كتاب يفكك المفاهيم المؤسسة للعلاقة بين الإنسان والمعلومة في ما بعد الرقمية
تاريخ النشر: 14th, November 2025 GMT
الكتاب: فلسفة الذكاء والحقيقة في علاقة الانسان بالمدار المعلوماتي
الكاتب: الدكتور عبد السلام الزبيدي
الناشر: سوتوميديا للنشر 2025
عدد الصفحات: 448 صفحة
في عالم يتسارع فيه إيقاع التحولات بوتيرة تفوق قدرة وعينا على استيعابها، لم تعد الأسئلة الكبرى للفلسفة المعاصرة تدور حول المعرفة وحدها، بل حول كيف يعاد تشكيل الإنسان ذاته في زمن ما بعد الرقمية.
في هذا السياق، يقدم الدكتور عبد السلام الزبيدي في كتابه "فلسفة الذكاء والحقيقة في علاقة الإنسان بالمدار المعلوماتي" (سوتوميديا للنشر، 2025، 448 صفحة) محاولة فلسفية جريئة لفهم التحولات العميقة التي يعيشها الإنسان المعاصر: انتقاله من كونه صانعًا للمعرفة إلى كائنٍ يعيش داخل مدار معلوماتي ضخم تتشابك فيه الذوات والآلات والبيانات ضمن حركة مستمرة تتجاوز وعيه.
إن هذه القراءة التي يقدمها عامر عياد لـ "عربي21" لا تهدف إلى تلخيص الكتاب، ولا إلى عرض تقني لأفكاره، بل إلى تفكيك بنيته الفلسفية العميقة واستكشاف رهاناته الأنطولوجية والمعرفية والأخلاقية. فهي قراءة تحاول أن تضع القارئ أمام التساؤلات الجوهرية التي يطرحها الزبيدي: ما الذي يعنيه أن نعيش في فضاء تُنتج فيه الحقيقة عبر عمليات حسابية؟ كيف نحافظ على الذكاء الإنساني في مواجهة الذكاء الخوارزمي؟ وهل يمكن للإنسان أن يحتفظ بقدرة التأمل والدهشة والسؤال في زمن تُستبدل فيه الحكمة بالمعلومة، والتجربة بالبيانات؟
من خلال هذه القراءة الخاصة بـ "عربي21"،والتي ننشرها في حلقتين، نسعى إلى تأسيس أرضية فلسفية لفهم التحولات الكبرى في علاقة الإنسان بالمعلومة والذكاء والحقيقة، قبل الانتقال إلى تحليل مفاهيمه المركزية: المدار المعلوماتي، إعادة تعريف الحقيقة، الذكاء البشري مقابل الذكاء الصناعي، انتقال السلطة المعرفية، والنقد التأويلي للحداثة الرقمية.
إنها قراءة تهدف إلى طرح سؤال أعمق: هل سيظل الإنسان فاعلًا معرفيًا وقيميًا في عالم تتقدم فيه الخوارزميات بسرعة، أم أنه سيصبح مستهلكًا للمعرفة، مجرد امتداد للآلة؟ ومهما يكن الجواب، فإن مشروع الزبيدي يفرض على الفكر المعاصر أن يعيد تأمل مكان الإنسان في عصر المعلومات، وأن يفكر في انسجامه الوجودي داخل عالم تُصنع فيه الحقيقة قبل أن يُدركها.
الإنسان في عالم المدار المعلوماتي
لم يعد العالم الذي نعيش فيه نسخةً مطوّرة من الماضي، بل أفقًا معرفيًا جديدًا يتجاوز كل ما عرفه الإنسان من قبل. فمنذ أن دخلت البشرية عصر الرقمية، لم يَعُد السؤال الفلسفي يدور حول "كيف نستخدم التقنية؟" بل حول "كيف تُعيد التقنيةُ تشكيل إنسانيتنا؟". في هذا السياق، يظهر كتاب الدكتور عبد السلام الزبيدي "الذكاء والحقيقة في علاقة الإنسان بالمدار المعلوماتي" كمحاولة فلسفية جريئة لإعادة التفكير في موقع الإنسان داخل هذا التحول الكوني الذي تسير فيه المعلومة بسرعة تفوق قدرة الوعي على إدراك مساراتها.
