د. عبدالله الغذامي يكتب: خسائر الثقافة
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
حين صدر كتاب العروي (السنة والإصلاح) تركت كل ما بيدي لقراءته، وأحسست فوراً بأني أقرأ كتاباً ليس من نوعية كتب العروي، فالكتاب قام على سؤال ربما يكون افتراضياً من سيدة أميركية أغراه بالإجابة عن ذاك السؤال، ومضت الصفحات كلها تحت ضغط كونه جواباً عن سؤال، وشعوري كان نتيجةً لرهاني على العروي والبحث المفاهيمي الذي تمرّس فيه وإشكالاته المعرفية، ومن ثمَّ تمنيّت لو كان الكتاب بنية الغوص الإشكالي عن مفهوم الإصلاح، كما تقترح ذاكرتنا مع عقلية العروي مع المفاهيم، ومنها مفهوم العقل ومفهوم الحرية وغيرهما من المفاهيم التي تتصدر عناوينه، وهذا يحتّم حضور مفهوم الإصلاح، ليس فحسب لأنه يتّسق مع عقلية العروي وتوقعاتنا منه، بل أيضاً لأن مفهومي العقل والحرية لن يكتملا ما لم يدخلا في حال ممارسة هذه المفاهيم بعد تحريرها الفلسفي والمنطقي، وسيكون تمثلهما الواقعي هو مشروع الإصلاح حسب نسق الثقافة العربية، الذي يتجلى كذلك في كتابه عن الإصلاح، ولكنه انحرف من تأسيس المفهوم إلى إجابة مطولة عن سؤال.
هنا نشهد أن النية مطيةٌ كما في المثل، وكلنا تقوده نيته لرسم سلوكه ولرسم نظام تصوراته، ولذا فالعروي انطلق تحت مظنة أنه يجيب عن سؤال وبذلك فوّت فرصة ذهبية لطرح (مفهوم الإصلاح)، وهذه خسارة ثقافية خاصة مع باحث فذّ مثل العروي، ويشبه هذه الخسارة ما جرى للمفكر التونسي محمود المسعدي الذي قرر كتابة رواية فلسفية سماها (السد)، فوقع في حبائل نيته بين قوة معرفية فكرية ورغبة في جعلها سرديةً، ومن هنا ضاع كتابه في متاهة التلقي الروائي وليس في المعنى الفكري، فلا هو أغرى قراء الروايات الذين لم يتقبلوا روايته المتخمة فكرياً ومرجعياً، ولا هو دخل محيط الفكر، ولو كانت كتبه تحت المعنى الفكري لاحتل كتابه موقعاً بارزاً في الخطاب الفكري العربي.
وهنا نستحضر أمبرتو إيكو وموقفه السلبي من «السوشال ميديا»، رغم أنه سيميولوجي همه قراءة العلامات، وأخص إيكو بما أنه هو ورولان بارت أهم من طور السيمولوجيا من بعد أن تصورها دي سوسير وتركها مفتوحة للتطوير، ولكن بارت مضى قبل «السوشال ميديا»، ولو عاش فلا أظنه سيقع في غلطة إيكو بل سيقرأ علامات «تويتر» كما قرأ الثقافة اليابانية بوصف اليابان إمبراطورية العلامات. أما إيكو فأدركها وهي أهم علامات علاقات البشر مع حرية التعبير وفيها كان كتابي (تويتر، حرية التعبير أم مسؤولية التعبير)، وفيه وقفت على علامات تويتر، وكم هي خسارة ثقافية أن عزف إيكو عن هذه المهمة الحاذقة.
وقبلهم كلهم كان ابن خلدون حين كتب مقدمته العظيمة، وكانت مقدمةً لكتاب التاريخ، لكنه ما إن دخل للتاريخ حتى نسي المقدمة وما فيها من أفكار عن العمران كانت رائدة وخارقة للتوقع، غير أنه تحوّل مباشرةً لمؤرخٍ تقليدي لم تفده تجلياته الفكرية بشيء يغير عقلية المؤرخ، فخرج تاريخ ابن خلدون من ذاكرة الثقافة الفكرية، وظللنا نحيل للمقدمة دون كتاب العبر الذي لم يرق للمقدمة ولم يشتبك معها، وهذه خسارة عظمى لفوات فرصة قراءة ناقدة لتاريخنا، ولو حدثت لكانت ريادة نوعية فريدة.
تلك خسائر ثقافية كبرى وكما قال المتنبي هي من نوع عجز القادرين على التمام.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً: