لا يقتصر الدور الذي يضطلع به الرئيس السوري أحمد الشرع وفريقه، الذين تسلموا الحكم بعد سقوط نظام البعث في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، على إعادة إعمار بلد أنهكته 13 سنة من الحرب دمارا اقتصاديا وعمرانيا، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تأسيس الدولة برمتها.
فالحرب التي دامت من عام 2011 حتى 2024 لم تقتصر على تدمير المدن وتقويض الاقتصاد، بل أسفرت أيضا عن انهيار كامل في بنية الدولة ومؤسساتها.
لذلك، فإن وعد الشرع للشعب السوري بتحقيق التقدم والازدهار لا يعني فقط تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بل يشكل في جوهره إعلانا عن ميلاد نظام سياسي جديد.
فمفهوم بناء الدولة أو النظام السياسي يُحيل إلى العمليات السياسية والتاريخية التي تفضي إلى تأسيس الدولة وتعزيز مؤسساتها، وتحقيق الاستقرار الداخلي، وضمان التنمية المستدامة، منذ نشوء الدولة الحديثة وحتى يومنا هذا.
وفي هذا الإطار، تلعب العوامل الجيوسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والإثنية، والدينية- سواء كانت داخلية أو خارجية- دورا بالغ الأهمية في تشكيل بنية النظام السياسي.
منذ القرن العشرين، أصبح بناء الدولة والنظام السياسي يُعد جزءا لا يتجزأ من عمليات بناء السلام، كما يتجلى في حالات مثل السعي إلى إقامة دولة فلسطينية ضمن حل الدولتين؛ لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، أو في تجربة بناء دولة البوسنة والهرسك بعد حرب البوسنة والصرب.
وتُجمع الأدبيات الأكاديمية على أن الأمن يشكل الشرط الأساسي لتحقيق أي تقدم في مسار بناء الدولة، إذ لا يمكن تنفيذ المهام الأساسية الأخرى دون توفره. ومن هنا، فإن وجود دستور يعكس ثقافة المجتمع وتاريخه وقيمه، يُعد قاعدة رئيسية في بناء الدولة.
وعلى هذا الأساس، يخوض الرئيس أحمد الشرع وحكومته مهمة بالغة التعقيد، تتمثل في إرساء نظام سياسي جديد، يتكامل مع جهود إصلاح الاقتصاد، وإعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات العامة.
تفضيل النظام الرئاسيحصلت سوريا على استقلالها في عام 1945 بعد توقيعها على ميثاق الأمم المتحدة، واكتملت سيادتها بخروج القوات الفرنسية عام 1946.
إعلانومنذ الحرب العالمية الأولى، اختبرت سوريا أنماطا متعددة من أنظمة الحكم، شملت الملكية، والانتداب الفرنسي، والاتحاد، غير أن جميع هذه الأنظمة التي عرفتها البلاد بين عامي 1920 و1961 لم تكن طويلة الأمد. حتى الجمهورية العربية المتحدة التي نشأت من اتحاد سوريا مع مصر، لم تدم أكثر من ثلاث سنوات.
وعلى الرغم من أن النظام السياسي في سوريا، حتى 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، كان يُصنف شكليا كبرلماني، فإنه كان في الواقع نظاما دكتاتوريا مركزيا يسيطر عليه حزب البعث، وتتركز السلطة فيه بيد عائلة الأسد.
في ظل هذا النظام، كانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تُستغل كأداة لإضفاء شرعية شكلية على استمرار الحكم الاستبدادي لحزب البعث.
لكن بعد انهيار النظام، بادر الشرع، الذي قاد العملية السياسية التي أطاحت بالبعث، إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد البشير.
وفي 29 مارس/آذار، أعلن الشرع عن حكومة موسعة تراعي التعدد العرقي والمذهبي والديني في البلاد. ومن أبرز ملامح هذه الحكومة الجديدة، إلغاء منصب رئيس الوزراء، وتكليف رئيس الجمهورية بمهام رئاسة مجلس الوزراء، في إشارة واضحة إلى تبني نظام رئاسي.
ويبدو أن سوريا الجديدة تتجه نحو نموذج رئاسي شبيه بالنظام المعتمد في تركيا، بدلا من النموذج البرلماني السابق. ويكتسب هذا التوجه أهميته في ظل محاولات قوى محلية مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة أميركيا، والزعيم الدرزي حكمت الهجري، المدعوم إسرائيليا، الدفع باتجاه إقامة نظام فدرالي.
لذلك، يُنظر إلى تبني النظام الرئاسي بوصفه خطوة إستراتيجية تهدف إلى تعزيز وحدة الأراضي السورية، وصيانة كيانها السياسي.
ومن المتوقع أن يتم تكريس هذا الخيار في الدستور الجديد، الذي يُفترض طرحه على الاستفتاء بعد انتهاء الفترة الانتقالية المقدرة بخمس سنوات.
الأمن والسيادة: أساس بناء الدولةيُعد تحقيق الأمن والسيادة من المقومات الجوهرية لبناء الدولة والنظام السياسي. فإذا لم تكن الحكومة المركزية صاحبة السيادة الكاملة على جميع أراضي البلاد، ولم تكن قوات الأمن الوطنية قادرة على فرض السيطرة، فإن الحديث عن اكتمال بناء الدولة يبقى بعيد المنال.
وعليه، فإن قدرة الحكومة السورية على استكمال بناء الدولة مرهونة باستعادتها السيطرة على منطقتَي شرق الفرات وجنوب سوريا، وهما من المناطق الخارجة حتى الآن عن سلطة دمشق.
ويُعد استرجاع هذه المناطق تحديا صعبا ويستلزم وقتا، خصوصا في ظل التدخلات المباشرة من جهات إقليمية، مثل إسرائيل، التي تؤثر في الواقع الميداني والسياسي هناك.
الانتخابات: خطوة نحو الشرعيةتستمد الأنظمة السياسية شرعيتها من الشعب، وهذه الشرعية تتحقق من خلال موافقته، التي تُترجم عادة عبر صناديق الاقتراع في الأنظمة الديمقراطية.
وفي سوريا، أُجريت انتخابات برلمانية في أوائل أكتوبر/تشرين الأول، في ظروف استثنائية فرضتها المرحلة الانتقالية، وبإمكانات محدودة، مقارنة بالمعايير الديمقراطية المستقرة.
وقد جرت الانتخابات في معظم المناطق السورية، باستثناء تلك الواقعة تحت سيطرة "قسد"، وبعض المدن الجنوبية. وأسفرت العملية عن انتخاب 127 نائبا من أصل 210 مقاعد في البرلمان، بينما لم تُجرَ الانتخابات في 13 دائرة؛ بسبب غياب سيطرة الدولة، في حين سيقوم الرئيس الشرع بتعيين 70 نائبا لاستكمال العدد الكلي.
إعلانويعكس التوزيع النيابي تشكيلة اجتماعية متنوعة، تضم ممثلين عن مختلف الفئات التي ساهمت في إسقاط النظام السابق، ويؤشر إلى رغبة السوريين في تمثيل شامل لمكونات المجتمع، بدون اللجوء إلى تخصيص حصص طائفية أو إثنية، بل عبر صناديق الاقتراع.
ورغم كل التحديات، فإن إجراء هذه الانتخابات يُعد تطورا مهما على طريق ترسيخ النظام السياسي الجديد. فهي تمنح المواطنين فرصة المشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية من خلال ممثليهم، بما يعزز مبدأ الحكم الجماعي.
وخلال العام الأول من هذه المرحلة، ظهرت اعتراضات من بعض الفئات؛ بسبب شعورها بالإقصاء عن مواقع السلطة. وهنا تبرز أهمية الانتخابات كوسيلة لإدماج تلك الفئات في الحياة السياسية، والتقليل من حجم التوتر الاجتماعي والسياسي.
كما أن خطوة تعيين 70 نائبا باعتماد مقاربة شاملة من قبل الرئيس الشرع، من شأنها أن تُسهم في تعزيز الوحدة الوطنية، وتؤكد أن الرئيس يمثل جميع المواطنين، وليس فئة بعينها.
ممارسة السياسة بحرية: الضمانة الكبرىمن الشروط الحاسمة لبناء دولة قوية، وجود منظومة قانونية تحمي الحقوق والحريات. فعندما يشعر المواطن أن القضاء منصف، وأن القانون يحمي الجميع بلا تمييز، فإنه يمنح ثقته للنظام السياسي القائم.
لذلك، يجب أن يكرس الدستور الجديد، وكذلك القوانين التي ستصدر تباعا، ضمانات حقيقية لحقوق الإنسان، ويتيح للهويات الدينية والعرقية والمذهبية الاندماج في الحياة السياسية دون تمييز، ويوفر بيئة قانونية تمكن الأفراد من المشاركة والتنظيم من خلال الأحزاب والجمعيات.
وتعكف الإدارة السورية على اتخاذ الخطوات الضرورية لتأسيس حياة سياسية فاعلة، وهو ما سيمكن البلاد من إنتاج سياسات فعالة، ويعزز التماسك المجتمعي.
ويُعد قانون الأحزاب أحد المعايير المهمة لقياس النضج الديمقراطي، ومن الضروري أن يتيح هذا القانون تأسيس أحزاب تعكس تنوع المجتمع، وتشجع المشاركة الحرة، وتمنع في الوقت نفسه تغول القيادات، أو احتكار القرار داخل الأحزاب.
فتح المجال القانوني لتأسيس الأحزاب السياسية من شأنه أن يدفع سوريا نحو نضج سياسي أكبر، ويعزز الممارسة الديمقراطية، ويؤسس لتوازن بين السلطة والمعارضة على أسس قانونية.
كما يُعد هذا الانفتاح مهما؛ لأنه يوفر مظلة قانونية للنقد والمعارضة، ما يعزز المساءلة ويحمي التجربة السياسية من الانغلاق أو التسلط.
الخلاصةتمر سوريا حاليا بمرحلة مفصلية مليئة بالتحديات والفرص في آن معا. وإذا نجحت الإدارة الحالية في استثمار هذه الفرص بحكمة، فستحقق تقدما مهما في مسار بناء الدولة والنظام السياسي.
فإتمام هذه المرحلة الانتقالية بنجاح وفي أقصر وقت ممكن يتطلب قرارات شجاعة، وإصلاحات شاملة، وشراكة سياسية واسعة.
وتبقى الحقيقة الأساسية أن قيام دولة سورية قوية وعادلة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تنفيذ الخطوات اللازمة لبناء نظام سياسي متماسك وشامل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات النظام السیاسی بناء الدولة من خلال
إقرأ أيضاً:
بعد تعليق العقوبات.. ما هو قانون قيصر الذي فرضته أمريكا على سوريا؟
أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فجر الثلاثاء، عن تعليق جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا، بموجب "قانون قيصر لحماية المدنيين".
وجاء هذا القرار، الذي يسري لمدة 180 يومًا، تزامنا مع لقاء الرئيس أحمد الشرع بنظيره دونالد ترامب في البيت الأبيض، ويهدف بحسب واشنطن إلى دعم الاستقرار والنمو الاقتصادي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.
ويُنهي هذا الإجراء برنامج العقوبات الأمريكية الشاملة على سوريا ويوقف جزئياً العمل بـ "قانون قيصر"، مما يسمح باستئناف التصدير للسلع والبرمجيات والتكنولوجيا الأمريكية ذات الاستخدام المدني العادي.
وعلى الرغم من التخفيف، تبقى العقوبات سارية على أفراد وكيانات مرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان وتجارة المخدرات، بهدف منع استفادة "أسوأ المجرمين" من هذا الإعفاء. وتأمل الإدارة الأمريكية في أن تساهم هذه الخطوة في تسهيل الدعم الاقتصادي وإعادة الإعمار في البلاد.
ما هو "قانون قيصر"؟
"قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا" هو تشريع أمريكي أصدره الكونغرس في عام 2019 ووقعه الرئيس ترامب في حقبته الأولى. وقد سُمي القانون بهذا الاسم نسبة إلى مصوّر عسكري سوري منشق حمل اسمًا حركيًا هو "قيصر"، قام بتهريب آلاف الصور التي توثّق جرائم تعذيب وقتل ممنهجة لسجناء سياسيين على يد النظام السوري السابق.
الأهداف الأساسية للقانون
محاسبة النظام: الهدف الرئيسي كان تحميل نظام بشار الأسد وحلفائه المسؤولية عن الفظائع المرتكبة ضد الشعب السوري.
تجفيف التمويل: السعي لحرمان النظام من الموارد المالية اللازمة لمواصلة حملة العنف والتدمير.
ردع التعامل الدولي: توجيه رسالة واضحة للمجتمع الدولي والشركات الأجنبية بأنه لا ينبغي لهم
الدخول في أعمال أو صفقات تُثري النظام أو تدعمه.
أبرز الإجراءات
العقوبات الثانوية: يفرض القانون عقوبات على أي شخص أو كيان أجنبي (سواء كان دولة أو شركة أو فرد) يقوم بتقديم دعم مادي أو مالي أو تقني للحكومة السورية أو المؤسسات التابعة لها، بما في ذلك:
النفط والغاز: تزويد الحكومة بالمنتجات البترولية أو المساهمة في توسيع إنتاج النفط والغاز.
الطيران والنقل: توفير سلع أو خدمات أو تكنولوجيا مهمة مرتبطة بتشغيل الطائرات المستخدمة لأغراض عسكرية.
إعادة الإعمار: ردع الأجانب عن إبرام عقود مهمة لإعادة الإعمار أو الهندسة في مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة السورية.
العقوبات المالية: فرض قيود على المعاملات المالية وتجميد أصول الأفراد والكيانات المستهدفة، وحظر سفرهم إلى الولايات المتحدة.
كيف تم التعليق؟القانون يتضمن مادة تسمح للرئيس الأمريكي بتعليق أو إلغاء العقوبات بشكل كامل أو جزئي لفترات لا تتجاوز 180 يومًا، إذا ما رأى أن شروطًا معينة قد تحققت في سوريا، مثل وقف القصف وإطلاق سراح السجناء السياسيين وتحقيق العدالة للضحايا.
هذا التعليق الجزئي الأخير يستند إلى هذه المادة، لكن الإلغاء النهائي للقانون يتطلب موافقة الكونغرس الأمريكي.