لعلّ التحدي الأكبر الذي يطرحه هذا الواقع الجديد هو أنّ الحقيقة نفسها ـ تلك التي كانت تُفهم عبر التجربة والوعي واللغة ـ بدأت تتخذ معاني مختلفة في عصر الحساب، والكفاءة، والسرعة. صارت الحقيقة تُقاس بمدى دقتها الإحصائية، أو قابليتها للتحقق الرقمي، أو قدرتها على التنبؤ، في حين أصبحت التجربة الإنسانية، بما تحمله من توتر وقلق وتأمل، هامشًا قد لا يعترف به النظام الخوارزمي بوصفه "معرفة مفيدة".لقد انتقلنا ـ دون أن ننتبه في كثير من الأحيان ـ من عصرٍ كانت المعرفة فيه ثمرة جهد شخصي، وتأمل واعٍ، وانخراط وجودي، إلى زمنٍ أصبحت فيه المعرفة تنتج من خلال شبكات معلوماتية تتفاعل فيما بينها باستمرار، وتعيد تكوين الحقيقة عبر الخوارزميات والبيانات. لم يعد الإنسان مركز المعرفة كما تصوره العقل الحداثي، بل أصبح عنصرًا داخل "مدار معلوماتي" ضخم، تتشابك فيه الذوات والآلات والرموز ضمن حركة دائمة لا تتوقف.
ولعلّ التحدي الأكبر الذي يطرحه هذا الواقع الجديد هو أنّ الحقيقة نفسها ـ تلك التي كانت تُفهم عبر التجربة والوعي واللغة ـ بدأت تتخذ معاني مختلفة في عصر الحساب، والكفاءة، والسرعة. صارت الحقيقة تُقاس بمدى دقتها الإحصائية، أو قابليتها للتحقق الرقمي، أو قدرتها على التنبؤ، في حين أصبحت التجربة الإنسانية، بما تحمله من توتر وقلق وتأمل، هامشًا قد لا يعترف به النظام الخوارزمي بوصفه "معرفة مفيدة".
من هنا تأتي أهمية مشروع الزبيدي: فهو لا ينظر إلى التقنية نظرةً خارجية، ولا يتعامل معها كأداة محايدة، بل يتعامل معها بوصفها واقعًا أنطولوجيًا يعيد تشكيل علاقتنا بذواتنا وبالآخرين وبالحقيقة ذاتها. فالمدار المعلوماتي، كما يصفه، ليس مجرد فضاء رقمي، بل طريقة جديدة للوجود، طريقة تُعيد توزيع أدوار الفاعلين داخل العالم، بحيث يصبح الإنسان كائنًا يعيش في حالة تفاعل دائم مع تدفق المعلومات، بدل أن يكون هو من يتحكم بها أو ينتجها وفق وعيه الذاتي.
ما الذي يعنيه أن نعيش داخل فضاء تُنتج فيه الحقيقة عبر عمليات حسابية؟ ما مصير الذكاء البشري حين تظهر أنظمة قادرة على التعلم والتفكير واتخاذ القرار؟ هل يمكن الحفاظ على إنسانية المعرفة في عالم تتحكم فيه الخوارزميات في تدفق المعنى؟ هل سيظل الإنسان قادرًا على التأمل والدهشة والسؤال؟ أم سيصبح مُستهلكًا للمعرفة لا صانعًا لها؟
هذه الأسئلة ليست هامشية، بل تقع في قلب التحول الذي يدرسه الزبيدي. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرّد إنجاز تقني، بل مرآة تكشف حدود الذكاء البشري أيضًا، وتدفعنا إلى مساءلة ما كنّا نظنه ثابتًا: الوعي، القصدية، الحرية، الحقيقة، المعنى.
