التمويل الأخضر وسط الاقتصاد العالمي الجديد
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
قراءة وترجمة - بدر بن خميس الظفري -
تتصدّر قضايا المناخ اليوم العناوين الإخبارية كما تتصدر المشهد السياسي، وأصبح التمويل الأخضر أحد المحركات الرئيسة في الاستراتيجيات الاقتصادية حول العالم. فالحكومات والبنوك والمؤسسات الدولية تتعامل مع معايير البيئة والمجتمع والحوكمة باعتبارها مقياسًا موضوعيًا للقدرة التنافسية للدول.
على مدى سنوات، دار الجدل بين الاقتصاديين حول ما إذا كان التمويل الأخضر انحرافًا مكلفًا أم تكيّفًا مربحًا. إلا أن هذه الدراسة جاءت لتضع حدًا للجدل. فمن خلال بيانات تغطي 103 دول خلال الفترة من عام 2000 إلى 2020، تخلص الدراسة إلى أن التمويل الأخضر يعزز بشكل حاسم أداء الدول في مؤشرات (البيئة والمجتمع والحوكمة)، والآلية في هذا واضحة، وهي أنّ الأموال الموجهة نحو الطاقة المتجددة، والتقنيات النظيفة، والمبادرات الاجتماعية والحوكمية تقلل من التدهور البيئي، وتزيد من قدرة الابتكار، وتعزز الثقة بالمؤسسات.
يعرّف التمويل الأخضر، ببساطة، بأن القروض والسندات والاستثمارات المخصصة للمشروعات المسؤولة بيئيًا واجتماعيًا. فهو يشمل كل شيء بدءًا من السندات الخضراء والبنى التحتية المحايدة كربونيًا، وصولًا إلى الإسكان الموفر للطاقة والزراعة المستدامة. وما يجعله تحوّلًا جذريًا هو حجمه، إذ لا تُعامل الاستدامة كملف ثانوي، بل كجزء مدمج في الدورة المالية للاقتصاد نفسه.
ويأتي هذا الدليل العلمي في توقيت دقيق، ففي أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، يتحول الطموح المناخي إلى أطر مالية واقعية. فالسندات الخضراء السيادية باتت جزءًا ثابتًا من السياسات المالية، بينما تشترط البنوك التنموية في كثير من الأحيان التزام المقترضين بمعايير (البيئة والمجتمع والحوكمة). وتثبت نتائج الدراسة أن هذه التحولات ليست مجرد نزعة سياسية، بل استثمار اقتصادي رشيد. فالطموح البيئي ليس نقيضًا للحكمة المالية، بل امتداد طبيعي لها.
لكن الفائدة من التمويل الأخضر ليست متساوية بين الدول. إذ تظهر الدراسة أن الدول ذات الأنظمة المالية المتقدمة، والمؤسسات القوية، والبنية التكنولوجية المتطورة، تجني أعظم المكاسب. فهذه العوامل تتيح للأسواق نقل رأس المال الأخضر بسرعة إلى المشاريع الإنتاجية. أما الدول ذات المؤسسات الضعيفة أو الأنظمة المصرفية غير الناضجة، فتعجز عن تحويل التمويل الأخضر إلى نتائج ملموسة. والرسالة واضحة، وهي أن رأس المال يحتاج إلى حوكمة بقدر حاجته إلى هدف.
أحد أكثر استنتاجات الدراسة لفتًا للنظر هو أن التمويل الأخضر يعزز الأداء الوطني لمؤشرات (البيئة والمجتمع والحوكمة) من خلال الابتكار التكنولوجي أكثر من اعتماده على إعادة هيكلة الصناعة. بمعنى آخر، الدول تستفيد أكثر عندما تستثمر في التقنيات الخضراء الجديدة بدلًا من الاكتفاء بإغلاق المصانع الملوِّثة. هذا التحول في الفهم يغيّر المفهوم التقليدي للتنمية المستدامة، التي طالما ارتبطت بتقليص النشاط الصناعي، ليقدم بديلاً أذكى، وهو تحديث الصناعة عبر عمليات إنتاج نظيفة وتصميم أكثر كفاءة، لا القضاء عليها.
