الأزمة في نيجيريا أعمق من مجرد حرب دينيّة
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
ترجمة: بدر الظفري
في أقل من 48 ساعة انتقل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من إعلانه عزمه تصنيف نيجيريا «بلدًا مثيرًا للقلق الخاص»، وهو توصيف تصدره وزارة الخارجية الأمريكية للدول التي تفشل في حماية حرية المعتقد إلى إعلان استعداده لتدخل عسكري لحماية المسيحيين هناك. هذه التحولات المفاجئة ليست غريبة عن سياسة ترامب، لكن تبنّيه المفاجئ لمبدأ «المسؤولية في الحماية» (أي التدخل الإنساني لحماية المدنيين) من شخص طالما عارض التدخلات العسكرية يمثل انعطافًا مذهلًا.
نعم؛ المسيحيون في بعض مناطق نيجيريا يتعرضون فعلًا للتهديد والقتل، وأنا أشهد بذلك بنفسي، لكن تصوير الأزمة النيجيرية بهذه الصورة وحدها يشوه الواقع المعقد والمأساوي على الأرض، وبناء سياسة أمريكية على مثل هذه الرؤية القاصرة، خصوصًا عندما قد يتعرض الجنود الأمريكيون للخطر، فلن يؤدي إلى نتائج إيجابية.
لقد عشت وعملت في نيجيريا لعدة سنوات، ودرست نزاعاتها، وأجريت مقابلات مع مجموعات مسلحة مختلفة. وأنا لا أنصح أحدًا بالتقليل من معاناة المسيحيين الذين تعرضوا لهجمات وحشية؛ فقد التقيت العديد من ضحاياها شخصيًا، لكنني رأيت أيضًا آثار العنف ذاته في المجتمعات المسلمة. تجاهل هذه الحقيقة يعني سوء فهم جوهر الأزمة.
من مسؤولين أمريكيين سابقين إلى الفاتيكان؛ حذّر كثيرون من اختزال الاضطرابات الأمنية المعقدة في نيجيريا إلى صراع ديني بحت. فالعنف استشرى في البلاد تحت حكومات متعاقبة، وتواجه نيجيريا اليوم جماعات مسلحة متعددة ذات أجندات مختلفة. جمعها كلها في خانة واحدة وردّ دوافعها إلى كراهية المسيحيين خطأ جسيم.
من الطبيعي أن يهتم العديد من الجمهوريين بمصير المسيحيين حول العالم، وقد كانت نيجيريا محور اهتمام جماعات الضغط المسيحية لسنوات. لكن هذا الاهتمام وضع إدارة ترامب أمام مأزق سياسي خارجي؛ فأحد أكبر مضطهدي المسيحيين في العالم هو الحزب الشيوعي الصيني بينما انشغل ترامب بالتفاوض مع الصين حول ملفات أخرى مثل المعادن الحيوية، ووقف تدفق مادة الفنتانيل المخدّرة.
أما إثارة ملف المعتقلين السياسيين في الصين فقد جرى تهميشها خلال تلك المحادثات. في المقابل؛ أنظمة أخرى فشلت أيضًا في حماية المسيحيين -كباكستان ومصر- نجحت في تجنّب تهديدات أمريكية بالتدخل العسكري؛ لأنها قدّمت نفسها كشركاء أساسيين في قضايا جيوسياسية حساسة، أو ببساطة لأنها أظهرت صورة القيادة القوية «المنفتحة على الأعمال».
ويبدو أن تصريحات ترامب الأخيرة جاءت كرد فعل عاطفي بعد مشاهدته تقريرًا على قناة فوكس نيوز عن المسيحيين في نيجيريا. وربما شعر هو ومستشاروه بأن نيجيريا ساحة يمكن للولايات المتحدة أن تستعرض فيها قوتها دفاعًا عن المسيحيين دون تكاليف سياسية كبيرة.
لكن تهديدات ترامب لن تجعل الحكومة النيجيرية توقف العنف بين عشية وضحاها؛ فالنخب السياسية في نيجيريا تتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن الفشل في مواجهة انعدام الأمن، إلا أن النزاعات هناك معقدة ومتعددة المستويات. فالبلاد ذات نظام شبه فيدرالي ومجتمع منقسم بشدة دينيًا، وأيضًا سياسيًا وعرقيًا ما يجعل من الصعب التوصل إلى توافق سياسي حول سياسات فعالة للحد من الصراع.