ولذلك فإن هذا البحث لا يحاول تلخيص أفكار الكتاب، بل يسعى إلى تفكيك البنية الفلسفية العميقة التي يقوم عليها مشروع الزبيدي، واستكشاف رهاناته الأنطولوجية والمعرفية والأخلاقية. فالكتاب ينتمي إلى حقل الفلسفة المعلوماتية، لكنه يتجاوزه إلى طرح سؤال أكثر أصلية: كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على انسجامه الوجودي داخل عالم يتقدم فيه “الذكاء الصناعي” بسرعة، بينما يتراجع فيه “الذكاء التأويلي” الذي يشكّل جوهر الوعي الإنساني؟
بمعنى آخر: كيف نحافظ على إنسانيتنا ونحن نعيش داخل نظام يصنع المعرفة بدل أن يبحث عنها، ويقدم الإجابات قبل أن نطرح الأسئلة؟
إن هذا المدخل لا يهدف إلى تقديم قراءة تقنية للكتاب، بل تأسيس أرضية فلسفية لفهم التحولات العميقة التي يناقشها الزبيدي، تمهيدًا لتحليل مفاهيمه المركزية: المدار المعلوماتي، إعادة تعريف الحقيقة، الذكاء البشري مقابل الذكاء الصناعي، انتقال السلطة المعرفية، والنقد التأويلي للحداثة الرقمية.
بهذا، يصبح التمهيد مقدمة لسؤال أكبر: هل سيتحول الإنسان إلى امتداد للآلة؟ أم سيعيد اكتشاف ذاته عبر وعيٍ جديد يزاوج بين التقنية والمعنى؟
المدار المعلوماتي.. من نظام تقنية إلى بنية وجودية جديدة
يمثّل مفهوم "المدار المعلوماتي" أحد المفاتيح النظرية الأكثر مركزية في كتاب عبد السلام الزبيدي، ليس فقط لأنه يقدّم توصيفًا للبيئة الرقمية، بل لأنه يحوّله إلى إطار كوني جديد يعيد تعريف علاقة الإنسان بالعالم والحقيقة والذات. فالمدار المعلوماتي، في تصور الزبيدي، ليس مجرد شبكة اتصالات كونية، وليس بيئة تقنية محايدة، بل هو نسق شامل يدمج التقنية والإنسان والمعرفة في سيرورة واحدة، بحيث يصبح الوجود البشري ذاته محمولًا على شبكات البيانات والخوارزميات، ومرتهنًا لمنطقها الداخلي.
هنا يتجاوز الزبيدي المقاربة السوسيولوجية أو الإعلامية التقليدية، ويذهب نحو إعادة بناء أنطولوجيا جديدة للإنسان في زمن ما بعد الرقمية؛ أنطولوجيا لا يمكن فهمها خارج التحولات التي أحدثها الفيض المعلوماتي، داخل العقل والذاكرة والإدراك والقرار.
يُعرّف الزبيدي المدار المعلوماتي باعتباره الفضاء الذي تتولد داخله المعرفة وتنتقل وتُستهلك، لكن هذا التعريف البسيط يخفي تحته تعقيدًا عميقًا: فالمعلومة لم تعد مجرد محتوى يمكن تقييمه أو نقده، بل أصبحت وسطًا وجوديًا يعيش الفرد داخله. يشبّهها الزبيدي بـ"المناخ"، فهي ليست شيئًا نستخدمه، بل شيئًا يحيط بنا ويشكّل وعينا من الداخل. في هذا المستوى، يصبح الإنسان "كائنًا بياناتيًا" تحيط به تدفقات لا تنتهي من المعلومات، تتحرك باستمرار عبر أجهزة محمولة، ومنصات تواصل، وخوارزميات تحليل، ونظم ذكاء اصطناعي تعلّمية، بحيث يتغير شكل الوعي ذاته من القدرة على التفكير التأملي إلى قدرة على التفاعل اللحظي.
لقد انتقلنا من "المعرفة بوصفها رصيدًا" إلى "المعلومة بوصفها سيلًا"، ومن "الكتاب بوصفه أداة" إلى "الشبكة بوصفها بيئة"، ومن "الوعي بوصفه بناءً" إلى "الاستجابة بوصفها نمطًا للوجود".