ويتوافق هذا المنظور تمامًا مع احتياجات الاقتصادات الناشئة في آسيا والخليج، التي تواجه تحدي التنويع الاقتصادي دون التضحية بالنمو. وتشير الدراسة إلى أن بإمكانها تحقيق الاثنين معًا، بشرط توجيه التمويل نحو البحث والتطوير والرقمنة والابتكار. فمشاريع الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، والمدن الذكية تمثل نماذج حية لكيفية مساهمة التمويل الأخضر في تجديد الصناعة لا إضعافها.
قوة المؤسسات والتكنولوجيا
التمويل وحده لا يكفي، فالدراسة تبرز أن جودة المؤسسات والبنية الرقمية تضاعف أثر التمويل الأخضر. فالدول ذات الحوكمة الرشيدة، وحقوق الملكية الواضحة، وشبكات الاتصال الحديثة، تجذب استثمارات أكثر استدامة. إذ تقلل التكنولوجيا الرقمية من فجوات المعلومات التي كانت تجعل المشاريع الخضراء تبدو عالية المخاطر. كما تسمح المنصات الرقمية للمستثمرين بتتبع الانبعاثات ومؤشرات الحوكمة في الوقت الفعلي، مما يعزز الثقة ويخفض تكلفة رأس المال.
وبذلك تصبح التكنولوجيا البنية التحتية غير المرئية للاستدامة. فالتقنيات المالية الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وأنظمة تتبع الكربون توجد ما وصفه الباحثون بـ«دائرة فاضلة» تجمع بين التحديث المالي والمسؤولية البيئية. وتبدو آثار ذلك واضحة في أماكن مثل إفريقيا الشرقية وجنوب شرق آسيا، حيث تفتح الخدمات المصرفية عبر الهاتف وتمويل التكنولوجيا الخضراء آفاقًا جديدة للمزارعين والشركات الناشئة.
ومع ذلك، لا تسير جميع الدول في هذا السباق الأخضر بالوتيرة نفسها. فالدراسة تشير إلى خلل جوهري، وهو أن الأسواق المالية التقليدية ما زالت تفضل المقترضين الكبار من الحكومات والشركات العملاقة، وتُقصي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. أما الاقتصادات النامية، فتعاني ارتفاع تكاليف التمويل والمخاطر، ما يمنعها من الوصول إلى رأس المال الأخضر طويل الأجل. وهكذا يتهدد العالم بانقسام بيئي جديد: دول غنية تزيل الكربون بالابتكار، وأخرى فقيرة تبقى رهينة الوقود الأحفوري.
إنّ تجاوز هذا الانقسام يتطلب إصلاحات داخلية وتمويلًا دوليًا منصفًا. فالحكومات مطالَبة بتبسيط اللوائح، وتقديم حوافز ضريبية، وإطلاق أدوات تمويلية هجينة تقلل المخاطر وتستقطب الاستثمارات الخاصة. فالشراكات بين القطاعين العام والخاص قد تنجح، شريطة أن تقوم على الشفافية والنتائج القابلة للقياس. وإلا فسيبقى التمويل الأخضر شعارًا جميلًا دون أثر فعلي على خفض الانبعاثات.
قياس ما يهم حقًا
أحد أهم إسهامات الدراسة يكمن في منهجها التحليلي، إذ طوّر الباحثون مؤشرًا وطنيًا شاملًا للأداء في (البيئة والمجتمع والحوكمة) بدلًا من الاقتصار على بيانات الشركات. ويغطي هذا المؤشر ثلاثة أبعاد مترابطة: البيئة، والمجتمع، والحوكمة. وهو بذلك يعكس الصورة الكاملة للتنمية المستدامة، فصفاء الهواء بلا عدالة اجتماعية أو مؤسسات شفافة لا يُعد استدامة.
وهذا التغيير في أدوات القياس له آثار عملية عميقة. فالمستثمرون ووكالات التصنيف يمكنهم استخدام هذه البيانات لتقييم المخاطر السيادية من منظور الاستدامة، والحكومات يمكنها قياس تقدمها ليس فقط بالناتج المحلي، بل أيضًا بانخفاض الانبعاثات وتحسن التعليم ونزاهة المؤسسات. إن معايير الازدهار الجديدة تتشكل الآن، والتمويل الأخضر هو قلبها النابض.
