صراحة نيوز- ​الباحثة د.زهور غرايبة

منذ أن تولى جلالة الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية عام 1999، تشكّل خطاب الإصلاح والتحديث كجوهرٍ ثابت في فلسفة الحكم الأردنية، لا كاستجابة لأزمات أو ضغوط ظرفية؛ فالملك، منذ خطابه الأول، قدّم رؤية تقوم على تحويل الدولة الأردنية من دولة إدارة إلى دولة مؤسسات فاعلة، ومن شرعية الإنجاز إلى شرعية المشاركة، ومن مركزية السلطة إلى توزيعها على قاعدة المسؤولية والمساءلة.

هذه الرؤية تشكل مشروعًا متصاعدًا في الوعي السياسي الأردني، تبلور عبر خطابات العرش المتعاقبة بوصفها “الوثائق التأسيسية” التي تحدّد اتجاهات الدولة ومسارها الإصلاحي، وبين عامي 2020 و2025، بلغ هذا المسار ذروته حين أُعيد تعريف مفهوم التحديث السياسي في ضوء المئوية الثانية للدولة، لتصبح الخطابات الملكية خريطةً فكرية لمسار الدولة الحديثة في بعدها الإنساني والمؤسسي.

تهدف هذه المقاربة إلى تحليل خطابات العرش السامية بين عامي 2020 و2025 بوصفها نصوصًا سياسية تأسيسية تعبّر عن تطور الوعي الإصلاحي في الأردن، وتكشف عن المسار التراكمي للتحديث الذي يقوده جلالة الملك عبد الله الثاني منذ توليه سلطاته الدستورية عام 1999، وإلى تفكيك البنية الخطابية والدلالية لهذه النصوص، واستكشاف التحول في المفاهيم المركزية مثل المشاركة، سيادة القانون، والتمكين المجتمعي للمرأة والشباب، بوصفها ركائز لفهم التحديث السياسي لا كإجراء حكومي، بل كنهج فكري وثقافي يُجسّد هوية الدولة الأردنية في المئوية الثانية.

أولًا: التحديث بوصفه بنية ذهنية مستمرة
لا يمكن قراءة خطابات العرش بين 2020 و2025 بمعزل عن إرث الإصلاح الممتدّ منذ بداية العهد الملكي، ففي السنوات الأولى، شكّل الملك مفهوم “الإصلاح التدريجي المحسوب” كإطار فلسفي مغاير للإصلاح الثوري أو الفجائي، واضعًا أساسًا لمقاربة أردنية مميزة للتحديث: مقاربة تستند إلى التراكم، لا إلى القطيعة.

إن جوهر الإصلاح في الفكر السياسي للملك عبد الله الثاني يستند إلى قناعة بأن الدولة الحديثة لا تُبنى فقط عبر مؤسساتها، إنما عبر وعي مواطنيها بوظيفتها، فالتحديث هنا ليس مشروع نخبويًّا تديره الدولة من الأعلى، بل حركة وعي جماعي يقودها رأس الدولة ويشارك فيها المجتمع. ولهذا كانت اللغة الملكية منذ مطلع العهد تُزاوج بين مفردات الاستقرار والتجديد، بوصفهما وجهين لمعنى واحد هو “الديمومة السياسية”. فالإصلاح في الأردن ليس قطيعة مع الماضي، إذ يشكل استمرارية نقدية له؛ أي أنه وعي متجدّد بالتاريخ لا نفي له، وبذلك يظلّ التحديث مشروعًا متحرّكًا يحمل طابعًا أردنيًا خالصًا يجمع بين المحافظة والعصرنة في آن واحد.
وفي خطابات العرش الحديثة، يظهر هذا المفهوم متطورًا من “التحديث كقيمة” إلى “التحديث كنهج إداري ودستوري”، أي انتقال الخطاب من الدعوة الأخلاقية إلى الترجمة المؤسسية. وهنا تتضح إحدى سمات الفكر السياسي الأردني: أن الإصلاح لا يُفرض من الخارج، إذ أنه يُبنى من الداخل عبر لغة سياسية متدرجة تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وتُرسّخ مفهوم المشاركة كشرط للسيادة الوطنية.

