين، حيث تقطن إحدى عائلات آل أبو توهة. انتابني خوف شديد على عائلتي الممتدة، فاتصلت بأشرف، وهو ابن عمي من الجيل التالي. أخبرني أن محمد أيمن أبو توهة، ابن أخيه، قُتل مع زوجته وأطفاله الأربعة الذين كانت أعمارهم عشرة أعوام، وستة، وأربعة، وسنتين. وُلِدوا جميعًا في المخيم، كما وُلدت أنا، وماتوا فيه أيضًا. لم ينجُ سوى طفل واحد، أنس البالغ من العمر اثني عشر عامًا.. الأطباء في غزة يصفون حالته بعبارة «طفل جريح بلا عائلة ناجية.»

بعد ذلك بأيام، في الثالث من أكتوبر، كتب الرئيس ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي أن مفاوضي حركة حماس، الذين حاولت إسرائيل اغتيالهم في قطر قبل أقل من شهر، وافقوا على ما وصفه بـ«خطة السلام». كتب يقول: «يجب على إسرائيل أن توقف فورًا قصف غزة». لكن في اليوم التالي، شنّت إسرائيل غارات جديدة على منازل في مدينة غزة، وأسفرت، وفقًا للتقارير، عن مقتل العشرات، بينهم رضيع لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر. بعث إليّ أشرف برسالة مفادها أن قريبًا آخر، يُدعى عبد الله، وهو أب لطفلين في الثانية من العمر وستة أشهر، قد قُتل أيضًا. قال لي: «اتصلتُ بأصدقاء من المسعفين ليساعدوني في انتشال جثمان عبد الله، لكن الطائرات الإسرائيلية المُسيّرة كانت تُطلق النار على كل من يقترب من المكان».

ورغم ذلك، بدأت ألاحظ نبرة تفاؤل حذِرة في أصوات أحبّائي. كان ثمة شعور بأن الأمور قد تكون مختلفة هذه المرة. في تمام الساعة السادسة وواحدٍ وخمسين دقيقة مساءً من الثامن من أكتوبر، كتب ترامب على منصّة «تروث سوشيال»: «فخور جدًا بالإعلان أن إسرائيل وحماس قد وافقتا على المرحلة الأولى من خطة السلام». ووفقًا للاتفاق، كان من المفترض أن تتوقف إسرائيل عن هجماتها وتتراجع قواتها، وأن يُستأنف تدفق المساعدات الإنسانية، وأن تُجرى عملية تبادل للأسرى بين حماس وإسرائيل تشمل الإفراج عما يقارب ألفي معتقل فلسطيني، وأن تتولى لجنة فلسطينية انتقالية ذات طابع تقني وغير سياسي إدارة شؤون غزة مؤقتًا.

كان أهل غزة يدركون أن إسرائيل قد تنقض الهدنة في أي لحظة، كما فعلت بعد اتفاقٍ مشابه في شهر مارس. ومع ذلك، خرج الناس إلى الشوارع، لا للاحتفال بانتصارٍ ما، إذ لم يشعر أحد بالنصر، بل بالنجاة. فقد خسروا بيوتهم وأحبّتهم وكل إحساس بالحياة الطبيعية، لكنهم ظلّوا أحياء، وكان ذلك بحد ذاته شيئًا يستحق الاحتفاء.

في التاسع من أكتوبر، اتصلت بأشرف لأطمئنّ إن كانوا قد تمكنوا من دفن عبد الله. قال لي بصوت متعب: «عائلتنا في مخيم الشاطئ حاولت اليوم الذهاب لانتشال جثمانه، لكن الطائرات الإسرائيلية المسيّرة أطلقت النار عليهم». كانت جثث أطفال محمد ما تزال تحت الأنقاض أيضًا.

بعد دقائق، أجرت معي قناة سكاي نيوز مقابلة حول احتمالات التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار. تحدثت خلالها عن الغارة الإسرائيلية الأخيرة على مبنى سكني في حيّ الصبرة بمدينة غزة. في لحظة المقابلة، كان قد قُتل أربعة أشخاص على الأقل وأُصيب سبعة، بينما ما زال العشرات محاصرين تحت الركام. وفي نشرات الأخبار اللاحقة، ارتفع عدد الضحايا إلى ستة عشر.

