موتى الفاشر لا يأكلون يا سيد فليتشر!
تاريخ النشر: 13th, November 2025 GMT
منذ أن تحولت مدينة الفاشر إلى مرآة دامية تختزل مأساة الحرب السودانية، وهذا الغزو الوحشي على أيدي تتار العصر ورعاتهم، توالت التقارير الأممية والحقوقية لتوثّق الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع المتمردة بحق المدنيين، في المدينة ومحيطها، وفي عدد من مدن وأرياف كردفان. وما ترتب على ذلك من هجرة قسرية ومعاناة وتبعات إنسانية تنوء بحملها الجبال.
هذه التقارير لم تعد محصورة في روايات الضحايا، أو شهادات المراقبين الميدانيين والفضائيات، بل باتت موثقة باعترافات قادة المليشيا أنفسهم في أكثر من مناسبة، ما وضع المجتمع الدولي أمام حرج بالغ، إلى جانب مسؤولياته القانونية والأخلاقية بموجب الميثاق.
لكن، وبرغم هذا التراكم الموثق للانتهاكات، ظل الرد الأممي باهتا ومتعثّرا وغائبا، وكأن الضمير الدولي في موات، وبات ينتقي ضحاياه بحسب خرائط الجغرافيا والجنس والمصالح، لا خرائط الإنسانية.
فبينما أوغلت المليشيا في أعمال القتل الجماعي، والإبادة العرقية، والاغتصاب، والتجويع القسري، والنهب المنظم، وتكرار هذه المشاهد الدامية، كانت بعثات الأمم المتحدة تكتفي ببيانات "القلق العميق" ونداءات "التهدئة والإدانة الخجولة"، من دون أن تُسمي الجناة أو تُطالب بمحاسبتهم بوضوح توجبه الأعراف والمواثيق الدولية.
وكأن المنظومات والشبكات الدولية التي تخرج هذه التقارير تأتي من كوكب خارج فضاء ما يجري في غزة وأوكرانيا، والمأساة في السودان تمضي إلى عامها الثالث، كثالث أكبر أزمة دولية.
زيارة فليتشر إلى السودان حملت في طياتها أكثر من دلالة، فهي تعبير عن اعتراف أممي متأخر بعمق الكارثة الإنسانية، وفي الوقت نفسه تضع المنظمة الدولية في موضع الحرج الفاجع
الحق الوطني وسيادة العدالةأمام هذا المشهد المثقل بالجرائم والخذلان والتواطؤ، جاء تحرك النيابة العامة السودانية خطوة في الاتجاه الصحيح، حين أعلنت فتح تحقيقات وطنية شاملة في الانتهاكات التي شهدتها دارفور، وكردفان، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
إعلانإن تمسك النائب العام بهذا الحق الوطني القانوني للتحقيق في الجرائم الواقعة على أرض السودان حصرا، يؤكد أن الدولة ما زالت قادرة على ممارسة سيادتها القضائية رغم الحرب، وأن العدالة الوطنية ليست ترفا مؤجلا، بل واجبا لا يسقط بالتقادم، لتترك أيضا خذلان العدالة الدولية إزاء ما يجري وصمة عار أخرى.
وتكتسب هذه التحقيقات بُعدا خاصا في ظل إصرار المليشيا على التمويه بمسميات مضللة كالحديث عن "حكومة موازية" أو "إدارة مدنية" في المناطق التي تسيطر عليها، في محاولة لشرعنة احتلالها الأرض وتغطية جرائمها بحق المدنيين، بالحرق والدفن في مقابر جماعية لطمس معالمها، وهو ما لا يمكن قبوله في ضوء القانون الدولي الإنساني والجنائي، ولا في منطق الدولة الحديثة.
زيارة توم فليتشر بين الأمل والحرجفي هذا التوقيت الدقيق، جاءت زيارة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر إلى السودان ولقاؤُه برئيس مجلس السيادة، لتكون الثانية لمسؤول أممي رفيع المستوى بعد زيارة مارتن غريفيث في مايو/أيار 2023، بعيد اندلاع الحرب.