ثانيًا: من خطاب التوجيه إلى خطاب البناء
في خطاب العرش لعام 2020، وسط أجواء الجائحة والأزمة الاقتصادية، لم يتراجع الملك عن أولوية الإصلاح، قدّم “الثقة” كمفهوم مركزي يعيد توحيد المجتمع والدولة في لحظة امتحان، كانت “الثقة” فعلًا سياسيًا لا شعورًا، وفعلًا مرتبطًا بالعمل والفعل الكبير، إذ ارتبطت بالالتزام بالدستور وبالمسار الديمقراطي رغم الظروف.

لكن ابتداءً من عام 2021، تحوّل الخطاب من مجرد التوجيه إلى التأسيس البنيوي؛ حيث أعلن الملك بوضوح الدخول في “مسيرة تحديث شاملة” تتقاطع فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والإدارية. تأسيس لجنة تحديث المنظومة السياسية كان تجسيدًا لمبدأ إصلاح النظام من داخل مؤسساته، لا من خارجها، وهو مبدأ يميز التجربة الأردنية عن كثير من التجارب في الإقليم.
وفي هذه المرحلة، يظهر الخطاب الملكي كخطاب بنائيّ، يضع الهياكل القانونية والسياسية لمسار تحديثي طويل الأمد، ويربط بين الإصلاح الدستوري والعدالة الاجتماعية والتنمية، في انسجامٍ نادر بين الفلسفة السياسية والإدارة العامة.

ثالثًا: المرأة والشباب في هندسة الدولة الحديثة
لم يكن حضور المرأة والشباب في خطابات العرش جديدًا؛ فمنذ مطلع العهد، ارتكز الخطاب الملكي على مبدأ “التحديث بالمشاركة”، معتبرًا أن المرأة والشباب ليسوا فئات مستهدفة بالإصلاح، إنما أدواته الحقيقية التي لا يكتمل التحديث دون مشاركتهما، غير أن خطابات 2020–2025 عمّقت هذا المفهوم عبر تحوّل جوهري في اللغة: من التمكين إلى الشراكة، ومن المشاركة الرمزية إلى المشاركة البرامجيّة.

إن حضور المرأة والشباب في الخطاب الملكي يحمل وظيفة رمزية وسياسية عميقة، فالمرأة تمثل في الوعي الملكي “ضمير الدولة” القائم على العدالة والرعاية، بينما يجسد الشباب “حيويتها المستقبلية”. ومع أن الخطابات السابقة لسنوات 2020–2025 أكدت هذا المعنى، إلا أن الخطابات الأخيرة نقلت المرأة والشباب من الهامش الرمزي إلى المركز المؤسسي، حين دعا الملك صراحة إلى أن يكونا جزءًا من “برلمانات المستقبل”. بذلك، تحوّل الحديث عن تمكينهما من وعد أخلاقي إلى التزام دستوري، يكرّس تحوّل الدولة من النموذج الأبوي إلى النموذج التشاركي، حيث إن دمج المرأة والشباب في البنية السياسية يعكس انتقال الأردن من مفهوم الحماية إلى مفهوم الثقة، ومن علاقة الرعاية إلى علاقة الشراكة في إنتاج القرار.

وفي خطاب 2021، أُعلن بوضوح أن التحديث لن يكتمل إلا بوجود “الشباب والمرأة في برلمانات المستقبل”، أما في 2023 و2024 فقد تحوّل الخطاب إلى دعوة لمأسسة هذا الدور داخل الأحزاب، لا عبر الكوتا، التي كانت وما زالت أداة مؤقته لإشراك الشباب والمرأة في العملية السياسية، ومن هنا تتجلّى الرؤية الملكية لدمقرطة الدولة عبر بناء قيادات جديدة “تبعث الحيوية في مؤسساتها”، فيتحول الشباب والنساء إلى بُنى فكرية تمثل التجديد لا الجندر.

وهكذا يصبح خطاب التحديث أداة لإعادة هندسة العلاقة بين الأجيال، بحيث تُمنح السلطة السياسية مضمونها الاجتماعي والثقافي، فيرتقي الوعي الجمعي نحو الدولة المدنية القادرة على إنتاج قيادات متجددة من داخلها.

رابعًا: التحديث كتوازن بين الشرعية والاستدامة
من 2022 إلى 2025، تتعمّق في الخطابات مفاهيم مثل “العمل البرامجي”، “المواطنة الفاعلة”، و“الشراكة بين السلطات”، لتشكل ما يمكن وصفه بـ “دستور التحديث غير المكتوب”.
هذا التحول في اللغة إلى “نحن” يعكس نضجًا في الخطاب السياسي الأردني، حيث تتحول الدولة من كيان إداري إلى كيان وجداني، ومن سلطة إلى علاقة عقدية تقوم على المسؤولية المتبادلة.

ويُظهر الخطاب الملكي بين 2022 و2025 وعيًا متقدّمًا بأن الشرعية السياسية لا تكتمل دون مشروعية شعبية تستند إلى المشاركة والرضا. فالملك في خطابه لا يتحدث باسم الدولة فقط، بل عنها ومعها في آن واحد، فيتحوّل النص السياسي إلى مساحة تواصل وجداني بين الحاكم والمجتمع. وحين يقول “يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله، وفي ظهره أردني”، فإنه يؤسس لمفهوم جديد للقيادة يقوم على الشفافية والمصارحة، أي على شرعية تقوم على الصدق لا على الرمزية، وهي كلمات نادرة في الخطاب السياسي العربي، إذ تتجلى فيها الدولة ككائن حيّ يشارك شعبه القلق والعمل والأمل.

خامسًا: البنية اللغوية والدلالية لخطاب التحديث
لغة خطابات العرش بين 2020 و2025 تنتمي إلى حقل لغوي متّسق يزاوج بين الواقعية والإلهام. فالملك لا يتحدث بلسان السلطة العليا فقط، بل بلسان الإنسان الأردني الذي يرى في العمل العام واجبًا أخلاقيًا، وضميرًا كبيرًا.
يتكرر في الخطابات معجم لغوي ثابت: “الثقة – المشاركة – الشباب – المرأة – الدولة الحديثة – سيادة القانون – المئوية الثانية”. هذا المعجم لا يمكن أن يكون فقط تكرارًا، لكنه يشكل بناءٌ مقصود لتوليد خطاب سياسي متدرّج يرسّخ القيم قبل السياسات، وهنا يمكن القول إن اللغة في الخطاب الملكي ليست وسيلة للتعبير عن الإرادة السياسية فحسب، هي وسيلة لتشكيلها وصياغة الوعي الجمعي بها.

سادسًا: من التحديث السياسي إلى تجديد فلسفة الدولة
في المدى الزمني بين 2020 و2025، تحوّل مشروع التحديث من حزمة إصلاحات سياسية إلى مشروع ثقافي حضاري يعيد تعريف الدولة الأردنية في وعي مواطنيها، فقد تحولت “المئوية الثانية” من مناسبة رمزية إلى نقطة تحول معرفي، يعاد فيها بناء مفهوم الدولة بوصفها إطارًا للكرامة الإنسانية، لا مجرد سلطة حاكمة.
ويكشف التحليل أن الخطاب الملكي سعى لتثبيت معادلة دقيقة: تحديث سياسي دون تفريط بالثوابت، وانفتاح دون انفلات، هذه المعادلة هي التي حفظت للأردن استقراره في محيط إقليمي متقلب، وجعلت من الإصلاح خيارًا وطنيًا نابعًا من الداخل، وعمقت بشكل كبير جدًا ثقة الشعب العرش.

سابعًا: التحديث بين القول والفعل ومركزية الانسان في الدولة
تميّز الخطاب الملكي في هذه الفترة بقدرته على الانتقال من المجال الرمزي إلى الواقعي، فكل خطاب كان يتبعه مسار مؤسسي يترجمه إلى سياسات: لجنة التحديث، قوانين الأحزاب والانتخاب، تمكين المرأة والشباب، رؤية التحديث الاقتصادي، وتحديث القطاع العام.
هذه الترابطية بين الخطاب والفعل السياسي تشكّل إحدى ركائز المصداقية في النظام السياسي الأردني، إذ جعلت من الخطابات وثائق عمل لا بيانات احتفالية.

وفي كل خطاب من 2020 إلى 2025، يعود الملك لتأكيد أن “الإنسان هو أغلى ما نملك”، لكن دلالة العبارة تطورت: من مفهوم الرعاية في المراحل الأولى إلى مفهوم المسؤولية في الخطابات الأخيرة. وهكذا أعاد الخطاب السياسي صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن لتصبح علاقة إنتاج وتكامل، لا علاقة وصاية أو انتظار.