بعد المقابلة، شاهدت مقطع فيديو لطفل نجح المسعفون في إنقاذه من تحت الأنقاض. ثم حان وقت ذهابي لاصطحاب أطفالي من المدرسة.

سألني ابني يزن، البالغ من العمر تسع سنوات، بلهفة: «هل انتهت الحرب؟ هل يمكننا أن نحتفل؟» توقفت قليلًا قبل أن أجيبه. كنت أعلم أن والدته مرام قد أخبرته في طريق المدرسة أن هناك وقفًا لإطلاق النار قيد التوقيع. لم أرغب في أن أبدو وكأنني أكذّبها. فقلت له بابتسامة مترددة: «نعم يا يزن، إنهم ينهون الاتفاق الآن. فلننتظر قليلًا».

لم أخبر يزن أن أي فلسطيني لم يُستشر في صياغة الاتفاق. لم أخبره أن العائلات في غزة كانت ما تزال تُقتل تحت القصف الإسرائيلي. ولم أقل له إن الخطة لا تتضمن أي بند للتحقيق في جرائم الحرب، أو لمحاسبة من ارتكبها، أو لضمان حقوق الفلسطينيين.

حين أعلنت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على المرحلة الأولى من الاتفاق، كان يزن في تدريب كرة القدم. وبعد عودته إلى المنزل، أخبرناه أنا ومرام هو وأخوته الثلاثة بالأمر. قفز يزن فرحًا وقال: «رائع! دعونا نحتفل!» كان متعبًا من يومٍ طويل، لكنه قفز في الهواء بحماس. خرج من الغرفة لدقيقة ثم عاد يحمل مكبّر الصوت اللاسلكي.

قال لي: «هل يمكنك تشغيل الموسيقى؟» كان يريد أن يسمع موسيقى «الدبكة» (وهي رقصة فلسطينية شعبية تُؤدى في الأعراس والمناسبات السعيدة). وما إن وصلت مكبّر الصوت بهاتفي حتى كان يزن وأخوه مصطفى، البالغ خمس سنوات، يقفزان على السرير فرحًا. أما شقيقتهما يافا، ذات الثمانية أعوام، فكانت قد غفت. وقف مصطفى أمام المرآة، ثم أخذ يرقص بحركات مضحكة، قبل أن يفتح خزانة الملابس ويسحب منها حقيبة سفر فارغة. جلس داخلها وهو يضحك، وطلب من يزن أن يدور بها حول الغرفة.

نظرت أنا ومرام إلى بعضنا البعض. كنا نمسك بهواتفنا كعادتنا، نتابع الأخبار بلا انقطاع منذ أكثر من عامين، لا نعرف متى تأتي الكارثة التالية. كنا نراقب مشاعرنا بحذر، نخشى أن ينهار شيء فينا في أية لحظة. ومع ذلك، في تلك اللحظة بالذات، حاولنا أن نترك مساحة لنقاء فرحة أطفالنا، تلك الفرحة الصغيرة التي تبدو، وسط هذا الخراب كله، كأنها آخر ما تبقّى من معنى الحياة.

في الثاني عشر من أكتوبر، وأثناء الغداء، سألني يزن إن كان بإمكاني أن أشتري له مضرب بيسبول جديدًا. ثم قال ضاحكًا: «الآن سيكون لديك وقت أكثر لتلعب معنا، أليس كذلك؟ لا حرب في غزة، ولا أخبار عاجلة، وهذا يعني أنك ستكتب أقل؟».