وكلاهما بريطاني، ودولتهما هي حامل القلم ضد السودان ومصالحه في مجلس الأمن، وشريك الرباعية الأولى، والخماسية الحالية، وبلادنا لا تنسى آخر مشروع لها قضى عليه الفيتو الروسي كدليل دامغ على حلقة تآمر التاج البريطاني والإمعان في محاصرة السودان.
لكن الزيارة حملت في طياتها أكثر من دلالة، فهي تعبير عن اعتراف أممي متأخر بعمق الكارثة الإنسانية، وفي الوقت نفسه تضع المنظمة الدولية في موضع الحرج الفاجع؛ لأنها لم تتحرك بالجدية المطلوبة حين كان بإمكانها الحد من المأساة قبل أن تتفاقم.
وهي التي أصدرت القرار 2736 القاضي بفك الحصار عن الفاشر، ولها مبعوث شخصي للأمين العام للسودان، ولكنها آليات أضحت تستخدم للضغط السياسي، وتمرير المشروعات الخارجية التي تنال من سيادة البلاد وأمنها، وليست معنية بالضوائق والمعاناة الإنسانية وإيجاد الحلول العاجلة لها.
فمنذ أكثر من عام، كان الأمين العام للأمم المتحدة، قد طرح مبادرة لوقف إطلاق النار، رحبت بها حكومة السودان؛ حرصا على حماية المدنيين، بينما رفضها التمرد المسلح المدعوم خارجيا.
ذلك الرفض لم يُقابل حينها بأي موقف حازم من المنظمة، ما شجع المليشيا على التمادي في جرائمها، وترك الفاشر تواجه مصيرها وحدها بين حصار وتجويع ومجازر ممنهجة من واقع هذا الغزو الذي استخدم المسيرات والتقانة والغازات السامة.
الفاشر جرح في ضمير العالماليوم، وبعد ما يقارب العامين من المعاناة المتواصلة في الفاشر، تتكشّف للعالم فداحة ما جرى: مدينة منكوبة، ومئات الآلاف من المدنيين بين قتيل ومشرّد وجائع ومعتقل ومفقود، ومستشفيات مدمّرة، بلا غطاء أو دواء، ومخيمات لجوء تتكدّس بالنازحين وسط عجز أممي واضح، وفضيحة إنسانية كونية.
كل هذا يجري على مرأى من مجلس الأمن ووكالات الأمم المتحدة التي لم تترجم بياناتها إلى فعل إنساني يليق بحجم كارثة، حصدت أرواح أهل الفاشر بالتسييس والانتقائية، ونفوذ المال، وأجندات اللاعبين الكبار.
إن السودان، وهو يواجه هذا الواقع المأساوي القاسي، لا يطالب بأكثر من احترام سيادته وترابه وحرمات أمته وحقهم في العدالة، وأن تُعامل الأمم المتحدة شعبه بما تمليه مواثيق حماية المدنيين وحقوق الإنسان، لا بما تقتضيه الحسابات السياسية، أو الضغوط الإقليمية، والعدو الحقيقي يكشف عن ذاته وظلاماته كل صباح عبر أداته الوظيفية.
إعلانفالموقف الإنساني لا يُجزّأ، ومنظومة الأمم المتحدة لن تستعيد ثقة الشعوب ما لم تُظهر العدل والاتساق بين خطابها الإنساني، وممارستها الفعلية دون تمييز.
خاتمة
يبقى الحرج الأممي الأكبر أن الفاشر لم تعد مجرد مدينة منكوبة، بل شاهد إدانة على عجز النظام الدولي عن حماية الإنسان حين يُسحق تحت أقدام المليشيات، ومبادرات الخزي والعار التي تُنسج كغطاء وصائي مرفوض يعقّد الحلول، ويفاقم المعاناة، ويكافئ الجناة كما هي الرباعية.
وفي المقابل، فإن تمسك السودان بمسار العدالة والسيادة القانونية، هو الرد الحقيقي على فوضى السلاح، ورسالة واضحة بأن لا سلام بلا محاسبة، ولا إنسانية بلا احترام لحق الحياة والكرامة.