وسيظل الدين موضوعًا حاضرًا في العلاقات الأمريكية ـ النيجيرية. وليس في ذلك عيب بحد ذاته؛ فمن الإنصاف القول: إن نيجيريا بلد متديّن ومتعدد الأديان في الوقت نفسه؛ حيث التعايش بين المعتقدات أمر شائع وليس استثناءً. حين احتفلت بزواجي التقليدي كان بين أصدقائي المقرّبين كاثوليك وبروتستانت ومسلمون، لكن هذا التنوع لا يعني انسجامًا كاملًا كما يمكن لأي مراقب للانتخابات النيجيرية أن يدرك بسهولة؛ فالدين والعرق في نيجيريا هويتان سياسيتان متنافستان.
وعندما يركّز الرئيس الأمريكي على معاناة طائفة واحدة دون غيرها مرددًا الخطاب نفسه الذي تروّجه بعض الجماعات المسلحة فإنه لا يسيء فهم حقيقة المشكلة فحسب، بل يسهم في تعميق الانقسام داخل المجتمع النيجيري.
يمكن للمرء أن يتخيل ترامب «رجل الصفقات» وهو يتوصل إلى اتفاق جديد يعزز التعاون الأمني بين الولايات المتحدة ونيجيريا، لكن نجاح مثل هذا الاتفاق يعتمد على مبادرة نيجيريا نفسها. فإذا لم تكن فاعلة في صياغته، فقد يتحول «التعاون الأمني» إلى غطاء سياسي يتيح لترامب تنفيذ غارات جوية أو عمليات عسكرية داخل الأراضي النيجيرية ضد جماعات مسلحة. هذه العمليات لن تكون حاسمة في القضاء على المتمردين، لكنها قد تؤدي إلى نتيجة أخطر، وهي تأجيج التوترات الدينية في واحدة من أكثر الدول اكتظاظًا بالسكان في العالم.
أفضل ما يمكن للحكومة النيجيرية فعله هو أن تُصغي لشعبها؛ فواحدة من النقاط القليلة التي تجمع مختلف الطوائف الدينية هي الاتفاق على ضرورة وضع حد لانعدام الأمن. ومواجهة هذا الانفلات الأمني مباشرة بدل الانشغال بالمساومات السياسية المعتادة قبل انتخابات عام 2027 تمثّل أفضل وسيلة لكسب بعض الثقة من واشنطن ومن المواطنين في آنٍ واحد.
كما تحتاج نيجيريا إلى تحسين دبلوماسيتها؛ فإدارة ترامب يجب أن تفهم حجم المشكلة، وأن تقتنع بأن معالجتها تتطلب جهدًا ضخمًا ووقتًا طويلًا وربما أشكالًا متعددة من الدعم الدولي. وفي المقابل؛ على الحكومة النيجيرية أن تُظهر تقدمًا ملموسًا، لا أن تكتفي بالمناورات السياسية.
لقد كانت الأيام القليلة الماضية غريبة بالنسبة لأمريكي مهتم بعمق بمصير نيجيريا؛ إذ إن أقوى زعيم في العالم بات فجأة يولي اهتمامًا بالبلاد مشيرًا إلى العنف الذي ينبغي التصدي له، لكنه في الوقت نفسه يسيء فهم جذوره بشكل جوهري.
إن أي تدخل عسكري يقوم على تشخيص خاطئ لن ينقذ المسيحيين النيجيريين، بل سيزيد أزمات نيجيريا تعقيدًا، ويزجّ الولايات المتحدة في شبكة من النزاعات التي لا تمتلك الأدوات لحلها. ومن المؤكد أن قاعدة ترامب الشعبية رغم قلقها على مصير المسيحيين لا ترغب في تكرار مآسي مثل «سقوط الصقر الأسود» في الصومال أو تجربة ليبيا.
لقد نجح ترامب في لفت أنظار نيجيريا إليه، لكن إذا أراد استثمار هذا الاهتمام بطريقة تفيد النيجيريين حقًا، فعليه هو وفريقه أن يبلوروا سياسة أكثر وعيًا وعمقًا تعالج نيجيريا بوصفها دولة ذات تعقيدات حقيقية لا مجرد مسرحٍ أخلاقيٍّ يُستخدم لخطابات الحملة الانتخابية.