في تلك الليلة، ظللت أنا ومرام مستيقظين حتى ساعة متأخرة، ننتظر بقلق قائمة الفلسطينيين الذين سيفرج عنهم من السجون الإسرائيلية. كان عدد من أقاربنا معتقلين منذ شهور. عند الساعة الحادية عشرة وثلاث وعشرين دقيقة مساءً، أي السادسة وثلاث وعشرين صباحًا بتوقيت غزة، نُشرت قائمة تضم ألفًا وسبعمائة اسم في إحدى مجموعات «تلغرام». شعرنا بارتياح هائل حين وجدنا اسمين لقريبين عزيزين، سأطلق عليهما اسمين مستعارين، خالد وعادل، حفاظًا على سلامتهما. كان كلٌّ منهما قد قضى قرابة عام في الأسر الإسرائيلي. لكنّ كثيرين آخرين ممن نحبّهم، ومنهم ابن عم مرام، صهيب، لم تُدرج أسماؤهم.

صهيب، شاب وسيم يعمل مصورًا في حفلات الأعراس، كان الناجي الوحيد من عائلته بعد غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزله في شمال غزة في أكتوبر 2024. وبينما كانت سيارة إسعاف تنقله بين المستشفيات للعلاج، أوقفها الجنود الإسرائيليون واقتادوه بالقوة.

اتصلنا بعائلتينا في غزة. وعلى الرغم من ضعف الاتصال بالإنترنت هناك، كان الجميع قد عرف بالفعل أسماء المفرج عنهم. لم يغمض لأحد جفن في تلك الليلة. نُقل الأسرى إلى مستشفى ناصر في خان يونس لإجراء فحوص طبية بإشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تولّت تنظيم العملية. احتشد الناس في المكان لاستقبالهم، ليس فقط الأهالي والأصدقاء والجيران، بل أيضًا غرباء ينتظرون خبرًا عن أحبّتهم المفقودين.

وفي الوقت الذي كانت فيه القنوات الأمريكية تبث مشاهد مباشرة لعودة الأسرى الإسرائيليين إلى عائلاتهم، كان الصحفيون يواجهون صعوبة في نقل صور استقبال الأسرى الفلسطينيين، لأن إسرائيل منعت وسائل الإعلام الأجنبية من العمل في غزة إلا تحت إشراف عسكري. عندها عادت إلى ذاكرتي تلك الأيام الثلاثة القاسية من نوفمبر 2023، حين اختطفتني القوات الإسرائيلية من زوجتي وأطفالي وانهالت عليّ بالضرب. خلال تلك الساعات، كان خوفي الأكبر أن يصيب مكروه مرام والأولاد. وفكّرت بكل أولئك المعتقلين الذين سيخرجون ليكتشفوا أن عائلاتهم قُتلت تحت القصف.

وحين تمكّنا أخيرًا من التحدث إلى خالد، وهو مزارع متزوج من إحدى قريباتي، كان يسير على قدميه مع أخيه الأصغر من خان يونس جنوبًا إلى دير البلح في وسط القطاع. تذكرت كيف كنّا نزرع معًا الفراولة والذرة واليقطين والخيار والفاصوليا الخضراء. تذكرت لقاءات العائلة وحفلات الشواء، ورحلاتنا بالدراجات إلى البحر. كل ذلك لم يعد موجودًا الآن، لا بيت خالد، ولا بيتي، ولا مزرعته، ولا حديقة عائلتي، حتى الطريق إلى الشاطئ صار ركامًا. زوجته اليوم ترعى أبناءهم الثلاثة في خيمة.

ثم اتصلنا بعادل، وهو أيضًا من أقارب مرام بالمصاهرة. كانت حافلة قد أعادته للتو من أحد السجون الإسرائيلية إلى غزة مع مجموعة من الأسرى. أخبرنا أنه قبل أن يصل الصليب الأحمر، اعتدى عليه الجنود بالضرب على رأسه مرات عدة. والآن، بدل أن يحتفل بحريته، كان يبكي بحرقة. فقد علم للتو أن والد مرام قُتل في الصيف الماضي. كان في طريقه إلى أحد المعابر، يأمل أن يجد شاحنة مساعدات، عندما أصابته شظية من غارة إسرائيلية في رأسه.

قال عادل بصوت متهدّج لمرام: «أشعر بحزن شديد على والدك... قلبي مكسور».

