توترات مالي تهدد نفوذ روسيا في أفريقيا
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
تطورات كبيرة شهدتها مالي خلال الأشهر الماضية مع تزايد ضغوط مسلحي تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" على العاصمة باماكو، واتباعهم لإستراتيجية تهدف إلى خنق باماكو تدريجيا عبر قطع الطرق التي تؤمن وصول الوقود إليها.
وبينما تشير الأنباء إلى تحسن نسبي في الأوضاع الآن، فإن العديد من التساؤلات تطلّ برأسها حول تداعيات ذلك على الدور الروسي في أفريقيا والذي كانت مالي أبرز ساحاته.
لطالما وصفت مالي بأنها كانت جزءا من الحديقة الخلفية الأفريقية لفرنسا، ولكن خلال السنوات الخمس الماضية جرت كثير من المياه تحت الجسور مغيرة المشهد الجيوسياسي في المنطقة برمته، حيث حولت سفينة المستعمرة الفرنسية السابقة اتجاهها نحو الشواطئ الروسية في تحول جيوسياسي انعكس سياسيا وعسكريا واقتصاديا على التوازنات الإقليمية في منطقة الساحل.
ويوضح تحليل نشرته "مجموعة الأزمات الدولية" في فبراير/شباط 2023 أن هذا التحول اتخذ شكله الحاسم في مايو/أيار 2021 مع قيام ضباط ماليين بانقلاب عسكري ثان بعد أول سبقه العام الماضي، حيث بدأت مالي إعادة تقييم علاقاتها مع شركائها الرئيسيين وخاصة فرنسا، مدفوعة بزخم شعبي معاد لباريس ومرحب بالتدخل الروسي على خلفية اتهام فرنسا بدعم النظم الاستبدادية المتتابعة.
ويلخص التحليل المذكور الدوافع وراء توجه حكام باماكو نحو موسكو بإدانة شركاء مالي، وخاصة فرنسا، للانقلاب الثاني، وتأكيد السلطات المالية لفشل التدخل العسكري الفرنسي والدولي في الحد من تقدم الجماعات المسلحة، واعتقاد هذه السلطات أن فرنسا التي كانت شريكها الرئيسي في هذه التدخلات لا تملك الحل لمشكلة عدم الاستقرار في منطقة الساحل، بل يشكك البعض أن باريس تلعب لعبة مزدوجة بدعمها جماعات مسلحة معادية للدولة المالية.
وسرعان ما تطورت العلاقة بين طرفي الحلف الجديد؛ فقد أشاد وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب في مايو/أيار 2022 بالتعاون بين باماكو وموسكو، مؤكدا تحقيقه نتائج باهرة وأنه بفضل المعدات العسكرية الروسية التي اشترتها مالي فقد أصبحت قوات بلاده على العمل بشكل مستقل.
إعلانوميدانيا، تشير العديد من المصادر إلى الدور الذي لعبه آلاف المقاتلين العسكريين التابعين لمجموعة "فاغنر" الروسية في مالي، حيث يوضح تحليل منشور على "ذا جيمس تاون فاونديشين" وهو مركز دراسات أميركي متخصص في السياسة الأمنية والدفاعية أنهم كانوا مسؤولين عن تدريب القوات المسلحة المالية ومحاربة الإرهابيين وحماية كبار المسؤولين، حيث حل مقاتلو المجموعة الروسية محل البعثات الفرنسية والأممية الطويلة الأمد التي لم تتمكن من تأمين مالي على الرغم من عقد من الجهود.
ترافقت هذه التطورات مع توسع في اتفاقيات مرتبطة بالتعدين والطاقة أدت إلى صياغة معادلة جديدة يصفها "معهد روبرت لانسينغ لدراسات التهديدات العالمية والديمقراطيات" بـ"الأمن مقابل الموارد"، يتم عبرها مقايضة الدعم العسكري بالقدرة على الوصول إلى الموارد الإستراتيجية كالذهب واليورانيوم وغيرها.