ويشدّد الزبيدي على أن هذا المدار لا يعمل فقط عبر الإغراق المعلوماتي، بل حتى عبر تقنيات التصفية التي تمارسها الخوارزميات، فتمنح الفرد "معلومات مصمّمة له"، وتخفي عنه أخرى، مما يجعله يعيش داخل "فقاعة معرفية" تزداد انغلاقًا كلما ازداد تفاعله معها. هذه الفقاعة ليست مجرد أثر جانبي سلبي، بل هي قلب عمل النظام المعلوماتي، لأنها تمكّن الخوارزمية من التنبؤ بسلوك الفرد وتوجيهه. فالفرد لم يعد متلقيًا للمعلومة، بل أصبح "مادّة تتعلم منها الخوارزمية"، وهي مفارقة كبرى تقلب علاقة الإنسان بالمعرفة رأسًا على عقب: فبدل أن يتعلم الإنسان من العالم، أصبح العالم الرقمي هو الذي يتعلم من الإنسان كي يعيد تشكيله.
كما يذهب الزبيدي إلى أن المدار المعلوماتي ليس حياديًا، لأن السيطرة على المعلومات ليست مجرد سيطرة على المحتوى، بل سيطرة على إنتاج الحقيقة ذاتها. وهو يستعيد هنا الإرث الفوكوي حول علاقات القوة والمعرفة، لكن ضمن سياق جديد، حيث لم تعد القوة في يد الدولة أو المؤسسة فقط، بل في يد المنصات الرقمية العالمية التي تمتلك القدرة على “هندسة الإدراك”. فالحقيقة في المدار المعلوماتي ليست ما نصل إليه عبر الاستدلال أو البرهان، بل ما ينتجه النظام عبر آليات الترشيح والترتيب والتضخيم.
وهكذا تُعاد صياغة الحقيقة بما يخدم منطق المنصة، لا بما يخدم منطق الإنسان.
إن أخطر ما يشير إليه الزبيدي هو أن المدار المعلوماتي يميل إلى إلغاء المسافة بين الإنسان والمعلومة. ففي الثقافة الورقية، كانت هناك دائمًا مسافة: تفكر، تتأمل، تقرأ، تخطئ، تراجع. أما في النظام المعلوماتي، فإن المعلومة تأتي “مستعجلة، جاهزة، مُعالجة”، مما يلغي لحظة التأمل التي تُعد شرطًا لوجود الفكر.
هنا يتقاطع تحليل الزبيدي مع أطروحات هارتموت روزا حول "تسارع العالم"، ومع تحليلات بايومان حول "الحداثة السائلة"، لكن الزبيدي يذهب أبعد: التسارع ليس مجرد تحول اجتماعي، بل هو تعديل جذري في بنية الوعي، يجعل الإنسان يميل إلى ردود الأفعال السريعة بدلًا من بناء المواقف العميقة.
ويمثل تأثير المدار المعلوماتي على الذات أحد أكثر جوانب تحليل الزبيدي إدهاشًا: فالذات لم تعد تُبنى عبر خبرات حياتية طويلة، بل تُصنع من خلال "تعرض لحظي" لمعاني وصور ورموز متغيرة باستمرار، مما يجعل الهوية نفسها هشة، قابلة لإعادة التشكيل وفق إيقاع المنصة وخوارزمياتها.
ووفق هذا المنظور، يتبدل دور الإنسان من "منتج للمعنى" إلى "مستهلك له"، ومن "فاعل في العالم" إلى "كائن يُعاد تشكيله" عبر عمليات خفية: التوصيات، الترشيحات، إشعارات، موجات تفاعل، ترندات عابرة.
إن أخطر ما يشير إليه الزبيدي هو أن المدار المعلوماتي يميل إلى إلغاء المسافة بين الإنسان والمعلومة. ففي الثقافة الورقية، كانت هناك دائمًا مسافة: تفكر، تتأمل، تقرأ، تخطئ، تراجع. أما في النظام المعلوماتي، فإن المعلومة تأتي “مستعجلة، جاهزة، مُعالجة”، مما يلغي لحظة التأمل التي تُعد شرطًا لوجود الفكر.وفي هذا المستوى، يصبح المدار المعلوماتي ليس مجرد فضاء رقمي، بل إطارًا حضاريًا جديدًا يفرض قيمه الخاصة: السرعة بدل العمق، التفاعل بدل التفكير، الصور بدل المفاهيم، الحاضر الدائم بدل التاريخ، الحسابات الكمية بدل الفهم الكيفي.