وتكشف خطابات العرش السامية (2020–2025) عن مسار وطني عميق يعيد صياغة الدولة الأردنية كمشروع مستمر للتحديث المتوازن، فالإصلاح في الفكر الملكي ليس استجابة لأزمة، إذ أنه هوية وطنية متجددة، والشباب والمرأة ليسوا عناصر مكمّلة، إنهما روافع في البناء السياسي والاجتماعي ومختلف مجالات الحياة.

وبذلك يمكن القول إن خطاب التحديث في الأردن تجاوز حدود السياسة اليومية، ليصبح فلسفة حكمٍ متكاملة تستند إلى إرثٍ هاشمي طويل في الإصلاح والتنوير، وتؤسس لمئوية ثانية عنوانها “دولة الإنسان والمؤسسات”.

المصدر: صراحة نيوز

كلمات دلالية: اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي منوعات الشباب والرياضة تعليم و جامعات في الصميم ثقافة وفنون نواب واعيان علوم و تكنولوجيا اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي نواب واعيان تعليم و جامعات منوعات الشباب والرياضة توظيف وفرص عمل ثقافة وفنون علوم و تكنولوجيا زين الأردن أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام المرأة والشباب فی السیاسی الأردنی الدولة الأردنیة التحدیث السیاسی المئویة الثانیة الدولة الحدیثة الخطاب الملکی فی الأردن فی الخطاب العرش ا فی خطاب ل خطاب

إقرأ أيضاً:

نمو الأطباء السعوديين المبتعثين بكندا 256% وأمريكا 62% خلال 6 أعوام

سجّلت أعداد الأطباء السعوديين المبتعثين والخريجين في التخصصات الصحية والطبية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ارتفاعات قياسية.

وبلغ الإجمالي التراكمي للأعوام 2020 - 2025 في البلدين 8,036 طبيبًا ومبتعثًا، منها 6,052 في الولايات المتحدة  و 1,984 في كندا، ما يعكس الدعم اللامحدود من القيادة الرشيدة، وبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي.

وسجّلت أعداد الخريجين في كندا نموًا قياسيًا بنسبة تقارب 256% بوصول عدد المتوقع تخرجهم في عام 2025 إلى 606، مقارنة بـ170 خريجًا في عام 2020، في حين سجّلت أعداد الخريجين المتوقعين في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2025 ارتفاعًا ليصل إلى 1,847، بنسبة زيادة بلغت نحو 62.02% مقارنة بـ1,140 خريجًا في عام 2020.

وأكدت الدكتورة تهاني بنت عبدالعزيز البيز، الملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمشرف على دول أمريكا الجنوبية ، أن هذه الأرقام تشير إلى استمرار دعم القيادة الرشيدة، واستثمارها في رأس المال البشري الصحي، وتوسيع الشراكات الأكاديمية مع الجامعات العالمية، بما يرفد القطاع الصحي بكفاءات وطنية مؤهلة، ويساند تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تطوير المنظومة الصحية.

كنداأخبار السعوديةالأطباء السعوديونقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • آل خطاب يلتقي رئيس الديوان الملكي الهاشمي العامر
  • القاضي يدعو النواب لمناقشة رد خطاب العرش الاثنين
  • نمو الأطباء السعوديين المبتعثين بكندا 256% وأمريكا 62% خلال 6 أعوام
  • الشوبكي .. الغاز السياسي الاسرائيلي يضغط على مصر وربما الاردن / فيديو
  • لجنة الرد على خطاب العرش تعد مقترح الصيغة بعد الاستماع لملاحظات النواب
  • وزيرة الدولة للشؤون الخارجية تبحث ومدير مركز التوثيق الملكي تعزيز التعاون
  • الطراونة: “الميثاق الوطني” الذراع السياسي للحزب ونؤكد دعمنا لمسارات التحديث الثلاث
  • القيسي: لجنة الرد على خطاب العرش تُعدّ صيغة الرد وتقدمها لمجلس النواب
  • القاضي يدعو النواب للاجتماع الاثنين لمناقشة الرد على خطاب العرش