الأسواق القديمة... ذاكرة التجارة العُمانية
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
محمد بن علي البادي
كانت الأسواق العُمانية القديمة أكثر من مجرد دكاكين وأروقة يعلوها الغبار؛ كانت ملامح وطن تروى في وجوه تجاره، ونبضا يتردد في صدى الخطوات على حجارتها العتيقة. هناك، ولدت الأمانة في الموازين، وتربت الكرامة على الأرفف الخشبية، وتبادلت الأيادي عمرها بصدق لا يقاس بالنقود.
لم تكن تلك الأسواق تبيع السلع فحسب؛ بل كانت تبيع الحكايات، وتشتري العزة بثمن الكد والعرق.
اليوم، حين نلتفت إلى أطلال تلك الأسواق، لا نرى جدرانا مهدمة فحسب؛ بل نرى تاريخا يصادر بصمت، وهوية تنتزع من بين أنامل أبنائها الذين شيدوا بها مجد التجارة العُمانية منذ قرون.
كانت الأسواق العُمانية القديمة نبض الحياة في القرى والمدن، ومصدر فخر لكل عُماني يبيع ويشتري بشرف وكرامة. هناك، كان العُماني التاجر والسيد والحارس على رزقه، يعرف زبائنه بالاسم، ويقيس الربح بالرضا لا بالمال. لكن تلك المشاهد التي كانت تروي حكاية الكد والاجتهاد بدأت تتلاشى مع مرور السنين، حتى غدت الأطلال مكانا للذكرى، والأسواق القديمة أثرا بعد عين. لقد أغلقت الأبواب التي كانت تفتح للعُمانيين رزقهم، وهدمت المحال التي حملت أسماءهم، ثم أعيد بناء الأسواق بثوب جديد، لكن روحها القديمة غابت، لأنها لم تعد تدار بأياد عُمانية؛ بل سلمت إلى أجانب جعلوا من الاقتصاد المحلي ميدانا لمصالحهم الخاصة، فغاب التاجر العُماني عن المشهد الذي كان يومًا عنوان حضوره.
لم تكن الأسواق القديمة مجرد أماكن للبيع والشراء؛ بل كانت مدارس للحياة، ومجالس للحكمة، ومواطن لتبادل الخبرة بين التجار. في تلك الأزقة الضيقة المفعمة بروائح اللبان والبن والعطور، تشكل وجدان العُماني التجاري، وتعلم أبجديات الصدق والأمانة في التعامل. كان التاجر العُماني معروفا بدقته في الميزان، ووفائه في العهد، فلا غش ولا احتكار؛ بل تجارةٌ تقوم على البركة والرضا. ومن تلك الأسواق انطلقت قوافل التجارة إلى شرق أفريقيا والهند وفارس، تحمل اسم عُمان أينما وصلت، وتشهد أن أبناءها خلقوا للتجارة بذكاء وفطرة نقية. لقد شكلت تلك الأسواق في زمانها شريانا اقتصاديا نابضا يغذي المدن والقرى، ويمنح المواطن فرصة الكسب الشريف في أرضه دون حاجة إلى الغريب، وكانت رمزا للاكتفاء الذاتي وعنواناً للسيادة الاقتصادية العُمانية.
لم يأت التغيير فجأة؛ بل تسلل بصمت مع تحولات العمران والانفتاح الاقتصادي. حين بدأت الأسواق القديمة تهدم بحجة التطوير، لم ينتبه كثيرون أن الهدم لم يكن في الحجر فحسب؛ بل في الروح والهوية أيضا. أنشئت مراكزٌ تجاريةٌ حديثةٌ تتلألأ أضواؤها، لكنها خلت من الوجوه العُمانية التي كانت تزين السوق القديم بابتسامة الرضا ودفء التعامل. شيئا فشيئا، انسحب التاجر العُماني من الواجهة، ليحل محله الوافد الأجنبي الذي امتلك زمام الأمور، يتحكم في الأسعار، ويتلاعب بمسار السوق كيفما شاء. ومع ضعف الرقابة وغياب الدعم للتاجر المحلي، أصبحت التجارة الوطنية رهينة لجهات خارجية تمتص الأرباح وتحولها خارج البلاد، وبهذا التحول، فقدت الأسواق روحها، وفقد المواطن ثقته بقدرته على المنافسة في بلده.