كما يتمسك بحقه الدستوري في دحر الأعداء، وإخراجهم إلى حيث أتوا، وحسمهم ميدانيا لإعادة الأمن والاستقرار بموجب التزاماته الدستورية والوطنية والأخلاقية تجاه شعبه، لأن الموتى لا يأكلون يا سيد توم فليتشر!؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات الأمم المتحدة أکثر من التی ت
إقرأ أيضاً:
نزوح جماعي من الفاشر وتحركات عسكرية متسارعة في السودان
أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من 82 ألف شخص فرّوا من مدينة الفاشر غربي السودان في موجة نزوح جماعي جديدة وسط ظروف إنسانية بالغة السوء، بينما وصفت شبكة أطباء السودان ما يجري هناك بأنه "جريمة إنسانية مكتملة الأركان".
وأكدت الشبكة الطبية غير الحكومية أن آلاف المدنيين محتجزون قسرا تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ويعيشون في ظروف قاسية مع انعدام تام لمقومات الحياة، مشيرة إلى انتهاكات جسيمة بحق النساء والفتيات، بينها حالات اغتصاب واعتداءات بدنية، في ظل غياب الحماية القانونية والرقابة الإنسانية.
وفي السياق ذاته، دعا مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى تحرك دولي عاجل لوقف "الفظائع المروّعة" في الفاشر، محذرا من الانتظار حتى يُعلن الوضع "إبادة جماعية". وأشار إلى تقارير عن قتل جماعي وعنف عرقي واغتصاب جماعي، مؤكدا أن الحصار الذي سبق السيطرة على المدينة كان في حد ذاته "جريمة فظيعة".
من ناحية أخرى، تحدث مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن عجز كبير في تمويل خطته للاستجابة الإنسانية في السودان لعام 2025، وقال إن المتطلبات الإجمالية للخطة تبلغ 4.16 مليارات دولار، في حين أن نسبة التمويل بلغت 28.3% فقط بفجوة تمويلية قدرها 2.98 مليار دولار
من جهته، نعى مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الطبيب آدم إبراهيم إسماعيل الذي أعدمته قوات الدعم السريع ميدانيا في الفاشر.
وقال غيبريسوس في تدوينة عبر منصة إكس "تنعى منظمة الصحة العالمية الطبيب آدم إبراهيم إسماعيل، وتطالب بوقف العنف ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية".
على صعيد متصل، حذر المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن نحو 30 مليون شخص بحاجة للمساعدة في السودان.
كما ارتفع عدد النازحين من دارفور وكردفان إلى 57 ألفا في مدينة الدبة بالولاية الشمالية، بينهم أكثر من 500 أسرة من مدينة بارا، يجري نقلهم إلى المخيم الرئيسي في العفاض شرقي المدينة.
تحركات الجيش
ميدانيا، أفاد مصدر عسكري للجزيرة بأن مسيرة تابعة لقوات الدعم السريع استهدفت بلدة أم برمبيطة بولاية جنوب كردفان قرب حامية الجيش دون أن تحقق خسائر.
إعلانفي المقابل، أعلن الجيش السوداني أنه سيواصل عملياته للوصول إلى دارفور، حيث قال مساعد قائد الجيش ياسر العطا إن ما يجري هو استجابة لإرادة الشعب ومؤسسته العسكرية، مؤكدا أن الجيش ليس داعيا للحرب بل يعمل من أجل أمن الوطن وسلامته.
وتعهد حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي بالتحرك غربا لتحرير السودان، فيما أكد عبد العزيز عشر، مستشار رئيس حركة العدل والمساواة، أن القوات المشتركة ستقاتل إلى جانب الجيش في خندق واحد.
في المقابل، اعتبر مستشار قائد قوات الدعم السريع الباشا طبيق أن تصريحات الجيش تمثل إعادة إنتاج لنهج قديم قائم على منطق الحرب والمكاسب السياسية، داعيا إلى تحالف وطني حقيقي يقدّم حلولا سياسية تعالج جذور الأزمة.