بالنسبة لصنّاع القرار، تحمل النتائج مزيجًا من الأمل والتحدي. فالتمويل الأخضر يثبت فعاليته، لكن بشرط وجود سياسات داعمة. فالحوافز الضريبية، وإرشادات السندات الخضراء، ومعايير الإفصاح البيئي يجب أن تعمل بانسجام لبناء الثقة في الأسواق. كما أن التعليم والتطوير التكنولوجي لا يقلان أهمية عن القروض؛ لأنهما يحددان قدرة الدولة على الابتكار.
وتوصي الدراسة بأن لا تركز الحكومات على توسيع حجم التمويل الأخضر فقط، بل على تحسين نوعيته أيضًا، بتوجيهه إلى القطاعات التي تُحدث أثرًا بيئيًا واجتماعيًا حقيقيًا، لا إلى مشاريع مؤقتة أو دعائية. فالشفافية والمساءلة هما العملة الأخلاقية للتمويل الأخضر، ومن دونهما يصبح وصف «الأخضر» بلا معنى.
عقلية اقتصادية جديدة
تتجاوز هذه النتائج الأرقام لتكشف عن تحوّل أعمق في الفكر الاقتصادي. فبعد عقود من هيمنة الربح السريع والنمو المادي، يعيد التمويل الأخضر تعريف مفهوم القيمة ذاته، فالنجاح لم يعد يقاس بالأرباح وحسب، بل بقدرة الاقتصاد على البقاء ضمن حدود الكوكب. إذ بات المستثمرون يسألون: هل يخفي ميزان الشركة التزامات بيئية أو مخاطر اجتماعية؟ وصناديق الثروة السيادية وصناديق التقاعد تعيد تشكيل محافظها وفقًا لمخاطر المناخ. فالاقتصاد الأخلاقي للمستقبل بدأ يتحول إلى اقتصاد فعلي في الحاضر.
وهذا ليس بدافع الإيثار، بل من منطلق المصلحة البحتة. فالنمو غير المستدام أصبح ماليًا غير مستدام أيضًا. فالكوارث الطبيعية واستنزاف الموارد والاضطرابات الاجتماعية تتحول جميعها إلى خسائر في الميزانيات. وهكذا يصبح التمويل الأخضر آلية دفاعيّة لبقاء الرأسماليّة وليس بديلًا أخلاقيًا لها. إن التمويل الأخضر هو الرأسمالية، والرأسماليّة تتعلم كيف تحسب تكلفة بقائها.
وتحمل الدراسة رسالة عاجلة تحمل في طياتها التفاؤل للدول النامية، ومفادها أن التمويل الأخضر يمكن أن يكون محركًا للنمو الشامل متى ما اقترن بالإصلاح المؤسسي والتحول الرقمي. فالدول التي تدمج الاستدامة في سياساتها المصرفية والمالية قادرة على جذب استثمارات طويلة الأجل، وتقليل اعتمادها على السلع المتقلبة، وخلق قطاعات جديدة للتوظيف. ويُعدّ التحول العالمي في معركة الطاقة فرصة لإعادة توزيع التنمية، حين يتجه رأس المال نحو الكفاءة ويبتعد عن الكربون.
وتبرز مبادرات مثل السندات الخضراء السيادية في مصر، وإطار التمويل المستدام في عُمان، والصكوك الخضراء الإسلامية في الخليج، كمؤشرات على هذا التحول. فالتقاء الأخلاق المالية بالمسؤولية المناخية قد يشكل النموذج الاقتصادي المميز لعصر ما بعد النفط.
ومع ذلك، تدعو الدراسة إلى الحذر. فرغم الزخم المتزايد، ما زالت هناك تحديات في السيولة والشفافية. فالأسواق لم تتفق بعد على تعريف موحد لما هو «أخضر»، وبعض المستثمرين يخشون من ظاهرة «التجميل البيئي». إن غياب المعايير الموحدة قد يضعف الثقة، ما يفرض على الحكومات والهيئات التنظيمية تطبيق أنظمة صارمة للتدقيق والإفصاح.
إضافة إلى ذلك، ينبغي ألا يغفل مسار التمويل المستدام بُعده الاجتماعي. فالتحول العادل، الذي يضمن حماية العمال والمجتمعات المتأثرة بمسار تحول الطاقة، ضرورة للاستقرار السياسي. فالتمويل قد يكون أخضر، لكنه يجب أن يكون عادلًا أيضًا.
ختامًا ، تقدّم دراسة تشينغ وزملاؤه رؤية تتخطى حدود البحث الأكاديمي، إذ تُعدّ مرآة لمستقبل الرأسمالية ذاتها، مؤكدة أن المسؤولية البيئية والعدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة تشكّل ركائز أساسية للمرونة الاقتصادية. وتكشف بيانات أكثر من مائة دولة عن حقيقة واضحة مفادها أن الأمم التي تستثمر في «الأخضر» تنمو بقوة أكبر.
يمثل العقد القادم اختبارًا حقيقيًا لقدرة الحكومات والأسواق على تحويل هذه القناعة إلى سياسات عملية. فالتمويل الأخضر يعيد صياغة مفهوم الازدهار، إذ يتجاوز حدود الطاقة النظيفة أو المحافظ الأخلاقية ليصبح نهجًا اقتصاديًا شاملًا. وفي عالم يواجه اضطرابات مناخية واقتصادية متصاعدة، يغدو التمويل الأخضر درعًا واستراتيجية في الوقت نفسه، وطريقًا للنمو المتوازن الذي يصون الإنسان والبيئة. ويبقى السؤال المطروح: أيهما أثقل كلفة على البشرية - التحول نحو الاقتصاد الأخضر أم تجاهله؟
قراءة وترجمة - بدر بن خميس الظفري
عن مجلة علوم البيئة وأبحاث التلوث
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رأس المال التی ت
إقرأ أيضاً:
مرور مكثف لإدارة المراجعة الداخلية والحوكمة على المستشفيات بمحافظة الفيوم
نفذت فرق إدارة المراجعة الداخلية والحوكمة بمديرية الشئون الصحية بالفيوم والإدارات الصحية خلال شهر أكتوبر ٢٠٢٥ مرورًا ميدانيًا مكثفًا على جميع المستشفيات الحكومية التابعة لوزارة الصحة والسكان داخل نطاق محافظة الفيوم .
وشمل المرور مستشفى الفيوم العام، ومستشفى التأمين الصحي، والمستشفيات المركزية والنوعية، بإجمالي (١٠) مستشفيات، وذلك تنفيذًا لتوجيهات الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان، والدكتور أحمد الأنصاري محافظ الفيوم، وبناءً على تعليمات الدكتورة نيفين شعبان وكيل وزارة الصحة بالفيوم .
وجاءت هذه الجولات تحت إشراف الدكتورة نيفين شعبان وكيل الوزارة، وبقيادة الدكتور مصطفى أحمد حمزة مدير إدارة المراجعة الداخلية والحوكمة،
ضمن خطة الإدارة لتعزيز منظومة المتابعة والرقابة الداخلية، وضمان الالتزام بتطبيق معايير مكافحة العدوى والجودة وسلامة المرضى داخل المنشآت الصحية بالمحافظة.
وشملت أعمال المرور الميداني مراجعة تطبيق سياسات مكافحة العدوى داخل أقسام العمليات، الحضانات، الرعاية المركزة، الغسيل الكلوي، المعامل، الرمد، الأسنان، بنوك الدم، العزل، المطبخ، والنظافة العامة، إلى جانب متابعة أعمال الصيانة والمستلزمات الطبية وإجراءات السلامة المهنية.
وقد أظهرت تقارير المرور التزامًا ملحوظًا في عدد من المستشفيات بتطبيق معايير مكافحة العدوى والجودة وسلامة المرضى، مع رصد بعض الملاحظات الفنية والإدارية التي جرى التعامل معها فورًا.
تلافي الملاحظاتووجهت الإدارة فرق السلامة والصحة المهنية ومكافحة العدوى والجودة بتلافي الملاحظات فورًا، وتفعيل دور مديري المستشفيات والصيادلة والإدارات الفنية في المتابعة اليومية وضبط بيئة العمل داخل الأقسام الحيوية.
من جانبها، شددت الدكتورة وكيل وزارة الصحة بالفيوم على ضرورة استمرار الجولات الميدانية المفاجئة ومتابعة تنفيذ التوصيات بدقة، مؤكدة أن المتابعة الدورية تهدف إلى ضمان تقديم خدمة طبية آمنة ومتطورة للمواطنين وفق معايير الجودة والحوكمة.