العالم نحو عصر التمويل الذكي والمستدام
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
«عمان»: يقف النظام المالي العالمي اليوم أمام مرحلة جديدة تُعاد فيها صياغة مفاهيم العائد والمخاطرة ودور المؤسسات المصرفية في خدمة الاقتصاد والمجتمع، فبعد موجات التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة، يدخل العالم دورة أكثر تعقيدًا، تتراجع فيها وتيرة النمو التقليدي، وتبرز فيها الاستدامة والتمويل الأخضر والذكاء الاصطناعي كمحاور أساسية للمرحلة المقبلة.
ولسبر تفاصيل هذه التحولات، استندنا في هذه القراءة إلى واحد من أهم المراجع الحديثة في هذا المجال، هو التقرير السنوي الرابع الصادر عن مجموعة SIX السويسرية بعنوان «مستقبل التمويل 2025 /2026»، إلى جانب تقرير «آفاق القطاع المصرفي وأسواق رأس المال 2026»، الصادر عن شركة ديلويت، وهما دراستان ترسمان صورة دقيقة لمزاج صُنّاع القرار المالي حول العالم، وللاتجاهات التي ستعيد تشكيل خريطة التمويل في السنوات المقبلة، من خلال رصد توقعات مئات القيادات التنفيذية في كبريات المؤسسات المالية الدولية.
فقد كشفت نتائج تقرير «مستقبل التمويل 2025/2026» عن حالة استثنائية من التفاؤل الحذر تسود أوساط القيادات المالية حول العالم، حيث يشير تسعة وستون في المائة من المشاركين إلى أنهم يتوقعون تحسن الأوضاع الاقتصادية لمؤسساتهم خلال العام المقبل، في ارتفاع واضح عن نتائج العام الماضي التي لم تتجاوز ثلاثة وخمسين في المائة، ويرى التقرير أن هذا التحسن في المزاج العام ليس مجرد انعكاس لتحركات الأسواق أو أداء المؤشرات بل دليل على عودة الثقة في قدرة النظام المالي على التكيّف مع بيئة اقتصادية شديدة التقلب. فمع بلوغ المؤشرات القياسية للأسهم العالمية مستويات غير مسبوقة في كل من ألمانيا وسويسرا وسنغافورة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، يتنامى الشعور بأن الأسواق، رغم هشاشتها الظاهرة ملا تزال قادرة على إنتاج فرص جديدة للنمو، ويشير معدّو الدراسة إلى أن المؤسسات التي تبنّت مبكرًا فلسفة التمويل القائم على البيانات والتكنولوجيا أظهرت مرونة أعلى في مواجهة التغيّرات، مما يجعل من التحول الرقمي والابتكار المالي أساسًا للثقة الجديدة التي تسود القطاع المالي العالمي.
ويرى معدّو التقرير أن التحدي الأبرز الذي يواجه النظام المالي العالمي في الأعوام القادمة يتمثل في القيود الجديدة على حركة التجارة ورؤوس الأموال، إذ حدد ستة وثلاثون في المائة من المشاركين هذه المسألة بوصفها التهديد الأكبر لنمو مؤسساتهم. ويأتي في المرتبة الثانية التردد المتزايد لدى المستثمرين في الإقدام على المخاطر (32 في المائة)، ثم حالة الغموض الجيوسياسي التي تشهدها الأسواق نتيجة النزاعات الدولية المتعددة (32 في المائة). وتكشف هذه الأرقام أن البنية المالية العالمية باتت تعمل في بيئة يغلب عليها التوجّس والتريّث، وأن على المؤسسات المالية أن تعيد النظر في أدواتها التحليلية وقدرتها على إدارة المخاطر العابرة للحدود. ويشير التقرير إلى أن الأسواق التي تنجح في تحويل هذه المخاطر إلى فرص -كما فعلت سنغافورة وسويسرا مؤخرًا- هي التي ستقود التحول المقبل في التمويل، لأنها تدرك أن اللا يقين لم يعد حالة مؤقتة بل بنية دائمة للنظام المالي.
ويخصص التقرير حيزًا لقراءة علاقة المؤسسات المالية بالتقلبات المستمرة في الأسواق، مشيرًا إلى أن نحو تسعة وتسعين في المائة من القيادات التنفيذية يرون أن حالة اللا يقين الاقتصادي أصبحت سمة طويلة الأمد، وأن 58 في المائة منهم يتعاملون معها بوصفها فرصة للنمو لا تحديًا. ويبرز هذا التحول في الذهنية المؤسسية نقطة مفصلية في تاريخ التمويل المعاصر، فبعد أن كان عدم الاستقرار يُعدّ عاملًا سلبيًا ينبغي تجنبه، بات اليوم يُنظر إليه كفضاء خصب للابتكار المالي وصياغة منتجات جديدة. ويرى التقرير أن هذا التغيير في العقلية يعكس نضوجًا في فلسفة إدارة التمويل، حيث لم تعد المؤسسات تسعى فقط لتقليل المخاطر، بل لإعادة تصميم نماذجها التشغيلية بما يسمح لها بالتحرك ضمن بيئة متقلبة دون أن تفقد توازنها.
ويؤكد الرئيس التنفيذي لمجموعة SIX، بيورن سيبرن، في مقدمة للتقرير أن «المنظمات الناجحة هي التي تتعامل مع التغيير كفرصة لا كتهديد»، مشيرًا إلى أن المستقبل لن يكون للأكبر حجمًا بل للأكثر قدرة على التكيّف. ويضيف أن صناعة التمويل تحتاج إلى ما يسميه «المرونة التعاونية»، أي قدرة البنوك والمؤسسات والأسواق على العمل بشكل تكاملي لتطوير أدوات تمويلية مشتركة تستجيب للمستجدات التنظيمية والتجارية والتكنولوجية. فالقوة في المرحلة المقبلة لن تكون في احتكار رأس المال، بل في بناء شبكات الثقة والمعرفة بين الأطراف الفاعلة في السوق.
ويقول التقرير إن المشهد المالي العالمي يتّجه نحو نموذج تمويلي أكثر نضجًا وتعاونًا، تتقاطع فيه المصالح بين البنوك والمستثمرين والمنظمين ومزوّدي البنى التحتية، فالتداولات الأسرع والتسويات القصيرة الأجل، وتدفقات البيانات اللحظية كلها عناصر تجعل من التعاون ضرورة تشغيلية لا خيارًا. ويؤكد أن الأسواق التي تستثمر في جودة بياناتها، وتبني أنظمة شفافة تُمكّنها من تسعير المخاطر بدقة، ستكون الأقدر على قيادة المرحلة القادمة من التحول المالي، لأن التمويل في المستقبل لن يقوم على رأس المال فقط، بل على المعرفة التي تديره والبيانات التي تغذيه.
تمويل النمو المستقبلي
ووفقًا للتقرير، لم يعد التحول في بيئة التمويل العالمية مقصورًا على سياسات البنوك والمؤسسات الكبرى، بل أصبح يمتد إلى سلوك المستثمرين أنفسهم سواء الأفراد أو المؤسسات، الذين باتوا يطالبون بأسواق أكثر شفافية وكفاءة، وبخيارات استثمارية أقرب إلى قيمهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، ففي أوروبا على وجه الخصوص تتزايد الدعوات إلى توسيع قاعدة المشاركة في أسواق رأس المال، بحيث لا تبقى حكرًا على المؤسسات المالية الضخمة بل تشمل المستثمرين الأفراد الذين ما زالوا –وفق التقرير– يمثلون طاقة كامنة لم تُستثمر بعد على نحو فعّال. وبرغم أن معدلات الادخار في القارة الأوروبية تتجاوز نظيرتها في الولايات المتحدة، فإن حجم الاستثمارات الفردية في الأسواق المالية لا يزال أقل بكثير، وهو ما تعتبره مجموعة SIX أحد أسباب ضعف تنافسية أوروبا مقارنة بالمراكز المالية الأخرى في العالم.
