في ضرورة برامج التعليم المجتمعي
تاريخ النشر: 12th, July 2025 GMT
كشفت شرطة عُمان السلطانية قبل أيام عن شكلٍ مُعقد من أشكال الاحتيال الإلكتروني ضُبط على أرض سلطنة عُمان لسائحة آسيوية متصلة بشبكة احتيال دولية تقوم بالتأثير على شبكات الاتصال المحلية، وخلق شبكات وهمية تتصيد بها من خلال الرسائل الوهمية بيانات المستخدمين القريبين، بما في ذلك البيانات المالية والبنيكة. وهذه الحادثة هي امتداد لأشكال جرمية ناشئة ومعقدة فيما يتصل بالاحتيال الإلكتروني، وهي تعكس أمرين مهمين: الأمر الأول؛ مستوى التعقيد في مثل هذا النوع من العمليات، وما يصحبها من تطور في الأساليب، وهندسة اجتماعية لمعطى الجريمة، والأمر الآخر؛ الجهد الواسع والمحمود لجهاز شرطة عُمان السلطانية في مواكبته وترصده لأعقد العمليات، وقدرته على تقديم رسالة اتصالية ناجزة للمجتمع العام حولها، ورسالة توعوية مستمرة حول أشكالها، والمفاهيم المتصلة بحماية أمن الخصوصية الذاتية.
في الواقع تشكل جرائم الاحتيال الإلكتروني جزءًا لا يتجزأ من مخاطر الفضاء السيبراني المعقدة والمركبة التي أصبحت حسب تقدير علماء المخاطر خطرًا منظورًا يتزايد على المدى القصير (2025 - 2026) وعلى المدى البعيد (عشر سنوات قادمة)، وهو يتصاعد انطلاقًا مما يُعرف بـ (Online harms) أو الأذى عبر الانترنت الذي يستهدف الأفراد بصورة مباشرة، إلى تهديدات الذكاء الاصطناعي الاستبدادي، وصولًا إلى تهديدات اختراق وأمن كوانتمي (Cyber threats & quantum‑era security)، وبقدر ما يتطلب ذلك تطوير منظومات حماية سيبرانية متكاملة، وبنى تحتية واتصالية قادرة على احتواء مثل هذه المخاطر، ومنظومات رصد جرمي تستوعب تعقيداتها، وتتنبأ بأشكالها المتغيرة بقدر ما يتطلب حصانة مجتمعية تتجاوز مسائل الوعي بالمشكلة إلى امتلاك القدرات، والمهارات، والحدس اللازمة لتجنبها، ولخلق سياج معرفي يضعف من إمكانيات حدوثها، على الأقل في شقها الأول المتصل بالمجتمع والأفراد ونشاطهم الإلكتروني والاتصالي عمومًا. وهنا يأتي السؤال: هل يكفي أن نراهن على تشكل الوعي الذاتي من تلقاء نفسه عبر منظور تعلم الناس من التجارب أو تعرضهم لها؟ وهل يكفي ما يزود به الأفراد من مهارات عبر التعليم النظامي للتعامل مع مثل هذه القضايا الناشئة؟ وهل يمكن المراهنة على الرسائل الإعلامية وحدها - باختلاف المنصات - لخلق هذا السياج المجتمعي المنشود؟ في الواقع نرى أن الحاجة أصبحت ملحة للذهاب خطوة أبعد من ذلك، عبر التفكير في استحداث وتنشيط ما يُعرف ببرامج (التعليم المجتمعي).
