اخترت الحديث عن شخصيتين في بلدي تونس، ربطتني بهما تقاطعات عديدة خلال السنوات الأخيرة رغم اختلاف المسارات، وفي هذه الأيام أصبحا محل اهتمام الكثير من التونسيين والمراقبين.
 
 الأول هو القاضي الإداري السابق والمحامي حاليا أحمد صواب؛ الذي حكم عليه بخمس سنوات سجنا وإخضاعه ثلاث سنوات أخرى للمراقبة. حصل ذلك رغم رفضه أن يحاكم عن بُعد، وسانده في ذلك محاموه، وفي مقدمتهم عميد المحامين الجديد، الذي وعد زملاءه بجعل الدفاع عن الحريات في مقدمة أولوياته المهنية.
                
      
				
قبل أيام قليلة من الجلسة، نظمت في كلية الحقوق والعلوم السياسية محاكمة صورية أدارتها شخصيات قانونية، كشفت عن بطلان الإجراءات، وانتفاء تهمة الإرهاب التي استند عليها القضاء. لكن ذلك لم يتم أخذه بعين الاعتبار، وتمت إدانة هذا الرجل الذي تحول إلى أيقونة يدافع عنها الشباب، ويتظاهرون من أجله. فهو الذي سخر نفسه للتصدي لما اعتبره "تغول السلطة باسم القانون"، خاصة بعد استقالته من القضاء وارتداء جبة المحاماة، وهو ما جعل منه الضيف المبجل لمختلف وسائل الإعلام المستقلة والخاصة. واستمر على هذا النهج إلى أن وجد نفسه لأول مرة قابعا منذ ستة أشهر في زنزانة موحشة.
الذين يعرفون هذا الرجل عن قرب، ويبحثون في سجله منذ أن كان يافعا، يتأكدون من خلو هذا السجل ليس فقط من شائبة السلوك العنيف، ولكن أيضا من أي فكر متطرف سواء يمينا أو يسارا، مع ذلك وجد نفسه محالا بتهمة ذات صبغة إرهابية. قصة مؤلمة في وضع يسوده الغموض.
أما الشخص الثاني الذي عاد الجدل حوله هو جوهر بن مبارك، الذي لم يقبل بأن يجد نفسه في السجن لقضاء 18 عاما من أجل جريمة يعتقد جازما بكونه لم يرتكبها. لهذا السبب قرر بعد ستة إضرابات سابقة، أن يعرّض حياته هذه المرة للخطر المباشر بشن إضراب قاسٍ؛ لا يتناول خلاله الطعام والماء والدواء. وفي رسالته الأخيرة التي كتبها قبل أيام داخل المعتقل، اختار لها عنوانا صادما ومخيفا "لن تقتلني بصمت"؛ كتبها في وحدته، واختزل فيها كل ما يملك من قوة ويأس وتحد، مؤكدا مرة أخرى على كون "الجريمة لم يرتكبها"، وواصفا إياها بـ"سيناريو رديء لا يستحقّ حتى الشرح والبيان". وختم الرسالة بعبارات موجعة أتجنب نشرها في مقالي حتى لا تثير حفيظة الرقيب.
الغريب في هذه القصة السوداء أن جوهر -ابن المناضل اليساري عز الدين الحزقي- والرئيس قيس سعيد زميلان سابقا في كلية الحقوق، ومختصان في القانون الدستوري، وربطتهما زمالة وصداقة، لكن مزاج الرجلين انقلب تماما بعد 25 تموز/ يوليو، ليجد الأول نفسه في تناقض جوهري مع الرئيس، إذ وصف الحركة التي تمت حينها بـ"الانقلاب" ورفض الاعتراف بشرعيتها. في البداية اعتمد أسلوب الإقناع، حيث دار حوار بين الرجلين في القصر الرئاسي، دافع كل طرف على وجهة نظره بكل حرية واحترام، لكن الحصيلة جاءت عكسية، لم يقتنع أحدهما بوجهة نظر الآخر، فقرر جوهر التصعيد السلمي ضد الرئيس. نزل الميدان، وقاد المظاهرات، وترأس التجمعات المناهضة لقيس سعيد، داعيا إلى الضغط السياسي، وحاول دفع الرئيس نحو الاستقالة.
في هذا السياق تجاوز جوهر ما اعتبره الرئيس خطا أحمر حين تحالف سياسيا مع حركة النهضة رغم خلافه معها جذريا، حينها تغير الطرح والمزاج، وأصبحت سلطة الرئيس في الميزان، فكانت النتيجة الاستعانة بالأمن والقضاء، وتحولت المشاورات التي تمت بين العديد من السياسيين بحثا عن كيفية إخراج البلاد من حالة المأزق السياسي وفق تصورهم، إلى "مؤامرة" ضد الرئيس ونظامه.
عرفتُ جوهر بعد الثورة، كان متحمسا، يتقد حيوية واندفاعا. آمن بالثورة وبإمكانية إصلاح أخطائها وترويض القوى السياسية الفاعلة بمن في ذلك الإسلاميون، أسس شبكة "دستورنا"، ودافع عن دستور 2014 باستماتة رغم النقائص التي كانت كامنة فيه. كان صوته يملأ الساحات، ووجهه الجميل يتصدر الشاشات، وفجأة وجد نفسه مجردا من حريته وحقوقه لا يقدر على شيء، لا يَسمع ولا يُسمع، فانتابه إحساس قاتل بكونه مهددا بالموت البطيء داخل سجن المرناقية. والأهم من ذلك، أصيب الرجل بصدمة قوية نتيجة ما لاحظه من شلل أصاب المعارضة والمدافعين عن الديمقراطية نتيجة العجز والخوف الذي تسرب إلى صفوف الكثيرين منهم.
هكذا يفكر السجين السياسي في معتقله، بعد أن كان يحلم بتغييرات عميقة وكبيرة، وأمامه الجماهير الهادرة تردد ما يقول وتزيده قوة وإيمانا، ثم يلتفت فجأة بعد أن تم اعتقاله، فلا يسمع إلا بعض الأصوات، ويكتشف أن الأرض استمرت في الدوران كعادتها، وأن الزمن السياسي لم يتوقف، وأن الكثير ممن عرفهم صدّقوا ما قيل في شأنه، وبعضهم وصفوه بما لا يليق. عندها أصيب بالإحباط، وخشي من أن يطويه النسيان كما حصل مع الكثيرين، ويصبح أثرا بعد عين، حينها انتفض في زنزانته، واختار السيناريو الأقصى والأكثر قسوة، وأطلق صرخته اليائسة "عليّ وعلى أعدائي"!!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه تونس المحاكمة قيس سعيد اعتقاله تونس اعتقال محاكمة قيس سعيد مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الصليب الأحمر عن مجازر السودان: التاريخ يعيد نفسه
صراحة نيوز-قالت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش، إن التاريخ يعيد نفسه في منطقة دارفور بالسودان، وذلك بعد تقارير عن عمليات قتل جماعي خلال سقوط مدينة الفاشر في أيدي قوات الدعم السريع شبه العسكرية الأسبوع الماضي.
رويترز