إنه عالم تُستبدل فيه الحكمة بالمعلومة، والذاكرة بالمنصة، والوعي بالخوارزمية. وحين يتحدث الزبيدي عن "انزياح مركز الثقل من الإنسان إلى النظام الرقمي"، فهو يشير إلى هذه الأزمة العميقة: انهيار المعنى القديم للوعي البشري، وصعود “وعي هجيني” يتشارك فيه الإنسان مع الآلة.
بهذا، يصبح المدار المعلوماتي عند الزبيدي ليس توصيفًا لحقل معرفي جديد، بل تشخيصًا لمرحلة وجودية كاملة: مرحلة يصبح فيها الإنسان مهددًا بأن يفقد دوره التاريخي كفاعل معرفي وقيمي، ليغدو مجرد عنصر داخل شبكة كونية أكبر منه، تتعلم منه وتوجّهه وتعيد تشكيله.
الذكاء من القدرة الإنسانية إلى الذكاء الخوارزمي
يقدّم عبد السلام الزبيدي قراءة غير تقليدية لمفهوم "الذكاء"، محاولةً لردّه إلى جذوره الفلسفية قبل أن يتم اختزاله في الاختبارات النفسية أو الخوارزميات الرقمية. ففي قلب مشروعه يتأسس سؤال كبير: ما الذي يجعل الذكاء ذكاءً؟ هل هو القدرة على الحساب؟ أم القدرة على الفهم؟ أم القدرة على الحكم الأخلاقي؟ أم الاستعداد لإنتاج المعنى؟ أم القدرة على اتخاذ قرار متحرّر من الإكراهات التقنية؟
بهذا السؤال يعيد الزبيدي الذكاء إلى ساحته الأصلية، حيث لم يكن يومًا مجرد قدرة على معالجة المعلومات، بل كان دائمًا قدرة على فهم العالم، وعلى بناء وحدة بين التجربة والمعنى. ولهذا يصرّ على أن الذكاء الإنساني ليس “وظيفة”، بل “وجود”؛ ليس مهارة، بل علاقة كينونية بين الذات والعالم، قائمة على الحسّ والإدراك والذاكرة الحدثية واللغة والخيال.
لكن ظهور الذكاء الاصطناعي قلب هذا التصور رأسًا على عقب. فمع صعود الخوارزميات التعلّمية—وخاصة الشبكات العصبية العميقة—لم يعد الذكاء يشير حصريًا إلى الإنسان، بل صار قابلًا للاستنساخ عبر نظام قادر على التعلم من البيانات، والتعرّف على الأنماط، وتوليد الاستجابات. وهنا ينشأ الالتباس الذي يسعى الزبيدي إلى تفكيكه: هل يمكن للآلة أن تمتلك "ذكاءً" بالمعنى الإنساني؟ أم أنها تمتلك قدرة حسابية محضة وُسّعت حتى بلغت درجة تُشبه الذكاء شكليًا دون أن تطابقه جوهريًا؟
يرى الزبيدي أن أهم ما يميز الذكاء الاصطناعي هو أنه “ذكاء دون حضور”، أي أنه يؤدي وظائف معرفية دون أن يمتلك وعيًا بها أو قصدًا من ورائها. فهو لا يعرف العالم، بل يحلل بياناته؛ ولا يفهم المعنى، بل يتعرّف على الأنماط التي تعيد إنتاجه؛ ولا يعيش التجربة، بل يحاكي مخرجاتها الإحصائية. إنه ذكاء وظيفي لا وجودي، حسابي لا تأملي، احتمالي لا قيمي.
بهذا المعنى، الذكاء الاصطناعي ليس منافسًا للذكاء الإنساني، بل هو شيء آخر بالكامل: كفاءة بلا حكمة، قدرة دون مسؤولية، سرعة دون بصيرة.
