خالد بن حمد الرواحي
في صباحٍ اعتيادي، تصل الساعة إلى الثامنة، وتبدأ أبواب المؤسسات الحكومية بالانفتاح. في الخارج ينتظر المواطنون على المقاعد الحديدية، يراقبون حركة الموظفين بين الممرات والمكاتب. بعضهم يُمسك هاتفه، وآخر يتبادل الحديث عن بطء الإجراءات. خلف هذا المشهد البسيط تدور خسارة لا يراها أحد؛ فكل دقيقةٍ تمضي تُكلّف خزينة الدولة مالًا عامًا مهدورًا، والوقت الضائع بلا إنتاجية ليس سوى وجهٍ آخر للفساد الصامت.
الوقت في المؤسسات ليس مجرد حضورٍ وانصراف؛ بل أصلٌ وطنيّ يجب أن يُدار بصرامةٍ وانضباط، تمامًا كما تُدار الأموال والمشروعات. فكل دقيقةٍ تُهدر تُخصم من ميزانية التنمية، وتُضعف ثقة الناس في كفاءة الجهاز الإداري. ولا تصنع الموارد وحدها الفارق بين الدول، بل تصنعه إدارة الوقت؛ فالأمم التي تُقدّر دقيقتها تُنجز في عامٍ ما قد لا تحققه أخرى في عقدٍ كامل. ومن هنا، يصبح احترام الوقت العام واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا لا يقلّ قداسةً عن صون المال العام.
في بعض المؤسسات يبدأ النهار بسلسلةٍ من الاجتماعات التي لا تنتهي، وتضيع الساعات في انتظار توقيعٍ أو ردٍّ من مسؤولٍ منشغلٍ بلقاءاتٍ متكرّرة. وبين مكاتب تتكدس فيها الملفات، ورسائلَ بريدٍ تنتظر الإجابة، يُستنزف "الوقت العام" بهدوءٍ عجيب، كأنه موردٌ لا ينضب. والأسوأ أن هذا الهدر لا يُقاس بالأرقام، بل بنبض العمل المتوقف خلف المكاتب المغلقة.
وما لا يُدركه البعض هو أن كل دقيقةٍ مهدرة تجرّ وراءها خسائرَ خفيةً: تأخرٌ في إنجاز المعاملات، وضعفٌ في جودة القرارات، وبطءٌ في تنفيذ المشروعات، وتراجعٌ في ثقة المواطن بالمؤسسة. فالوقت العام عنصرُ إنتاجٍ حقيقيّ لو أُدير بكفاءة، لأصبح مصدرًا للقيمة الاقتصادية. ولو احتسبنا عشرَ دقائقٍ مهدرة يوميًا من كل موظفٍ في مؤسسةٍ تضم ألفَ عامل، لبلغ الهدر أكثر من أربعين ألف ساعة عمل سنويًا بلا مقابل إنتاجي؛ أي خسائرَ صامتة توازي مشروعاتٍ كاملة كان يمكن إنجازها، وساعاتٍ ضائعة من عمر الوطن نفسه.
ليس احترام الوقت العام مجرد انضباطٍ إداري، بل قيمةٌ وطنيةٌ وأخلاقية تعبّر عن وعي المجتمع بحقوقه وواجباته. فحين يؤدي الموظف عمله في وقته، فإنه لا ينجز مهمةً إدارية فحسب، بل يُقدّم خدمةً للوطن ويصون ثقة الناس في مؤسساته. ومن يهدر ساعةً من ساعات العمل العام يعتدي – من حيث لا يشعر – على حقِّ مواطنٍ ينتظر خدمةً أو قرارًا. فـالزمن في المرفق العام ليس ملكًا شخصيًا، بل أمانةٌ في عنق كل موظف.
ومن صور الهدر أن يظن بعض الموظفين أن الالتزام يقتصر على إثبات الحضور والانصراف عبر نظام البصمة، بينما يقضون ساعات العمل في الخارج منشغلين بأمورهم الخاصة. فيغيب المعنى الحقيقي للانضباط، ويعود بعضهم في نهاية اليوم لتسجيل الانصراف وكأن شيئًا لم يكن، غير مدركين أن الرواتب التي تُصرف لهم عن ذلك الوقت تمثل مالًا عامًا لا يقابله عملٌ حقيقيّ. فالراتب ليس هبةً من المؤسسة، بل حقٌ يُمنح مقابل الجهد والإخلاص في أداء الواجب.
وفي المقابل، هناك فئةٌ أخرى يُشهد لها بالانضباط حضورًا وانصرافًا، لكنها في الحقيقة حاضرةٌ في المكان، غائبةٌ عن العمل. تقضي ساعات اليوم في أحاديثٍ جانبية، وتنقّلٍ بين المكاتب، وتصفّحٍ لمواقع التواصل، واستخدامٍ مفرطٍ للهواتف، وكأن الوقت العام مساحةٌ للترفيه لا للعمل. هؤلاء لا يخرقون النظام من حيث الشكل، لكنهم يُفرغونه من روحه؛ فـالانضباط الشكلي بلا إنتاجية هو وجهٌ آخر للهدر.
يبدأ الإصلاح الحقيقي لعلاقة المؤسسات بالوقت من إعادة تعريف مفهوم الإنجاز؛ فالحضور لا يعني دائمًا عملًا، والاجتماع لا يعني بالضرورة إنتاجًا. المطلوب هو إدارة دقيقة للمهام تقيس المخرجات لا الساعات، وتربط المكافآت بمستوى الأداء الفعلي. كما أن التحول الرقمي يمكن أن يكون حليفًا قويًا لترشيد الوقت، إذا اقترن بوعيٍ في الاستخدام يهدف إلى تقليل الإجراءات، وتبسيط الخدمات، ومتابعة الإنجاز في الزمن الحقيقي.
وفي نهاية المطاف، لا تُقاس حضارة الأوطان بعدد مبانيها أو ضخامة ميزانياتها، بل بقدرتها على احترام دقائقها وساعاتها. فالزمن هو الحياة حين يُدار؛ والضياع حين يُهمل. وإذا كان المال العام يُحمى بالقوانين، فإن الوقت العام يحتاج إلى ضميرٍ حيٍّ يراقب قبل أن يُحاسِب. وعندما يدرك كل موظفٍ أن دقائقه ملكٌ للوطن، سنرى وطنًا ينهض حقًا، لا بالموارد، بل بالإحساس الصادق بالمسؤولية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تقرير يكشف عملية تجسس استخباراتية مرتبطة بقطر استهدفت الموظفة التي اتهمت كريم خان بالاعتداء الجنسي
كشفت الغارديان عن عملية سرية تقف وراءها جهات مرتبطة بقطر استهدفت موظفة في المحكمة الجنائية الدولية اتهمت المدعي العام كريم خان بالاعتداء الجنسي واستغلال السلطة.
كشفت صحيفة "الغارديان" عن تعرض موظفة في المحكمة الجنائية الدولية، تتهم المدعي العام كريم خان بالاعتداء الجنسي، لعملية تجسس سرية نفذتها شركات استخبارات خاصة، في خطوة قالت الصحيفة إنها جاءت نيابة عن جهات داخل الدولة القطرية.
العملية، التي وصفتها الضحية المزعومة بـ"المفجعة"، سعت للحصول على معلومات شخصية وحساسة عنها وعن عائلتها، بما في ذلك تفاصيل جواز سفرها، ومعلومات عن طفلها، وعلاقاتها السابقة، ووضعها المالي.
عملية تجسس تبحث عن "ثغرة"وبحسب ملفات مسربة وأشخاص مطلعين، استعانت شركة "هايغيت" البريطانية، وهي شركة تعمل في قلب منطقة مايفير في لندن وتقدم خدمات "استشارات استراتيجية" لكبار القادة التنفيذيين والسياسيين، بشركة متخصصة أخرى لجمع معلومات تخص الموظفة وزوجها ووالديه.