من النجاح إلى الإخفاقمثلت مالي نموذجا رائدا للتعاون الروسي الأفريقي حيث تحولت وفق بعض التحليلات إلى نقطة انطلاق للتأثير في دول أفريقية أخرى كبوركينا فاسو والنيجر وغينيا، والذي تعزز بالنجاحات التي تمت في مواجهة المتمردين المسلحين الماليين الذين يمثلون طيفا واسعا يمتد من القوى الانفصالية إلى الجماعات الإسلامية.
وفي هذا السياق، كانت مشاركة مقاتلي فاغنر حاسمة في معركة كيدال عام 2023 التي تمثل أبرز إنجازات التحالف الروسي المالي الذي استطاع بسط سيطرة باماكو على معقل الطوارق التاريخي الذي فقدت سيطرتها عليه لأكثر من عقد من الزمان.
غير أن الواقع الميداني سرعان ما فرض حقائق أخرى؛ إذ لم يسهم الانتصار في كيدال في كبح التدهور الأمني، وتعرضت فاغنر لخسائر فادحة في كمين نُصب لها في يوليو/تموز 2024، في حين شهدت باماكو نفسها بعد شهرين من هذا الحدث هجمات خلفت المئات بين قتيل وجريح.
هذه التطورات وصفها تحليل منشور على "جورجتاون جورنال أوف فورين أفيرز" بأن توسع فاغنر في عملياتها عام 2024 في مالي كشف عن هشاشة عملياتها، حيث لم تضعف هذه الحوادث صورة المجموعة كقوة فعّالة في مكافحة التمرد فحسب، بل أبرزت أيضا هشاشة النموذج الأمني الروسي في المنطقة.
من جانبه، يعتبر الصحفي والباحث المتخصص في قضايا الساحل الأفريقي محمد ويس المهري أن النتائج الكلية للتحالف المالي مع روسيا كانت هزيلة، وخاصة بعد تورط روسيا في الحرب الأوكرانية الذي أثر على تعاونها مع دول الساحل وخاصة مالي، حيث تغولت مؤخرا الجماعات المسلحة التي تدخلت موسكو لدعم الماليين في كبح جماحها.
وأضاف أن موسكو لم تنخرط بشكل كبير في دعم الجيش المالي في مواجهة الجبهات المفتوحة في مناطق مختلفة من البلاد.
ويصف المهري للجزيرة التحالف مع روسيا بأنه تحول إلى "عبء" على مالي لا بفعل الفشل العسكري فقط، بل لأنه أدخل مالي ودول الساحل في مواجهة مع الدول الغربية تمظهرت في ضغوط وعقوبات مختلفة ولم يكن هناك في المقابل نجاحات ميدانية تبرر البقاء في هذه المواجهة.
تداعيات على النفوذ الروسي"تلاشي الوهم الروسي" هكذا تصف مقالة شاركت في كتابتها المديرة الأولى لمركز أفريقيا في "المجلس الأطلسي" في واشنطن راما ياد عجز التحالفات التي انخرط فيها المجلس العسكري المالي في تحقيق الآمال المعقودة عليها، مخلفة المزيد من التعقيدات في ساحة أمنية بالغة الهشاشة، حيث ترك قرار الكرملين بإعادة هيكلة الوجود العسكري في مالي صيف هذا العام تحت لواء "فيلق أفريقيا" وراءه "فراغا أمنيا وسياسيا هائلا".
إعلانإعادة الهيكلة هذه يصفها الباحث في الشأن الروسي أحمد الشايخ بأنها كانت "ضربة قوية للحكام الماليين"، وأن رسالة موسكو من سحب المجموعة العسكرية هي أن القادم سيكون تحت إمرة وزارة الدفاع الروسية بكل ما تعانيه من مشاكل هيكلية كانت الأزمة الأوكرانية دليلا واضحا عليها.