لكن ما يجعل الذكاء الاصطناعي خطرًا، حسب الزبيدي، ليس افتقاره للوعي، بل قوة تأثيره على وعي الإنسان نفسه. فالذكاء الخوارزمي قادر على معالجة أحجام مهولة من البيانات بوقت لا يمكن للإنسان مجاراته، وقادر على توليد توصيات وتوقعات وقرارات قد تستبدل تدريجيًا قدرة الإنسان على التفكير. وهكذا ينشأ شكل جديد من "التواكل المعرفي": الفرد لا يبحث، بل ينتظر نتائج البحث؛ لا يستنتج، بل يكتفي بتوقعات الخوارزمية؛ لا يتذكر، بل يعهد ذاكرته للنظام الرقمي؛ لا يحاور العالم، بل يستهلك المعلومات.
إن الخطر الأكبر ليس أن تصبح الآلة "أذكى"، بل أن يصبح الإنسان "أقل تفكيرًا". فما يتراجع في المدار المعلوماتي ليس ذكاء الإنسان بل وظائفه العليا: التأمل، الحكم، ربط المعنى، إدراك السياق، اتخاذ القرار المستقل. هذه الوظائف، التي شكّلت تاريخيًا جوهر العقل البشري، تُنقل تدريجيًا إلى النظام الرقمي، فيتحول الإنسان من فاعل معرفي إلى مستهلك معرفي، ومن منتج للحقيقة إلى متلقٍّ لها.
يكشف الزبيدي أن جوهر التحول يكمن في انتقال الذكاء من البناء الداخلي للوعي إلى المعالجة الخارجية للبيانات. فالذكاء البشري يتخلّق داخل الذات عبر تجربة شخصية وخبرة حسية وانعكاس وجداني وعمل تطوري طويل، أما الذكاء الخوارزمي فيتخلّق خارج الذات، في فضاء غير بشري، داخل أنظمة لا تعرف المعنى لكنها تتقنه بصريًا وإحصائيًا.
هنا تكمن المفارقة: الخوارزمية قد تُنتج خطابًا "مفهومًا" دون أن "تفهمه"، في حين أن الإنسان قد يفهم العالم دون أن يتمكن من تنظيمه رياضيًا.
ويميز الزبيدي بين "القدرة على الأداء" (Performance) و"القدرة على الفهم" (Understanding)، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي ينتمي إلى الأولى، بينما الذكاء الإنساني ينتمي إلى الثانية. هذا التمييز يعيدنا إلى نقاش فلسفي قديم قاده هيدغر وسارتر ومرلو-بونتي، حول أن الوعي ليس وظيفة بل "وجود ـ في ـ العالم". فالإنسان لا يتعامل مع العالم كبيانات، بل كمعنى؛ لا يعيش من خلال الحساب بل من خلال التجربة. لذلك فإن القول بأن الذكاء الاصطناعي "ذكاء" هو في الحقيقة مجاز لغوي توسّع حتى أصبح يهدد بمحو الفروق الأنطولوجية بين الإنسان والآلة.. ومع تطور تعلم الآلة، يشير الزبيدي إلى خطر إضافي: أن الخوارزميات لم تعد مجرد أدوات، بل أصبحت بيئات حاكمة.
فالذكاء الاصطناعي الذي يُقترح كأداة للمساعدة في اتخاذ القرار، يتحول تدريجيًا إلى مرجع للقرار. والخوارزمية التي تُقصد لتسهيل خيارات المستخدم، تتحول إلى محدد لخِياراته. وهكذا يولد شكل جديد من السلطة غير المرئية: سلطة الحساب. إنها سلطة لا تُمارس بالقمع، بل بالتوجيه؛ لا تُعلن نفسها، بل تعمل من وراء الواجهة؛ لا تفرض الطاعة، بل تُغري بها.
ويُظهر الزبيدي أن الذكاء الاصطناعي يعمّق مفارقة مركزية: كلما أصبح النظام “أكثر ذكاءً”، أصبح الإنسان أقل سيطرة على ذكائه. فالعقل البشري الذي كان تاريخيًا سيد أدواته، يجد نفسه اليوم في مواجهة أدوات تتعلم منه لكنها لا تخضع له، تُساعده لكنها قد تتجاوزه، تخدمه لكنها قد تستبد به.