كان الهدف، وفق الوثائق، هو العثور على أي رابط بينها وبين إسرائيل أو أجهزتها الاستخباراتية، في محاولة لتقويض مصداقيتها والاتهامات التي وجهتها إلى المدعي العام للمحكمة. إلا أن الوثائق تشير إلى عدم العثور على أي دليل يربطها بتلك الجهات.
وبحسب الصحيفة، شملت العملية جمع تقارير مفصلة حول حياتها الخاصة وتحركاتها ورحلات سفرها، وصولاً إلى كلمات مرور لحساباتها الإلكترونية يبدو أنها استُخرجت من بيانات مخترقة منشورة على الإنترنت المظلم.
المرأة، وهي محامية في الثلاثينات من عمرها، قالت للغارديان إن ما جرى "غير قابل للفهم كما هو مفجع"، مضيفة: "جئت لأخدم، لا لأُرى. إذا كانت هذه هي العدالة الدولية، فهي ليست المنظومة التي كرست حياتي لها".
كانت المرأة قد اتهمت كريم خان بسلوك جنسي قسري واستغلال للسلطة خلال فترة عملها معه، مشيرة إلى أن الحوادث المزعومة جرت في غرف فنادق خلال رحلات عمل، وفي مكتبه داخل المحكمة، وحتى في منزله.
Related تقرير: الولايات المتحدة قد تفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بأكملها هذا الأسبوعالمحكمة الجنائية الدولية تفتح تحقيقًا ضد كريم خان بسبب "سلوك غير لائق".. ما القصة؟المحكمة الجنائية الدولية تدين قائداً في ميليشيا الجنجويد السودانية بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيةخان، الذي تنحى مؤقتاً بانتظار تحقيق أممي، ينفي "بشكل قاطع" جميع الاتهامات، ويقول محاموه إنه تعرض لـ"حملة منظمة" لإسقاطه بسبب قراره في عام 2024 السعي لاستصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهم تتعلق بجرائم في غزة.
ومع انتظار نتائج التحقيق الأممي، عبّرت الموظفة عن إحباطها مما تمر به. وقالت للغارديان: "لقد كنت دائما اقوم بعملي بهدوء وبعيدا عن الأضواء. جئت لأخدم، لا لأُرى". وأضافت: "إلى اين ينتهي هذا وكم سيتم السماح به؟ إذا كانت هذه هي العدالة الدولية، فهي ليست المنظومة التي كرست حياتي لخدمتها".
هل حضر ممثلو خان؟الغارديان لم تجد أي دليل على تورط خان شخصياً في العملية. لكن مصادر أكدت أن ممثلين عنه التقوا شركة "هايغيت"، وهو ما أثار تساؤلات حول الهدف من الاجتماع.
محامو خان لم ينكروا حصول اللقاء، لكنهم شددوا على أن المدعي العام "لم يكن على علم" بالعملية الاستخبارية ولم يُزوّد بأي معلومات عنها.
في بيانها، قالت "هايغيت" إنها عملت بالفعل على مشروع يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، لكنها نفت أن تكون قد استهدفت أي فرد، أو أن تكون قطر قد موّلت العمل. وأضافت أنها كانت تجري "تقييماً مستقلاً" لاحتمال وجود أنشطة سرية أو غير سليمة تستهدف المحكمة نفسها.
التحقيق الأممي في اتهامات الموظفة مستمر منذ قرابة عام، فيما تأثرت المحكمة الجنائية الدولية بسلسلة تطورات غير مسبوقة: من قضية مذكرات التوقيف ضد نتنياهو وغالانت، إلى الضغوط الأميركية والإسرائيلية على المدعي العام، وصولاً إلى ظهور اتهامات الاعتداء الجنسي التي قلبت أروقة المحكمة رأساً على عقب.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة لاهاي قطر أخبار
Loader Search
ابحث مفاتيح اليوم