الفكرة من برامج التعليم المجتمعي هي أنها برامج تستهدف تزويد المجتمع بمهارات ومعارف وأدوات تتسم بطابع (الحاجة المجتمعية الشاملة Comprehensive community need). وقد تتوجه مثل هذه البرامج لعموم المجتمع، أو لفئات محددة منها، وتتسم بالشمول، وسهولة الوصول إليها وإتاحتها، وعدم ارتباطها بشكل أساس بالمعرفة الإنتاجية (التنافس على الفرص والوظائف)، وإنما بتشكل قدرة اجتماعية على نشر ثقافة ما، أو تحييد مخاطر معينة. وإذا ما نظرنا اليوم إلى المتغيرات والمخاطر والحاجيات المحيطة بالمجتمع سنجد أن هناك قضايا ومعارف لابد من تغطيتها بهذا النوع من البرامج باختلاف أشكالها وتسمياتها، سواء كانت تعطى عبر الإنترنت أو واقعيًا، وسواء كانت عبر مؤسسات حكومية أو خاصة، أو مؤسسات مجتمع مدني. الأهم هو الإتاحة والوصول والتصميم الفاعل لمخرجاتها. عالميًا تشير الإحصائيات إلى أن ما يزيد على 608 ملايين شخص يقعون ضحية للاحتيال الإلكتروني في كل عام بمتوسط 1.67 مليون ضحية يوميًا (عام 2024). هؤلاء هم ضحايا لأشكال معقدة من هندسة الجرائم الإلكترونية، ولكن في الوقت نفسه جزء كبير منهم قد يكون فاقدًا للجزء المهاري والمعرفي في التعامل مع مثل هذا النوع من الجرائم. وليست قضايا أمن الخصوصية الذاتية، وأمن البيانات، والحماية السيبرانية للأفراد، وتعزيز الاتصال الآمن ما يحتاج إلى تطوير مهارات أو برامج معرفية تزود الأفراد باللازم للتعامل معها؛ فهناك قضايا عديدة مستجدة، منها الثقافة المالية، والاحتيال المالي، واختلال التربية الوالدية السليمة، وغياب التوافق الزواجي، والابتزاز الإلكتروني الذي زادت نسبة وقوعه عالميًا بين عامي (2021 - 2024) بنسبة 7200%، والحصانة ضد ترويج الأفكار المتطرفة، وغيرها قضايا تستوجب اليوم النظر إليها من خلال ضرورة تعميم القدرات، والمهارات، والحدس اللازمة لأفراد المجتمع عمومًا للتعاطي معها، ونعتقد أن المبادرة باستحداث برامج تعليم مجتمعي متدرجة ومتجددة لها أصبحت ضرورة قصوى.
ولهذا الشكل من أشكال التعليم ممارسات نظيرة في مختلف دول العالم؛ حيث تركز العديد من الدول اليوم على سبيل المثال على استحداث برامج تهدف إلى تعميم المهارات الرقمية، أو بناء قدرات الذكاء الاصطناعي لكافة أفراد المجتمع، مثل مبادرة (سماي) التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، فيما تتجه بعض الدول إلى التركيز على تعليم المهارات لفئات معينة، مثل برامج Active Ageing Learning Program التي أصبحت تخصص لكبار السن في بعض الدول لتحديث مهاراتهم، ومواكبة معارفهم مع السياقات والقضايا المعرفية المتغيرة، وما قد يتعرضون له من احتياج اجتماعي معرفي.
في سياقنا المحلي يمكن أن يبدأ مثل هذا النوع من البرامج في شراكة بين القطاع الحكومي ومؤسسات المجتمع المدني؛ حيث تتولى الحكومة تحديد الأولويات من واقع ما لديها من بيانات ومعلومات حول حقيقة الواقع الاجتماعي، وتصميم أطر هذه البرامج وتمويلها وحوكمتها، فيما يمكن أن تتولى مؤسسات المجتمع المدني تنفيذها على أرض الواقع باعتبار قدرتها على الوصول إلى المجتمع بشكل شمولي وتخصصي في الآن ذاته. ويمكن أن تحدد لهذه البرامج ثيمات بشكل سنوي للقضايا التي ستتناولها، ومن خلالها ستتوجه إلى المجتمع؛ لإكساب المهارات والمعارف اللازمة لأكبر قدر من الفئات والأفراد فيه، كما يمكن ربط هذه البرامج ببعض الحوافز المجتمعية؛ لتشجيع الأفراد على الانخراط فيها. إن المراهنة على الوسائل الطبيعية لتطور الوعي الذاتي مهمة، ولكنها غير كافية اليوم للتعامل مع احتياج مجتمعي ضخم من المعارف والمهارات.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا النوع من هذه البرامج
إقرأ أيضاً:
الواقع الافتراضي يساعد مرضى الذهان على التعامل مع ما يريبهم
كشفت دراسة جديدة أن العلاج بالواقع الافتراضي فعال للغاية لدى مرضى الذهان، ونتائجه لا تقل فعالية وسرعة عن العلاج السلوكي المعرفي.
ويعتبر الذهان مشكلة عقلية تجعل الشخص يدرك الأشياء بشكل مختلف عن المحيطين به، وقد ينطوي على هلوسات أو أوهام، مما يفقده القدرة على التعرف على الواقع أو الارتباط بالآخرين.