وفي قراءته لآراء التنفيذيين المشاركين في الاستطلاع، يذكر التقرير أن تسعة عشر في المائة من قادة المؤسسات يرون أن تعزيز الثقة والأمن في الأسواق المنظمة هو العامل الأهم لجذب المستثمرين الأفراد، في حين يشير ثمانية عشر في المائة إلى أهمية رفع مستويات الثقافة المالية وتبسيط أدوات الاستثمار.
ويشير التقرير كذلك إلى أن تحسين الخدمات ما بعد التداول (Post-trade Services) بات أولوية لدى معظم المؤسسات الاستثمارية في أوروبا، خاصة مع اقتراب تطبيق نظام التسوية الجديدة (T+1) في عام 2027 الذي يختصر دورة التسوية إلى يوم عمل واحد، ويرى أن هذه الخطوة ستحدث تحوّلاً عميقًا في بنية الأسواق، إذ ستُجبر المؤسسات على تبنّي حلول رقمية أكثر كفاءة وتعاونًا أوثق بين البنوك ومديري الأصول والمقاصات. ويخلص التقرير إلى أن هذه المرحلة من التحول في البنية التشغيلية للتمويل تمثّل نقطة مفصلية في تطور السوق المالية الأوروبية، لأن النجاح فيها يعني الانتقال من نموذج التمويل البطيء والمجزأ إلى نموذج التمويل اللحظي المتكامل، حيث تتدفق المعلومات ورؤوس الأموال بسلاسة بين الأطراف كافة.
ويضيف التقرير في هذا السياق أن قوة الأسواق المقبلة لن تُقاس بحجم التداولات أو بعدد المنتجات المالية المعروضة، بل بقدرتها على بناء بيئة موحدة ومنسقة تجمع بين الكفاءة التشغيلية والشفافية التنظيمية، وأن التحدي الحقيقي يكمن في تجاوز التجزئة القانونية والتنظيمية التي لا تزال تقيّد حركة رؤوس الأموال داخل الاتحاد الأوروبي. فلكي يتحقق ما يسميه التقرير «اتحاد التمويل الأوروبي الجديد»، يجب أن تعمل البنوك المركزية والهيئات التنظيمية والأسواق المحلية في إطار متناسق يسمح بخلق سوق موحدة للادخار والاستثمار، تتيح للتمويل أن يقوم بدوره التنموي دون عوائق بيروقراطية أو اختلافات معيارية بين الدول.
ملامح المرحلة الجديدة
في التمويل العالمي
في المقابل، يرسم تقرير شركة ديلويت في نسخته السنوية ملامح القطاع لعام 2026، ويشير في مجمله إلى أن النظام المالي العالمي يقف عند نقطة انعطاف حساسة، حيث تدخل المؤسسات المصرفية مرحلة من إعادة التوازن المالي بعد سنوات من الأرباح الاستثنائية التي غذّاها ارتفاع أسعار الفائدة، فبين عامي 2023 و2024، حققت البنوك حول العالم نتائج قياسية غير مسبوقة بفضل اتساع هوامش الفائدة وتحسّن عوائد الإقراض، إلا أن هذه الموجة من الازدهار بلغت ذروتها، وبدأت الآن تفسح المجال لمرحلة أكثر هدوءًا، يسودها تباطؤ النمو وتراجع عوائد الرساميل وتزايد الضغوط التنظيمية، ويذهب التقرير إلى أن السنوات القادمة ستشكّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة البنوك على التحوّل من التمويل السريع إلى التمويل الدقيق، أي من تعظيم الربحية قصيرة الأجل إلى بناء نماذج تمويل أكثر استدامة وتوازنًا بين المخاطر والعوائد.
ويؤكد التقرير أن عام 2026 سيكون بمثابة نقطة مفصلية في العلاقة بين النمو الاقتصادي والسياسات النقدية، إذ من المتوقع أن تبدأ البنوك المركزية الكبرى، وفي مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بتخفيف سياساتها المتشددة بعد عامين من رفع الفائدة المتواصل، ويرجّح التقرير أن يتراجع معدل الفائدة الفيدرالية إلى نطاق يتراوح بين 3.5 و3.75 في المائة، ما يعني دخول مرحلة جديدة من السياسة النقدية تقوم على «التليين الحذر»، هدفها احتواء التضخم دون الإضرار بالطلب الكلي. لكن هذا التحوّل، كما يوضح التقرير، لن يكون بالضرورة خبرًا سارًا للقطاع المصرفي، لأن انخفاض الفائدة لا يضمن تحسّن الربحية، بل قد يعيد فتح معادلة معقّدة بين كلفة التمويل والدخل من الفوائد. فمع اشتداد المنافسة على الودائع، يُتوقع أن تظل تكاليف الأموال مرتفعة نسبيًا حتى مع تراجع أسعار الفائدة الرسمية، مما يضغط على هوامش الربح ويحدّ من قدرة البنوك على تحقيق النمو التقليدي الذي اعتادت عليه في العقد الماضي.
ويضيف التقرير أن هذا الواقع الجديد سيجبر المؤسسات المصرفية على إعادة التفكير في بنيتها التمويلية وأدواتها التشغيلية.، فصافي الدخل من الفوائد –المؤشر الأهم لقياس الأداء المصرفي– مرشّح للتراجع في معظم الأسواق المتقدمة، إذ لم تعد دورة الفائدة قادرة على توليد الأرباح بنفس السهولة السابقة. والمودعون، بحسب التقرير، أصبحوا أكثر وعيًا بسلوك البنوك، وأكثر استعدادًا لتحويل مدّخراتهم إلى مؤسسات أو أدوات استثمارية تمنحهم عائدًا أعلى. لذلك، فإن التحدي المقبل أمام البنوك لا يتمثل في قدرتها على جذب الأموال، بل في قدرتها على الاحتفاظ بها ضمن ميزانياتها بأقل تكلفة ممكنة، في وقتٍ تتزايد فيه البدائل الاستثمارية السريعة والمتاحة للأفراد والمؤسسات على حدّ سواء.
التمويل الذكي وتحوّل
مصادر الدخل المصرفي
ويشير التقرير إلى أن المرحلة المقبلة من التطور المالي ستشهد تحولًا هيكليًا في مصادر الدخل المصرفي، حيث لم يعد الاعتماد على الفوائد وحدها كافيًا لضمان استقرار الأرباح أو استدامة النمو، فالبنوك التي بَنت نماذج أعمالها لعقود على الفارق بين تكلفة الودائع وعوائد الإقراض تواجه اليوم واقعًا جديدًا تُضغط فيه هوامش الفائدة من كل اتجاه، بينما تتزايد الحاجة إلى تنويع مصادر الإيرادات وبناء قنوات تمويل غير تقليدية. ولهذا يؤكد التقرير أن على المؤسسات المصرفية أن «تُعيد ابتكار نفسها» كمزوّد خدمات مالية شاملة، لا كمجرّد وسيط بين المودع والمقترض. فالمستقبل، كما يراه معدّو الدراسة، ينتمي إلى البنوك التي تتبنّى التمويل الذكي -أي التمويل الذي يستخدم البيانات والتكنولوجيا لتوليد عوائد جديدة قائمة على القيمة، لا على الفائدة فقط.