بعد يومين، حدّثني خالد عن قصته. بدأت معاناته في نوفمبر 2024 عند أحد الحواجز العسكرية في شارع صلاح الدين. قال لي: «أجبروني على خلع كل ملابسي أمام سبعة جنود إسرائيليين». ثم أضاف أن الجنود احتجزوه داخل حمّام ضيّق وبدأوا استجوابه هناك. سألوه عن الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس، وإن كان عضوًا فيها أو في حركة الجهاد الإسلامي. أجابهم بالنفي، فانهالوا عليه بالضرب باستخدام مؤخرات بنادقهم. تذكّر أحدهم وهو يصرخ فيه: «أنت تكذب! سأطلق النار عليك».

قال خالد إنه نُقل لاحقًا إلى قاعدة «سدي تيمان»، وهي قاعدة عسكرية إسرائيلية تُستخدم كمركز احتجاز، حيث بقي معصوب العينين ومقيّد اليدين مائة يوم. مرتين أسبوعيًا، كان الجنود يطلقون عليه الكلاب المدربة، ويقذفونه بقنابل صوتية، ويرشّونه بغاز الفلفل. يقضي أيامه راكعًا على أرض قاسية مليئة بالحجارة الصغيرة. «كلما حاولت الجلوس على مؤخرتي، ركلني أحد الجنود»، قال خالد. «كان الطعام شحيحًا جدًا، وكان علينا قضاء حاجتنا ونحن معصوبو الأعين ومكبّلو الأيدي».

نُقل خالد لفترة وجيزة إلى سجن عوفر، وهو السجن الذي توفي فيه الطبيب عَدنان البُرْش، رئيس قسم العظام سابقًا في مستشفى الشفاء بغزة، بعد تعرضه للتعذيب في عام 2024. ثم أُعيد خالد مرة أخرى إلى «سدي تيمان». قال: «كان ذلك خلال ما يسمونه «فترة الديسكو»، حيث تُشغَّل مكبّرات الصوت بأغانٍ صاخبة لا تُحتمل. كنا مقيّدين مثل الكلاب، نُجبر على ارتداء حفاضات، ويضربوننا ويهينوننا بلا رحمة». في تلك الأيام، كان يتمنى الموت أحيانًا.

ما صدمني أكثر في حديثه تفصيل بعينه. خلال أحد الاستجوابات، اتهموه مجددًا بالانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي، فنفى قائلًا: «أنا مجرد فلاح». كان أكثر ما يخشاه أن تُقتل زوجته وأطفاله، أحدهم كان ينتظر عملية جراحية، في غارة إسرائيلية. قال لي إن ضابط مخابرات إسرائيلي عرض عليه صورة لعائلته. «كانت الصورة مأخوذة من بطاقة التأمين الصحي الخاصة بنا»، قال خالد بدهشة. لم يكن يعرف كيف حصلوا عليها. «الاعتقال كان عذابًا بحد ذاته، لكن التهديد الذي طال عائلتي كان عذابًا آخر، لا يقل عنه قسوة، وربما أشد».

بعد أربعة أيام من الاستجواب، توقفت الأسئلة، وأدرك خالد أن ملفه أُغلق. لكنه لم يُفرج عنه. نُقل إلى قسم آخر من القاعدة وقضى هناك نحو شهر، ثم أُرسل إلى سجن النقب، حيث ينام المعتقلون في خيام. قال: «كان الجنود يقتحمون خيامنا فجأة ويطلقون الرصاص المطاطي على أرجلنا وركبنا، ومن يُصاب يُترك ينزف». أضاف أن بعض الجروح تلوّثت حتى ظهرت فيها الديدان.

علم خالد بصفقة وقف إطلاق النار من بعض الحراس. في العاشر من أكتوبر، أمرهم حراس سجن النقب بالاصطفاف. ظن خالد أنه نُقل إلى سجن آخر، لكنه نُقل إلى مكان يُدعى «القسم أ». قال: «ذلك القسم مخصّص للمفرج عنهم. بدأنا نشعر بالأمل». وبعد ساعتين، كبّلوا أيديهم وأخذوهم لتسجيل البصمات، فاشتدّ شعورهم بأن الحرية تقترب.