ويعد العلاج السلوكي المعرفي أهم علاج نفسي للأفكار البارانوية (الارتياب) لدى مرضى الاضطرابات الذهانية.
ويعاني مريض البارانوية من عدم الثقة المفرطة أو الشك في الناس، والتفكير بشكل غير صحيح أن شخصا ما يحاول إيذاءه، أو أن الناس يفعلون أشياء لإزعاجه عمدا أو أن هناك مؤامرة ضده.
وتسبب هذه الحالة المرضية ضائقة نفسية، وتقوّض التفاعلات الاجتماعية، وتؤدي إلى الانسحاب، وتظهر في العديد من التشخيصات النفسية.
وقد أجرى الدراسة باحثون من جامعة المركز الطبي الجامعي في خرونينغن الهولندية، ونشرت نتائجها في مجلة الطب النفسي في 7 يوليو/تموز الجاري، وكتب عنها موقع يوريك أليرت.
ومن جانبه يقول الطبيب النفسي ويم فيلينغ من المركز الطبي الجامعي في خرونينغن والمؤلف المشارك في الدراسة "آمل أن يتوفر هذا التطبيق للواقع الافتراضي قريبا في جميع مرافق رعاية الصحة النفسية".
وقارن فيلينغ تأثير العلاج القائم على الواقع الافتراضي مع العلاج التقليدي الحالي. ويقول "باستخدام الواقع الافتراضي، يمكننا التركيز بشكل أفضل على تقليل سلوك التجنب، وهذا أمر بالغ الأهمية لفعالية العلاج. وباستخدام الواقع الافتراضي، يمكننا تعريض المرضى لمخاوفهم البارانوية بشكل أفضل وبطريقة متحكم بها".
واجه شكوكك
لقد مارس المرضى بمساعدة الواقع الافتراضي مواقف اجتماعية أثارت أفكارا بارانوية وقلقا في بيئات اجتماعية افتراضية. ويمكنهم على سبيل المثال التسوق في سوبر ماركت افتراضي أو ركوب الحافلة.
إعلانويقول فيلينغ "يصعب الوقوف في طابور الدفع في السوبر ماركت عندما تكون مرتابا. ينظر الناس إليك، وعليك التحدث إلى أمين الصندوق ولا يمكنك المغادرة. وفي الواقع الافتراضي، يمكنك التدرب على كيفية التعامل مع مثل هذا الموقف، وكيفية تقليل التجنب والقلق، والاكتفاء بالتسوق".
وقد جّه المعالجون المشاركين للتخلي عن سلوكيات السلامة، واختبار معتقداتهم الارتيابية، وتعلم سلوكيات جديدة. ويمكن تصميم التمارين بدقة لتناسب احتياجات المشارك وأهدافه، ويمكن تكرارها.
ويصف فيلينغ نتائج الدراسة بأنها واعدة بالقول "يبدو أن علاج الواقع الافتراضي فعال جدا للمصابين بالذهان، ويقلل من شكوكهم وقلقهم الشديد. عندما ننظر إلى عوامل مثل الارتياب والاكتئاب والتجنب والثقة بالنفس والقلق، فقد يكون أفضل من العلاج القياسي الحالي. ويحتاج الأشخاص مع الواقع الافتراضي إلى جلسات أقل بنسبة 15% في المتوسط، مما يدل على أن العلاج يعمل بشكل أسرع".
ويعمل هذا الطبيب النفسي الآن على تطبيق علاج الواقع الافتراضي في مجال رعاية الصحة النفسية، ويوضح "نبحث بنشاط عن علاجات أكثر فعالية في مجال رعاية الصحة النفسية. ويبدو أن هذا علاج فعال سيمكننا من مساعدة المزيد من الناس. ويتعافى الناس أسرع ويحتاجون إلى جلسات أقل".
ويتطلع بالفعل إلى أبعد من ذلك، فهو يبحث حاليا في إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة العلاج جزئيا باستخدام الواقع الافتراضي، ويشرح "نبحث فيما إذا لم تعد هناك حاجة إلى طبيب نفسي لبعض الجلسات. إذا نجح ذلك وأشار المرضى إلى عدم وجود مشكلة لديهم مع الجلسة الآلية، فسيساعد ذلك بالطبع في تقليل قوائم الانتظار. وأتوقع ظهور أولى نتائج العلاج من هذه الدراسة في غضون 3 سنوات".