لإعادة التاجر العُماني إلى قلب الأسواق، لا يكفي الأسف على الماضي؛ بل يجب وضع سياسات واضحة تنصف المواطن وتمنحه فرصا عادلة. يمكن ذلك من خلال إعفاءات ضريبية مؤقتة، وتسهيل إجراءات الترخيص والتخليص الجمركي، وتقديم الدعم الفني والتسويقي، وإتاحة المساحات التجارية في الأسواق الحديثة لأولئك الذين يمتلكون القدرة والرغبة في استثمار مهاراتهم. كما أن تشجيع التكتلات والتعاونيات العُمانية يمكن أن يخلق قوة اقتصادية حقيقية، تحمي المنتجات الوطنية وتضمن دوران العوائد داخل البلاد. ومن شأن ذلك أن يعيد روح السوق القديم، حيث كان التاجر العُماني يقف شامخا في وجه التحديات، محافظا على إرثه التجاري وكرامته المهنية.
إن حماية الاقتصاد الوطني لا تكون بالكلام فحسب؛ بل بالخطوات العملية التي تمنح المواطن الأولوية، وتعيد إليه الثقة بقدرته على المنافسة. فعُماننا غاليةٌ، وأهلها أغلى، ونجاح التاجر العُماني هو نجاحٌ للوطن بأسره.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
آخر الاستعدادات للاحتفال باليوم الوطني العُماني
◄ استعدادات وتحضيرات تُبرز مكانة الوطن وتستحضر تاريخه العريق
مسقط- الرؤية
تحتفل سلطنة عُمان باليوم الوطني المجيد في العشرين من نوفمبر، ذكرى مرور 281 عامًا على تأسيس الدولة البوسعيدية، هذا اليوم الأغرّ الذي يُجسِّد إشراق عهد جديد من اللحمة الوطنية والإنجازات العظيمة الممتدة، فيما تواصل سلطنة عُمان بخطى واثقة تحقيق إنجازاتها الشاملة ضمن مسيرة نهضتها المتجدّدة، بقيادة حضرةِ صاحبِ الجلالةِ السُّلطان هيثم بن طارق المعظّم القائد الأعلى حفظه الله ورعاه.
وبهذه المناسبة المجيدة، تتواصل الاستعدادات لتنظيم الاستعراض العسكري الذي يُجسّد الانتماء لهذا الوطن العزيز، والولاء لجلالة السلطان المعظم القائد الأعلى- حفظه الله ورعاه- وسيتضمن هذا الاحتفال تقديم عرض عسكري تقدمه وحدات رمزية تمثل الجيش السلطاني العُماني، وسلاح الجو السلطاني العُماني، والبحرية السلطانية العُمانية، والحرس السلطاني العُماني، وقوة السلطان الخاصة، وشرطة عُمان السلطانية، وشؤون البلاط السلطاني، إضافة إلى عروض لقوات الفرق الوطنية، والخيالة السلطانية، وعروض موسيقية عسكرية تقدمها فرق الموسيقى العسكرية المشتركة والراكبة.
