كُتبت الكثير من المقالات في سلطنة عمان حول أهمية إنشاء مركز للبحوث والدراسات الاستراتيجية في بلادنا، لعلّ آخرها ما كتبه «في هذه الجريدة» قبل أسبوع الكاتب والصحفي عوض باقوير، إضافة إلى الكثير من الندوات والمؤتمرات التي أوصت بأهمية إنشاء مثل هذه المراكز البحثية في سلطنة عمان. وهذا المقال يكمل الكثير من الأفكار التي طرحت حول أهمية إنشاء مثل هذا المركز الذي لم يعد في هذا التوقيت بالذات نوعا من الترف ضمن هياكل الحكومات (لم تكن البحوث والدراسات الحقيقية ترفعا في يوم من الأيام)، بل أصبح ضرورة استراتيجية ملحة لا بدّ منها في هذه المرحلة من النهضة العمانية المتجددة التي نعيشها في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه.

وإذا كان مقال باقوير قد تحدث عن أهمية وجود مركز للبحوث الاقتصادية فإنني أتحدث عن مركز للبحوث والدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل يمكن أن يكون إطار عمل المركز أكبر من ذلك بكثير ليضم، أيضا، البحوث والدراسات الثقافية والحضارية ويضم أقساما لقياس الرأي بشكل علمي ومنهجي يختلف عن آليات قياس الرأي العام المستمدة من توجهات الفاعلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فهي قياسات، رغم أهمية متابعتها، إلا أنها ليست علمية ولا يمكن أن تبنى عليها توجهات الحكومات في طريق مسيرها نحو المستقبل.

وغني عن القول إن مراكز البحوث والدراسات استثمار مهم في سياق صناعة وإنتاج الأفكار التي تستطيع دائما تقديم حلول للكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتجنب الدول المغامرات القائمة على الرؤية الذاتية والفردية المحدودة سواء في توجهاتها السياسية أو الاقتصادية أو حتى في توجهات البناء الاجتماعي الذي يحمل هو الآخر مستوى مرتفعا من الأهمية.

وإذا كان ثمة حساسيات حول الأدوار التي تقوم بها مراكز البحوث والدراسات وتداخلها مع أدوار «صناع السياسات» التي يرى البعض أنها تخضع، أحيانا، لمنطق لا يستقيم مع منطق البحوث والدراسات العلمية فإن هذه الحساسيات تتلاشى حين تحديد الدور الأساسي لمثل هذه المراكز البحثية المتمثل أساسا في إنتاج المعرفة والأفكار التي تعين «صناع السياسات» في بناء سياساتهم المتكاملة بحيث يكون دور المراكز وسيطا نزيها وغير مسيس، بين الباحثين وبين صناع السياسات.

لا يمكن أن نتحدث اليوم عن خطط سلطنة عمان في البحث عن طرق وآليات لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على موارد النفط والغاز في ظل غياب مركز بحوث ودراسات استراتيجية يعمل بشكل متكامل في إنتاج الأفكار والمعرفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية! إن وجود مثل هذا المركز المستقل يمكن أن يقوم بدور محوري في هذا المسعى، ويمكن عبره تحديد قطاعات النمو الجديدة التي يمكن أن تتناسب مع توجهات السياسات في سلطنة عمان وكذلك التوجهات الاجتماعية والثقافية، وتقييم الفرص الاستثمارية وتقديم رؤى قيمة للتنمية الاقتصادية المستدامة. والأمر نفسه فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية الكثيرة التي تؤرق الجميع في ظل التحولات التي يشهدها العالم، والتي يكون لها انعكاسات سياسية واقتصادية.