ثم جاء الحراس وأخذوا البطانيات والفرش منهم. قال خالد: «قضينا الليالي الثلاث التالية ننام على الأرض الباردة». وأوضح أن كمية الطعام التي كانوا يحصلون عليها أصبحت أقل من قبل. وأضاف: «بدأ الخوف يتسلل إلينا مجددًا، ومع ذلك ظننا أنهم يفعلون ذلك لأننا على وشك الإفراج». ثم أشار إلى أن أحد ضباط المخابرات أخبره بأنه سيُطلق سراحه، محذرًا إياه: «إذا ارتكبت أي خطأ، فلن تكون هناك إنذارات. سنرسل صاروخًا نحوك، مفهوم؟».

بعد الإفراج عنه، سار خالد مسافة تقارب ثمانية أميال (نحو 13 كيلومترًا) عبر أحياء مدمّرة، من جنوب غزة إلى بلدة صغيرة قرب دير البلح. كان مرهقًا، لكن حماسته كانت تزداد كلما اقترب من لقاء زوجته وأطفاله. وعندما وصل أخيرًا إلى مجموعة الخيام التي تقيم فيها عائلته الممتدة، كانت ابنته الصغيرة أول من لمحته، فرفعها بين ذراعيه فرحًا. هرع بقية أفراد العائلة نحوه يعانقونه بحرارة.

دخل خيمة أسرته الصغيرة، فاحتضنته زوجته. كان يخشى أن يسألها عن ابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات. ثم اكتشف أن الطفل كان نائمًا فقط، مستلقيًا على بطانية رقيقة فوق الأرض. ركع خالد بجواره، ناداه باسمه، وانحنى ليقبّله. حرّك الطفل رأسه ببطء، فتح عينيه نصف فتحة، وألقى نظرة متعبة نحو وجه أبيه الذي بدا غريبًا عليه بعد عام من الغياب، ثم غفا مجددًا دون أن يتعرّف إليه.

عندما سألت مجلة ذا نيويوركَر الجيش الإسرائيلي عن الظروف التي وصفها خالد، ردّ المتحدث الرسمي بأنها «ادعاءات لا أساس لها من الصحة». أما مصلحة السجون الإسرائيلية، التي تدير سجني عوفر والنقب، فقد قالت لصحيفة واشنطن بوست: «إنها توفر ظروفًا معيشية ملائمة». غير أن منظمات حقوقية عديدة، إلى جانب الأمم المتحدة وعدد من وسائل الإعلام الدولية، وثّقت تجارب مشابهة لما رواه خالد، من إجبار المعتقلين على الركوع لفترات طويلة، والضرب، وهجمات الكلاب البوليسية، وحرمانهم من الرعاية الطبية.

وفي يونيو 2024، نشرت صحيفة التايمز تقريرًا عن معتقلين من غزة قالوا إنهم أُجبروا على خلع ملابسهم، وعُصبت أعينهم وكُبّلت أيديهم، ثم نُقلوا إلى مركز «سدي تيمان» حيث احتُجزوا في غرفة صاخبة تُعرف «بـغرفة الديسكو»، وتعرضوا فيها لتعذيب بدني ونفسي. وجاء في بيان الجيش الإسرائيلي الموجّه للصحيفة: «أي إساءة معاملة للمعتقلين، سواء أثناء الاحتجاز أو الاستجواب، تُعدّ انتهاكًا للقانون ولتعليمات الجيش، ولذلك فهي محظورة تمامًا». وعندما سُئل عن الغارات الجوية التي أودت بحياة مدنيين، أجاب الجيش الإسرائيلي لمجلة ذا نيويوركر: «طوال فترة الحرب، عمل الجيش الإسرائيلي وفق القانون الدولي لحماية أمن دولة إسرائيل ومواطنيها من هجمات حركة حماس التي تستهدف المدنيين، من خلال ضرب الأهداف العسكرية».