وحول الاستعدادات والتحضيرات لهذه المناسبة المجيدة، قال العميد الركن سيف بن حمد اليوسفي مساعد رئيس أركان قوات السلطان المسلحة للعمليات والتخطيط رئيس اللجنة الرئيسية للاستعراض العسكري: "بمشيئة الله تعالى، يحتفل وطننا العزيز في 20 نوفمبر باليوم الوطني المجيد الذكرى الـ281 لتأسيس الدولة البوسعيدية، وتعمل اللجنة الرئيسية للاستعراض وكافة اللجان الأخرى على القيام بالإجراءات اللازمة للوصول بالاستعدادات والتحضيرات إلى المستوى اللائق والمشرف لإبراز هذه المناسبة الوطنية المجيدة، وتجسيد مكانة الوطن العزيز وتاريخه العريق". وأضاف أن "الاستعراض العسكري يُجسِّد مسيرة النهضة العُمانية المتجددة بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم القائد الأعلى- حفظه الله ورعاه- كما يعكس الاستعراض ما بلغته قوات السلطان المسلحة والأجهزة العسكرية والأمنية من جاهزية قتالية، وكفاءة تدريبية، انضباطية عالية، كما يُعبِّر هذا الاستعراض العسكري عن روح الولاء والانتماء للوطن العزيز والقيادة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم القائد الأعلى أبقاه الله".
من جانبه، قال العميد الركن بحري عبد الناصر بن أحمد العبري رئيس التوجيه المعنوي والمراسم العسكرية رئيس اللجنة الإعلامية للاستعراض العسكري: "بمشيئة الله تعالى، تستعدُّ سلطنةُ عُمان للاحتفال في العشرين من نوفمبر باليوم الوطني المجيد، تيمُّنًا بذكرى تأسيس الدولة البوسعيدية التي أرسَت منذ نشأتها صروحَ العدل والأمن، وأقامت ركائز الدولة الحديثة على مبادئ الحكم الرشيد، وترسيخ المواطنة الصالحة بين أبناء المجتمع، وتفعيل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في إطارٍ مؤسسيٍّ متوازن، إلى جانب تعزيز حضورها الدبلوماسي مع المجتمع الدولي على أسسٍ من المصالح المشتركة وصون السيادة الوطنية، ولقد سطّرت سلطنة عُمان على مدى 281 عامًا ملحمةً مجيدةً من البناء والتنمية والازدهار، حملت فيها راية المجد العُماني جيلاً بعد جيل".
وأضاف العبري أن "الجهود تتواصل في مختلف التشكيلات الإعلامية والفنية العسكرية والأمنية، وبالتنسيق الوثيق مع وزارة الإعلام، لتقديم تغطيةٍ نوعيةٍ تليق بعظمة المناسبة وتجسّد معاني الولاء والانتماء للوطن العزيز. ويأتي الاستعراض العسكري ليكون لوحةً وطنيةً مهيبةً تُبرز ما بلغته قوات السلطان المسلحة والأجهزة العسكرية والأمنية من تطوّرٍ رفيعٍ في الجاهزية والكفاءة والانضباط، وتُجسّد الولاء الصادق والعهد الدائم لحضرةِ صاحبِ الجلالةِ السلطان هيثم بن طارق المعظّم- القائد الأعلى - أيّده الله وحفظه ورعاه".
وعبَّر العميد الركن منصور بن علي العامري قائد طابور الاستعراض العسكري عن تشرُّفه بقيادة طوابير الاستعراض العسكري وقال: "بحمد الله وتوفيقه، أشعرُ بعظيم الفخر، وبالغ الاعتزاز، وعميق الامتنان، نيلي شرف الثقة لقيادة طوابير الاستعراض العسكري بمناسبة اليوم الوطني المجيد، الذكرى الـ281 لتأسيس الدولة البوسعيدية؛ وهي مناسبة نستحضر فيها أمجاد الماضي ونفخر بمنجزات الحاضر".
وأكد أن وقوف طوابير الوحدات العسكرية والأمنية في ميدان الاستعراض، يجسد الانتماء والوفاء، والولاء والفداء، ويعبر عن إخلاص منتسبي قوات السلطان المسلحة والأجهزة العسكرية والأمنية في خدمة الوطن العزيز تحت ظل القيادة الملهمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم القائد الأعلى- حفظه الله.