ويقدّر التقرير أن نسبة الدخل غير المعتمد على الفائدة لدى البنوك الأمريكية والأوروبية تجاوزت 35 في المائة من إجمالي الإيرادات في السنوات الأخيرة، غير أن وتيرة النمو في هذا النوع من الدخل لا تزال بطيئة، وهو ما يجعل المرحلة القادمة حاسمة لإعادة تشكيل الهيكل المالي للبنوك. ويشير إلى أن الفرصة الأكبر تكمن في قدرة المؤسسات على توسيع نطاق خدماتها نحو مجالات استشارية واستثمارية ذات عائد مستقر، مثل إدارة الثروات، والتمويل المستدام، وخدمات التكنولوجيا المالية، والاستثمار في البيانات والتحليل الرقمي. فهذه القطاعات قادرة على توليد تدفقات مالية طويلة الأمد، وتقلل من اعتماد البنوك على تقلبات أسعار الفائدة. كما يرى التقرير أن البنوك التي تستثمر بجرأة في هذه المجالات ستكسب ما يشبه «التحصين المالي» ضد الأزمات المقبلة، لأنها تربط جزءًا من دخلها بأنشطة غير دورية ومستقلة عن السياسات النقدية.
ويضيف التقرير أن التكنولوجيا – ولا سيما الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) – ستكون القوة المحركة الرئيسة لهذا التحول، إذ تتيح للمؤسسات تحليل بياناتها الضخمة بطريقة لم تكن ممكنة من قبل، وفهم سلوك العملاء والاتجاهات السوقية في الوقت الحقيقي. ومن خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحليل الائتمان، ومراقبة الامتثال، وتقييم المخاطر، وتصميم المنتجات، يمكن للبنوك أن تقلل من التكاليف التشغيلية بنسبة تصل إلى 20 في المائة، وأن ترفع دقة التنبؤ بالمخاطر بنسبة تتجاوز 40 في المائة. ويُبرز التقرير أن الذكاء الاصطناعي لن يكون مجرد أداة لتحسين الكفاءة، بل محور لإعادة تعريف العلاقة بين البنك وعملائه، حيث ينتقل التركيز من المعاملة المالية إلى التجربة الشخصية، ومن خدمة العميل إلى فهمه. فالبنك الذكي في هذا السياق ليس هو الذي يمنح القرض بسرعة فحسب، بل الذي يفهم احتياجات العميل قبل أن يعبّر عنها، ويقدّم له الحل المالي الأنسب في الوقت المناسب.
ويرى التقرير أن هذا الاتجاه سيحوّل البنوك تدريجيًا إلى مراكز بيانات مالية، تعمل فيها القرارات التمويلية على أساس معلومات دقيقة ومتجددة لا على الحدس أو الخبرة التقليدية وحدها. فالقيمة المستقبلية للمؤسسة لن تُقاس فقط بحجم رأسمالها، بل بنوعية البيانات التي تمتلكها وقدرتها على تحويلها إلى قرارات تمويلية ذكية. ولهذا يدعو التقرير إلى بناء ما يسميه «التمويل القائم على البيانات»، وهو نموذج يقوم على اعتبار المعلومات أصلًا استراتيجيًا يوازي رأس المال النقدي في الأهمية. ويضيف أن جودة البيانات وموثوقيتها أصبحت شرطًا أساسيًا لنجاح أي نموذج تمويلي حديث، لأن كل قرار –من منح القروض إلى الاستثمار في الأسواق– بات يعتمد على تدفق بيانات فوري وشفاف يمكّن المؤسسات من تقييم المخاطر وإدارتها في الوقت الحقيقي.
ويحذّر خبراء التقرير من أن هذا التحول التكنولوجي، رغم إمكاناته الكبيرة، ينطوي أيضًا على مخاطر تنظيمية وأخلاقية ينبغي التعامل معها بحذر، مثل خصوصية البيانات، والاعتماد المفرط على النماذج الخوارزمية في اتخاذ القرار، وما يمكن أن ينتج عنها من تحيزات أو أخطاء هيكلية. ولهذا يشدد معدّو التقرير على أن نجاح البنوك في توظيف الذكاء الاصطناعي لن يُقاس بمدى تسارعها في تطبيقه فحسب، بل بقدرتها على وضع أطر حوكمة متينة تضمن استخدامه بمسؤولية وثقة. فالمؤسسات التي تدمج الشفافية والرقابة في دورة حياة الذكاء الاصطناعي ستكون الأكثر قدرة على جني ثماره دون أن تفقد ثقة عملائها أو الجهات التنظيمية.
التمويل المستدام الداعم
للتحول الأخضر
ويرى تقرير ديلويت أن مستقبل القطاع المصرفي لن يُقاس بعد اليوم بقدرته على تعظيم أرباحه السنوية أو توسيع محافظه الائتمانية، بل بمدى مساهمته الفعلية في تمويل التحول نحو اقتصاد مستدام ومنخفض الانبعاثات. فالعالم المالي يعيش اليوم ما يسميه التقرير «إعادة تعريف العائد»، إذ لم يعد العائد المالي وحده كافيًا لقياس نجاح المؤسسات، بل أصبح لزامًا أن يتضمن أبعادًا بيئية واجتماعية وحوكمية تُعبّر عن أثر التمويل في المجتمع والبيئة والاقتصاد الحقيقي. ويؤكد التقرير أن هذا التحول ليس نزعة أخلاقية مؤقتة أو موجة دعائية كما كان يُنظر إليه في بدايات «التمويل الأخضر»، بل أصبح ضرورة استراتيجية تمليها السياسات الدولية الجديدة، وتزايد وعي المستثمرين والمستهلكين معًا بمسؤولية المؤسسات تجاه البيئة والاستدامة.
ويشير إلى أن السنوات القليلة المقبلة ستشهد موجة ثانية من التمويل الأخضر أكثر نضجًا وعمقًا من تلك التي انطلقت في العقد الماضي. فبينما ركزت المرحلة الأولى على إصدار السندات الخضراء وتمويل المشاريع البيئية المحددة، فإن المرحلة القادمة ستسعى إلى دمج الاستدامة في صميم الهيكل التمويلي ذاته، بحيث تصبح مبادئها جزءًا من عملية الإقراض والتقييم الائتماني وتسعير المخاطر. فكل قرار تمويلي – من قرضٍ صغير إلى استثمارٍ صناعيٍ كبير – سيُقاس في المستقبل على أساس تأثيره البيئي والاجتماعي، لا على عائده المالي وحده. ويعتبر التقرير أن هذا التحول يمثل القاعدة الجديدة لصناعة التمويل، حيث لا يمكن لأي مؤسسة مالية أن تبقى خارج هذا المسار من دون أن تخسر موقعها التنافسي أو ثقة الأسواق والمستثمرين.
ويضيف التقرير أن الدور المنتظر للبنوك في هذا التحول يتجاوز كونها وسطاء ماليين إلى كونها فاعلين استراتيجيين في صياغة سياسات المناخ والتنمية. فالبنوك تمتلك الأدوات التي تمكّنها من إعادة توجيه التدفقات الرأسمالية نحو القطاعات الأكثر تأثيرًا في مسار التحول الأخضر، مثل الطاقة النظيفة، والهيدروجين الأخضر، والنقل المستدام، والبنية التحتية المرنة، والتقنيات الزراعية المتقدمة. وهذه القطاعات، كما يصفها التقرير، هي «الحدود الجديدة للنمو المالي المسؤول»، لأنها تجمع بين الربحية الاقتصادية والأثر الإيجابي على المجتمع والبيئة. ومن هنا فإن المؤسسات التي تتبنى التمويل الأخضر لا تقوم بتغيير في وجهة استثماراتها فقط، بل في فلسفتها التشغيلية ومقاييس نجاحها، بحيث يصبح تقييم الأداء المالي مرهونًا بمدى الأثر الذي تُحدثه على الكوكب والإنسان.