في الأسبوع الماضي، نشر صديق من مسقط رأسي (بيت لاهيا) مقطع فيديو على فيسبوك يُظهر حينا القديم. تحطم قلبي وأنا أشاهده، لم يبقَ منزل واحد قائمًا. عيادة طبيب الأسنان التي كانت في شارعنا، ومتجر الملابس المحلي، ومطحنة العلف التي كان والدي يشتري منها الحبوب لطيورنا وأرانبنا، حتى النخلة في الطريق التي كانت معلمًا لنا... كلها تحولت إلى رماد.

تلقّينا أيضًا صورة لخالد وزوجته أمام خيمتهما في دير البلح. خلفهما كانت ملابس خالد، التي ارتداها أثناء الاعتقال، معلّقة على حبل غسيل بدائي. نظرتُ أنا ومرام إلى الصورة بصمتٍ مفعمٍ بالامتنان والفرح الحذر. ثم همست بصوت متهدّج: «رحمك الله يا أبي». ورأيت في عينيها أمنية دفينة، لو أن والدها هو الآخر يعود يومًا إلى أسرته.

كثيرًا ما نتحدث أيضًا عن ابن عمها صهيب، الذي ما زال مصيره مجهولًا، ولم يتمكن أحد من أقاربه من الوصول إليه. إنه واحد من آلاف الفلسطينيين الذين ما زالوا رهن الاعتقال في السجون والمراكز العسكرية الإسرائيلية، وكثير منهم محتجزون دون تهم أو محاكمات، وهو ما وصفته منظمات حقوق الإنسان بأنه انتهاك صريح للقانون الدولي.

وِفقًا لبيان المكتب الإعلامي في غزة، فقد قُتل ما يقارب مائة فلسطيني منذ إعلان وقف إطلاق النار. وفي يوم الأحد الماضي، زعمت القوات الإسرائيلية أن حركة حماس انتهكت الهدنة بقتل جنديين إسرائيليين في جنوب غزة. في المقابل، نفت حماس علمها بوقوع أي اشتباك في المنطقة التي كانت تخضع للسيطرة الإسرائيلية، وأكدت التزامها باتفاق وقف إطلاق النار. لكن خلال سبع ساعات فقط، شنّ الجيش الإسرائيلي غارات أسفرت عن مقتل أكثر من أربعين شخصًا.

كان من بين الضحايا طفل في الثامنة من العمر، وهو ابن صديق لي. كان يقيم مع عائلة والدته في مخيم البريج، فقُتل مع عدد من أبناء عمومته. عندما اتصلت بصديقي لأعزّيه، قال بصوت متهدّج: «جثمانه بلا رأس ولا ساقين». حتى الآن، لم يشعر الناس في غزة أن الهدنة تختلف كثيرًا عن العامين اللذين سبقاها. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن قواته «ستواصل الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار وسترد بحزم على أي انتهاك».

لم أرَ أنا ومرام عائلتينا منذ قرابة عامين. أطفالنا يتذكرون غزة باعتبارها مكانًا للخوف. بعض أصدقائهم في المدرسة قُتلوا، لكننا لم نخبرهم بعد. اضطررنا فقط لإبلاغهم أن جدّهم من جهة الأم، الذي كانوا ينادونه «العم جليل»، قد قُتل. يفتقدون أجدادهم الثلاثة الأحياء، وأعمامهم وعماتهم وأبناء عمومتهم. أما مصطفى، أصغرهم سنًّا، فلا يريد حتى التفكير في العودة. فما زال يحمل في داخله رعب الشهرين اللذين عشناهما تحت القصف.

ورغم كل شيء، عندما قرأنا لأول مرة خبر وقف القصف، التفتت مرام إليّ وقالت بابتسامة حزينة: «سأذهب لزيارة عائلتنا في غزة». ثم أضافت برقة: «ابقَ أنت مع الأطفال، حسنًا؟». كنا نعلم معًا أن ذلك شبه مستحيل. فغزة اليوم خراب فوق خراب، ولا شيء يُنتظر هناك سوى لقاء الأحبة. معبر رفح ما زال مغلقًا، حتى الجرحى في حالات حرجة لا يُسمح لهم بالمغادرة، وأي محاولة للعودة قد تعني الوقوع في فخ الإغلاق مجددًا. ومع ذلك، كانت رغبتها واضحة، أن تكون هناك، مع أهلها، في تلك اللحظات الهشة من الصمت، لتشاركهم فرحة البقاء وحزن الفقد في آنٍ واحد.  