إن الموقع الجغرافي لسلطنة عمان يفرض هو الآخر وبشكل ملح دائما، وجود مركز للبحوث والدراسات؛ لأن أحد أهم معالم الاستقرار في منطقة ملتهبة مثل منطقة الشرق الأوسط تتشكل عبر فهم شامل للمنطقة من النواحي التاريخية والحضارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفهم نظرة العالم لمنطقة الشرق الأوسط، ومركز البحوث المقترح يمكن أن يكون بمثابة مركز لتحليل التحولات الجيوسياسية وديناميكيات التجارة والعلاقات الدولية. ولا شك أن هذه المعرفة ذات أهمية كبرى في بناء سياسات سلطنة عمان الخارجية وعلاقاتها مع المنظمات الإقليمية والعالمية.

إن من بين أهم الوظائف التي يمكن أن تقوم بها مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية استطلاعات الرأي، وهي استطلاعات مهمة جدا في إنتاج الأفكار والمعرفة المعينة لصناع السياسات، خاصة في مرحلة صعبة تقوم فيه بعض وسائل التواصل الاجتماعي ببناء رأي عام قائم على أفكار ومعلومات مضللة وخطيرة.

ورغم نجاح سلطنة عمان خلال العقود الماضية في مسارات بناء السياسة الخارجية وبشكل جيد فإن هذا لا يعني عدم الحاجة إلى المركز/ المراكز إذ يمكن أن تكون المعرفة والأفكار التي تنطلق منها صناعة السياسات في سلطنة عمان أكثر ثراء.. إضافة إلى ذلك فإن التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم تحتم أن تكون صناعة السياسات مبنية على أفكار ومعرفة أكثر حداثة حتى تكون النتائج أكثر رسوخا وفاعلية. وفي هذا السياق لا يمكن أن نغفل الأدوار التي قامت بها بعض الوحدات البحثية في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.. ولكنها تبقى وحدات متفرقة وصغيرة وآن الأوان لتتحول إلى مركز متكامل وشامل.

إن بناء مركز بحثي بمستوى مراكز البحوث والدراسات العالمية المعروفة من شأنه، أيضا، أن يساهم بصناعة نظام معرفي واسع في سلطنة عمان يفرز مع الوقت دراسات كثيرة خارج إطار المركز من خلال توفيره لمعلومات دقيقة للباحثين في الجامعات والكليات المتخصصة في سلطنة عمان أو توفيره لمعلومات لمؤسسات بحثية خارجية، ما يساهم في إيجاد شبكة من الخبراء والعلماء، وبالتالي، مشاريع بحثية تعاونية، وتبادل المعرفة، وتطوير العقول البحثية الحقيقية التي تقوم على أساس الأفكار والمعرفة وليس على معلومات هشة لا تتصف بالمهنية العلمية.

شخصيا، على يقين تام أن مثل هذا المشروع ضمن اهتمامات الدولة في المرحلة الحالية؛ نظرا للأهمية الكبيرة التي يتطلبها . ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن جلالة السلطان المعظم، حفظه الله ورعاه، وجّه في نوفمبر من عام2021 بإنشاء وحدة لدعم اتخاذ القرار تتبع الأمانة العامة لمجلس الوزراء بهدف رفع مستوى الأداء من خلال تعزيز كفاءة صنع القرار. ومثل هذه الوحدة يمكن أن تكون، مستقبلا، جزءا من مركز أكبر هو المركز الذي يدور حوله الحديث، أو يمكن القول إن مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية تضم مثل هذه الوحدات أو تقوم بمثل الدور الذي تقوم به هذه الوحدة.. ولا شك أن إنشاءها ينطلق من فهم عميق لأهمية البحوث والدراسات في اتخاذ القرارات السليمة.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی سلطنة عمان الأفکار التی مرکز للبحوث یمکن أن مثل هذه

إقرأ أيضاً:

وزير خارجية سلطنة عمان يكشف موعد الجولة الخامسة من مفاوضات واشنطن وطهران

كشف وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي، الأربعاء، عن موعد الجولة الخامسة من مفاوضات ملف النووي الجارية بين الولايات المتحدة وإيران.

وقال البوسعيدي، في تدوينة عبر حسابه على منصة "إكس"، "ستقام الجولة الخامسة من المحادثات الإيرانية الأمريكية في روما يوم الجمعة 23 أيار /مايو الجاري".

The 5th round of Iran US talks will take place in Rome this Friday 23rd May. — Badr Albusaidi - بدر البوسعيدي (@badralbusaidi) May 21, 2025
وأجرت واشنطن وطهران منذ 12 نيسان/ أبريل الماضي، أربع جولات مباحثات بوساطة عُمانية، سعيا إلى اتفاق جديد بشأن برنامج طهران النووي، يحل بدلا من الاتفاق الدولي الذي أبرم قبل عقد.

ويقود وفد التفاوض من الجانب الإيراني وزير الخارجية عباس عراقي، ومن الجانب الأمريكي مبعوث الرئيس دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف.


وكانت إيران مع كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، إضافة إلى روسيا والصين والولايات المتحدة، اتفاقا بشأن برنامجها النووي في العام 2015، إلا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحب منه خلال ولايته الرئاسة الأولى.

وحدّد اتفاق 2015 سقف تخصيب اليورانيوم عند 3,67 بالمئة. إلا أن الجمهورية الإسلامية تقوم حاليا بتخصيب على مستوى 60 بالمئة، غير البعيد عن نسبة 90 بالمئة المطلوبة للاستخدام العسكري.

وبينما تؤكد طهران أن نشاط تخصيب اليورانيوم "غير قابل للتفاوض"، اعتبر الموفد الأمريكي ستيف ويتكوف ذلك "خطا أحمر".

وشدد ويتكوف في تصريحات صحفية قبل أيام، على أن الولايات المتحدة "لا يمكنها السماح حتى بنسبة واحد في المئة من قدرة التخصيب".

في المقابل، قال عراجي "إن كانت الولايات المتحدة مهتمة بضمان عدم حصول إيران على أسلحة نووية، فإن التوصل إلى اتفاق في متناول اليد، ونحن مستعدون لمحادثات جادة للتوصل إلى حل يضمن هذه النتيجة إلى الأبد".


ومنذ عودته إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير الماضي، أعاد  ترامب العمل بسياسة "الضغوط القصوى" التي اعتمدها حيال إيران خلال ولايته الرئاسية الأولى.

ورغم دعمه للمفاوضات النووية، حذر الرئيس الأمريكي أيضا من احتمال اللجوء إلى عمل عسكري إذا فشلت تلك الدبلوماسية.

وفي الأيام القليلة الماضية، قال ترامب إن على إيران الإسراع في اتخاذ قرار بشأن التوصل إلى الاتفاق وإلا "سيحدث أمر سيئ"، حسب تعبيره.

مقالات مشابهة

  • سفير عمان بالقاهرة: منتدى التعاون العربي الصيني منصة للشراكة النموذجية المتعددة الأطراف
  • وفد السفارة العمانية بالقاهرة يستقبل سفينة شباب عمان في ميناء الإسكندرية
  • وفد «كهرباء الشارقة» يعزز التعاون البحثي مع جامعة الشارقة
  • سلطنة عمان تحتفل باليوم العالمي للتنوع الأحيائي
  • أمين «البحوث الإسلامية» يستقبل سفير سلطنة بروناي لبحث تعزيز التعاون العلمي والدعوي
  • مفاوضات إيران وأمريكا تعود من بوابة روما
  • سلطنة عمان ودورها المحوري في أمن الملاحة البحرية
  • وزير خارجية سلطنة عمان يكشف موعد الجولة الخامسة من مفاوضات واشنطن وطهران
  • مستثمرون ومطورون: سلطنة عمان توفر بيئة استثمارية متميزة مع تسهيلات تمويلية جذابة
  • تنوع استثماري مدروس لرائد الأعمال خالد المهري في التسويق والسياحة