ويؤكد معدّو التقرير أن التحول إلى التمويل الأخضر لا يعني التضحية بالعائد المالي كما قد يُعتقد، بل هو إعادة صياغة لمعادلة العائد والمخاطرة بطريقة أكثر عدلاً واتزانًا. فالمؤسسات التي تبادر بتطبيق معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG) تُظهر أداءً ماليًا أقوى واستقرارًا أعلى على المدى الطويل، لأنها تقلل من تعرضها للمخاطر النظامية وتزيد من كفاءتها التشغيلية. ويشير التقرير إلى أن رأس المال الذي يتجه نحو المشاريع المستدامة يميل إلى تحقيق عوائد ثابتة على المدى الطويل، في حين تظل القطاعات التقليدية عرضة لتقلبات الأسواق وأسعار الطاقة والسياسات البيئية الصارمة. ويذهب التقرير إلى أن هذا الاتجاه سيخلق ما يشبه «تمييزًا إيجابيًا» في التمويل العالمي، حيث ستتدفق السيولة تدريجيًا نحو المؤسسات التي تبرهن على التزامها بالاستدامة، بينما ستتراجع جاذبية المؤسسات التي تفتقر إلى رؤية بيئية واضحة.
ويبرز التقرير أيضًا التحدي الكبير الذي يواجه المؤسسات المالية في قياس الأثر الحقيقي لأنشطتها التمويلية. فمع توسّع نطاق التمويل المستدام، أصبحت الحاجة ملحّة إلى تطوير أدوات دقيقة لقياس التأثير البيئي والاجتماعي للمشاريع، تتجاوز المقاييس التقليدية للأرباح والإيرادات. ولذلك يدعو التقرير إلى اعتماد ما يسمى «مؤشرات الأثر» (Impact Metrics) التي تسمح بتقييم كل مشروع وفقًا لمستوى الانبعاثات التي يخفضها، وكفاءة استخدام الطاقة، وجودة إدارة الموارد الطبيعية، وعدد الوظائف الخضراء التي يخلقها. ويرى معدّو الدراسة أن هذا التحول في أدوات القياس سيؤدي بدوره إلى تغيير جذري في المحاسبة المالية، إذ ستصبح تقارير الاستدامة جزءًا لا يتجزأ من التقارير السنوية للمؤسسات، وسيُنظر إلى الأرباح من منظور «القيمة المشتركة» التي تولدها الأنشطة الاقتصادية للمجتمع والبيئة، لا من منظور العائد للمساهمين فقط.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المؤسسات المصرفیة الذکاء الاصطناعی المؤسسات المالیة المالی العالمی التمویل الأخضر التقریر أن هذا التقریر إلى أن النظام المالی المؤسسات التی أسعار الفائدة فی المائة من فی الأسواق الأسواق ا التحول فی رأس المال ر التقریر لم یعد التی ت فی هذا
إقرأ أيضاً:
كاتب سياسي: السودان يشهد أبشع الجرائم التي سجلت في تاريخ الإنسانية
قال الكاتب السياسي محمود لعوتة إن السودان يشهد أبشع الجرائم التي سجلت في تاريخ الإنسانية، وعلى العالم أن يضع حدا لها.
وأضاف لعوتة خلال حديثه مع "الإخبارية": "ما يحدث في السودان من أبشع الجرائم التي سجلت في تاريخ الإنسانية فحرق الجثث ودفنها من أفظع الجرائم، واعتقد إنه يجب على العالم ألا يصمت عن هذه الجرائم الفظيعة".
وتابع:" يمكنني أن اقول أن الفاشر هي غزة السودان نظراً للأعداد الكبيرة من النازحين والقتلى والجرحى حتى الأطفال لم يسلموا من هذه الجرائم، والسودان تعاني من أزمة إنسانية عميقة".
الكاتب السياسي محمود لعوتة: السودان يشهد أبشع الجرائم التي سجلت في تاريخ الإنسانية وعلى العالم أن يضع حدا لها#عين_الخامسة | #الإخبارية pic.twitter.com/rUPn9h0Cyv
— قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) November 9, 2025 أخبار السعوديةآخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.