مصعب أبو توهة: الحائز على جائزة بوليتزر لعام 2025 عن مقالاته في ذا نيويوركر حول غزة، هو أيضًا صاحب مجموعة الشعر «غابة الضجيج»، التي جعلت من الشعر شاهدًا على الذاكرة والدمار والحنين.

الترجمة عن مجلة ذا نيويوركَر

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجیش الإسرائیلی وقف إطلاق النار من أکتوبر حرکة حماس قال خالد التی کان من العمر ومع ذلک قد ق تل فی غزة مجدد ا فی تلک ما زال قال لی

إقرأ أيضاً:

أحمد محسن: إيمان الطوخي كانت الأنسب لافتتاح المتحف المصري الكبير

أثار المطرب أحمد محسن تفاعلًا واسعًا عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بعد منشور شاركه على حسابه، عبّر فيه عن رأيه في الفنانة المعتزلة إيمان الطوخي، معتبرًا أنها كانت الأنسب لتقديم حفل افتتاح المتحف المصري الكبير.

وكتب أحمد محسن في منشوره: "عارف اني شهادتي مجروحة جدا لو قولت الكلام ده بس من وجهة نظري المتواضعة انتي كنتي النجمة والفنانة المناسبة شكلا وموضوعا ولباقة وصوتا اللي تستحق انها تقدم افتتاح المتحف المصري الكبير مع كل احترامي وتقديري للفنانات اللي اتذكرت اسماءهم".

وبعد أكثر من ثلاثة عقود على إعلان فكرته وعشرين عامًا من أعمال البناء المتواصلة، تستعد مصر أخيرًا لافتتاح المتحف المصري الكبير، في حدث يوصف بأنه الحدث الثقافي الأكبر في القرن الحادي والعشرين.

ويعد المتحف، الذي يقع على بعد كيلومترين فقط من أهرامات الجيزة، أكبر متحف أثري في العالم، إذ يجمع تحت سقف واحد أغلب كنوز الحضارة المصرية القديمة، بما في ذلك المجموعة الكاملة لمقتنيات مقبرة الملك توت عنخ آمون التي تعرض لأول مرة مجتمعة أمام الجمهور.

ويمتد المتحف على مساحة 90 ألف متر مربع ضمن موقع تبلغ مساحته 50 هكتارًا، أي ما يعادل نحو ستة أضعاف حجم المتحف المصري القديم في ميدان التحرير.

طباعة شارك المطرب أحمد محسن فيسبوك إيمان الطوخي المتحف المصري الكبير أهرامات الجيزة

مقالات مشابهة

  • السفيرة إلينا بانوفا: مصر كانت وما زالت ركيزة أساسية في الأمم المتحدة
  • المصرى القديم للعالم: لوْلَاىَ ما كانت الموسيقى
  • بحرية المقاومة الوطنية تحبط شحنة موت إيرانية كانت في طريقها إلى الحوثيين
  • تلاميذ بلا هواتف.. هكذا كانت نتائج تجربة حظر الأجهزة الذكية من المدارس
  • أحمد محسن: إيمان الطوخي كانت الأنسب لافتتاح المتحف المصري الكبير
  • هل كانت صورة الشرع سبب حكم الإعدام على شاب سوري بالعراق؟
  • هل ينتفع الميت بالصدقة سواء كانت من ماله أو مال المُتصدِق؟
  • نيللي كريم : الناس كانت بتشبهني بالفنانة نيللي وده كان بيضايقني
  • بارزاني: حملات الابادة الجماعية للكورد بدأت بالفيليين وآخرها كانت ضد الإيزيديين