وهنا يتجلى السؤال الوجودي العميق الذي يطرحه الزبيدي: هل ما زال الإنسان مركز التحليل؟ أم أننا ندخل زمنًا يُعاد فيه توزيع الذكاء بين الإنسان والآلة؟ يُصر الزبيدي أن الحل ليس في رفض الذكاء الاصطناعي، بل في استعادة مفهوم الذكاء الإنساني. لا بوصفه قدرة تقنية، ولا بوصفه سرعة معالجة، بل كقدرة على الفهم والحكمة والمسؤولية والتمييز. فالذكاء بمعناه الإنساني هو القدرة على الامتناع، على التريث، على طرح سؤال لا تستطيع الخوارزمية طرحه لأنها لا تملك وعيًا أو قلقًا أو شكًا.
وهكذا يعيد الزبيدي الاعتبار لفكرة أن الذكاء الحقيقي لا يكمن في "الكفاءة"، بل في المعنى: في ما يربط المعرفة بالحرية، والقرار بالقيم، والوجود بالسؤال.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب الذاكرة السياسية تقارير كتب الكتاب عرض تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذکاء الاصطناعی الذکاء الإنسانی الذکاء البشری علاقة الإنسان ذکاء الإنسان بین الإنسان الإنسان من القدرة على الزبیدی أن أن الذکاء فی علاقة قدرة على لیس مجرد بل أصبح فی عالم من خلال دون أن لم یعد الذی ی عالم ت فی هذا التی ت ا یعیش لم تعد
إقرأ أيضاً:
بينما عيدروس الزبيدي يواصل الرفض والتمرد.. رئيس الحكومة يشترط العودة الى عدن مقابل الغاء قرارات عيدروس
كشفت مصادر سياسية مطلعة أن رئيس الوزراء اليمني، سالم صالح بن بريك، وضع إلغاء القرارات الصادرة عن عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزبيدي كشرط أساسي لعودته إلى العاصمة المؤقتة عدن، وذلك بعد أكثر من شهرين على مغادرته المدينة.
ووفقًا لما أورده الإعلامي عبدالله دوبله في حلقة برنامجه "من الآخر" مساء أمس، فإن بن بريك المتواجد في الرياض حاليا، يرفض التعاطي مع قرارات الزبيدي، ويعتبرها غير قانونية وغير دستورية، مطالبًا بإلغائها رسميًا وسحب التعيينات التي تمت بموجبها من مؤسسات الدولة.
وأضاف دوبله نقلاً عن مصادر مطلعة أن هذه القضية كانت محور نقاشات مطوّلة خلال اجتماعات مجلس القيادة الرئاسي الأخيرة، حيث طُرح مقترح بسحب أنصار الزبيدي الذين تم تمكينهم من مناصب حكومية بقرارات صادرة عنه دون تفويض رسمي.
إلا أن الزبيدي، بحسب المصادر، رفض التراجع عن قراراته، متمسكًا بشرعيتها السياسية، ومطالبًا الرئيس رشاد العليمي بإصدار قرارات رئاسية جديدة تُضفي عليها الصفة القانونية، وهو ما اعتبره البعض محاولة للالتفاف على الدستور وتقاسم النفوذ داخل مؤسسات الدولة.
وأشارت المعلومات إلى أن الرئيس العليمي، وبعد مشاورات مكثفة، حاول احتواء الخلاف بالتوصل إلى تفاهم "ترضية" بين أعضاء المجلس، يقضي بإصدار قرارات تعيين جديدة لأنصار كل عضو في مناصب حكومية مختلفة، في محاولة للحفاظ على توازنات السلطة داخل المجلس.
وتعود جذور الأزمة إلى قرارات أصدرها الزبيدي في 10 سبتمبر الماضي، تضمنت تعيينات في عدد من المناصب الحكومية خارج صلاحياته القانونية، تلاها قيامه بتمكين المعيّنين بالقوة داخل المؤسسات الرسمية. وفي أعقاب ذلك، غادر رئيس الوزراء عدن في 14 من الشهر ذاته، ولم يعد إليها حتى اليوم.
ويرى مراقبون أن هذه التطورات تعكس احتدام الخلافات داخل مجلس القيادة الرئاسي، وتُظهر هشاشة التوافق بين مكوناته، ما قد ينعكس سلبًا على أداء الحكومة ومسار الإصلاحات الاقتصادية التي تشترطها الجهات الدولية الداعمة لليمن.