جيمس بارنيت: مرشّح لنيل الدكتوراه في جامعة أكسفورد وزميل غير مقيم في معهد هدسون
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی نیجیریا
إقرأ أيضاً:
التعليم وصناعة العقول
جاءت فكرة هذا الطرح بعد نقاشات قيّمة مع زملاء ورفاق الدرب حول مستقبل التعليم، ودوره في بناء الإنسان، وصناعة العقول القادرة على المنافسة عالميًا. تلك النقاشات أثارت تساؤلات جوهرية حول موقعنا في هذا العالم الذي يتغير بسرعة، وكيف يمكن أن يتحول التعليم من مجرد منظومة تقليدية إلى مشروع وطني لصناعة المستقبل، وما يلي هو رؤية شخصية تنبع من تلك الحوارات، وتعكس قناعة الكاتب بأن صناعة العقول تبدأ من المدرسة والجامعة والفكر التربوي قبل أن تكون في المصانع والمختبرات. أزعم أن صناعة العقول تبدأ من التعليم؛ حيث لم يعد التعليم مجرد فصول دراسية ومناهج تقليدية تُحشى في عقول الطلاب؛ بل أصبح ساحة لتشكيل المستقبل وصناعة العقول القادرة على المنافسة عالميًا، حين ننظر إلى تجارب بعض الدول نجد أن اليابان مثلًا اهتمت بدمج الأخلاق والانضباط مع العلوم والتكنولوجيا، بينما ركّزت سنغافورة على إعداد جيل متمكن في الرياضيات واللغات ومهارات التفكير مدعومًا بالتكنولوجيا والتعلم المدمج. هذه النماذج تعطينا إشارات مهمة؛ لكنها في النهاية تعكس واقع تلك الدول وأولوياتها، ولا يمكن نقلها بحذافيرها إلى بيئتنا. في المملكة نحتاج إلى نموذج تعليمي ينبع من هويتنا وأهدافنا، ويواكب في الوقت نفسه تحولات العالم. نحن نعيش مرحلة تسابق فيها الدول لتسخير الذكاء الاصطناعي والرقمنة في التعليم، والفرصة أمامنا أن نبني نظامًا مرنًا يستجيب لمتطلبات سوق العمل المحلي، ويربط الطالب منذ سنواته الأولى بواقع الاقتصاد والابتكار وريادة الأعمال. المرونة هنا تعني أن يكون الطالب قادرًا على اختيار مساره؛ سواء كان أكاديميًا أو مهنيًا، مع إمكانية التنقل بينهما. كما تعني أن يتوفر للمعلم أدوات رقمية تتيح له التعامل مع قدرات الطلاب المختلفة، وأن يجد الطالب منصات تعليمية ذكية تمده بالمحتوى المناسب لمستواه واهتماماته. ولم تعد قاعات الدراسة هي الحدود .. فالتعلم يمكن أن يحدث من خلال تطبيقات على الهاتف .. أو من خلال تعاون افتراضي مع طلاب من دول أخرى. التحدي الأكبر يكمن في إدارة هذا التحول. فبعض الأصوات ستتمسك بالنموذج التقليدي خشية المجهول وهناك تكلفة كبيرة لتطوير البنية الرقمية وتأهيل المعلمين. كما أن المرونة إذا لم تُضبط قد تخلق فجوة بين المدارس المجهزة والفقيرة. لكن هذه العقبات ليست مبررًا للتأخر بل هي حوافز لبذل مزيد من الجهد في التخطيط والتنفيذ . إن ما نحتاجه اليوم هو فلسفة تعليمية تجعل من الطالب محور العملية، وتضع أمامه مستقبلًا مفتوحًا على فرص لا تنتهي. فلسفة تُخرّج أجيالًا قادرة على خدمة الوطن والانفتاح على العالم. أجيال لا تكتفي بالحفظ والتلقين؛ بل تصنع وتبتكر وتساهم في تحقيق تطلعاتنا الوطنية. هكذا يصبح التعليم مشروعًا وطنيًا لصناعة المستقبل؛ لا مجرد شهادة تُعلق على الجدار.