ويضيف الكاتب في "المركز العربي الأوراسي" للجزيرة نت أن وجود ملفات ضاغطة على صانع القرار السياسي في موسكو، كالصراع مع الغرب والحرب الأوكرانية وتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يلقي بظلال ثقيلة على تراتبية الملفات والحضور الروسي في أفريقيا وتوسعه الذي تحول إلى موضع نقاش بين النخبة الحاكمة مع مؤشرات واضحة على عدم الرغبة في الانخراط التام والكبير في القارة.
ففي حين يبدو أن التطورات في مالي ستطلق أجراس الإنذار في دول أفريقية أخرى حيث يخلص تقرير نشرته "ذا سنتري" -وهي منظمة أميركية تكشف عن شبكات الاستغلال التي تستفيد من القمع العنيف- إلى أن فاغنر لم تكن القوة القتالية القادرة على إلحاق الهزيمة بالمتمردين في مالي، وأن هذا "ينبغي أن يكون تحذيرا للعملاء الأفارقة الآخرين الذين يفكرون في الاستعانة بفيلق أفريقيا المدعوم من وزارة الدفاع الروسية".
خيارات محدودةمن جانبه، يؤكد محمد ويس المهري أن تأثيرات ما يصفه "بالفشل الروسي" في مالي قد ظهرت تداعياتها في منطقة الساحل والدول الأفريقية المتعاونة مع روسيا، مضيفا أن هناك تخوفا في المنطقة من تكرار تجربة سقوط بشار الأسد في سوريا بعد تخلي روسيا عن دعمه عسكريا في مواجهة عملية "ردع العدوان".
وأوضح أن أبرز مظاهر هذا التحول تمثلت في العمليات العسكرية المشتركة التي نفذتها دول تحالف الساحل الثلاث، مرجحا أن تمثل هذه الخطوة "الخطة ب" مع تراجع مستوى التعاون العسكري مع روسيا.
ويذكر أن تحالف "دول الساحل" المكون من مالي وبوركينا فاسو والنيجر قرر في مارس/آذار 2024 إنشاء قوات مشتركة نفذت في شهر أبريل/نيسان من العام نفسه أول عملية مشتركة استهدفت الجماعات المسلحة وقواعد لوجستية مهمة لها في المناطق الحدودية، في حين أطلق التحالف مناورات عسكرية كبرى في مايو/أيار 2025 استمرت أسبوعين وشاركت فيها بجانب الدول الثلاث كل من تشاد وتوغو.
وأمام التطورات الميدانية في مالي تبدو الخيارات محدودة أمام متخذي القرار في موسكو، ويتوقع أحمد الشايخ أن تحاول روسيا احتواء الأزمة التي تعيشها باماكو حاليا مع التركيز على حلها اقتصاديا ولا سيما أزمة الوقود التي أضرّت كثيرا بالدورة الاقتصادية للدولة المالية عموما وجعلت الضغط الشعبي على الحكام الماليين في أعلى مستوياته، خاصة أن لدى روسيا حاليا وفورات من النفط ومشتقاته بعد العقوبات الأميركية الأخيرة.
وفي تصريحه للجزيرة نت، يستبعد الشايخ أن تزيد موسكو من حضورها وقوتها العسكرية في مالي وذلك بسبب انشغال روسيا نفسها بما تطلق عليه موسكو قانونيا العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا.
وفي سياق أوسع، يعتقد الشايخ أن روسيا ستعمل على الحيلولة دون سقوط باماكو الذي سيمثل ضربة قوية لتحالف دول الساحل وإن كان مستبعدا، لكنه إن حدث فستركز موسكو أكثر قوتها في الدول الأخرى الموجودة فيها حاليا خاصة النيجر وبوركينا فاسو اللتين يبدو أن قادتهما أحسنوا إلى الآن تسيير الفترة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة، وفق تعبيره.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات دول الساحل فی مواجهة مع روسیا فی مالی
إقرأ أيضاً: