عين ليبيا:
2025-12-02@22:03:32 GMT

ليبيا.. أزمةُ الإنسان قبل الدولة

تاريخ النشر: 3rd, December 2025 GMT

يمثل العامل الاجتماعي أحد أهم ركائز بناء الدولة الحديثة، إذ تتأسس المجتمعات على منظومات من القيم والعلاقات التي تربط بين أفرادها عبر الدين والمذهب والقبيلة والمصالح المشتركة، وفي الحالة الليبية، تتسم البنية الاجتماعية بدرجة عالية من التجانس؛ فغالبية السكان ينهلون من دين واحد ومذهب مالكي واحد، كما تحكمهم شبكة واسعة من العلاقات القائمة على القبيلة والنسب والمصاهرة، ما جعل المجتمع — في بنيته النظرية — قادرًا على التماسك ومواجهة التحديات.

غير أن هذا التجانس، بدل أن يتحول إلى قاعدة لبناء دولة عصرية، ظل حبيس البنى التقليدية في ظل غياب مشروع وطني قادر على تحويله إلى رصيد حضاري يعزز المدنية والمواطنة. وهنا بدأ الإشكال الذي شكّل جذور الأزمة الليبية الراهنة، إذ تحوّل الانتماء الاجتماعي في لحظات الأزمات إلى أداة للانقسام والاصطفاف، بدل أن يكون ركيزة للوحدة الوطنية.

التنمية الاجتماعية والثقافية:

من الفرص الضائعة إلى الهشاشة الحالية

على الرغم من محدودية الموارد في بدايات الدولة الليبية بعد الاستقلال، شرعت ليبيا مبكرًا في تأسيس مؤسسات التنمية، ثم تبنت التخطيط الخماسي منذ العام 1963، ليتوسع هذا التوجه في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات اعتمادًا على عوائد النفط. وقد مكّن هذا المسار الدولة من توفير السكن والتعليم والصحة وفرص العمل، ما أحدث قفزة اجتماعية وتنموية ملموسة خلال السبعينيات والثمانينيات.

لكن هذه الطفرة ركزت على البناء المادي وأغفلت البعد الثقافي والوعي المدني، ما أدى إلى فجوة واضحة بين مظاهر التحضر وسلوك المجتمع. فقد ظل المجتمع الليبي متأرجحًا بين الموروث القبلي والعادات التقليدية من جهة، ومقتضيات العصر وقيم الدولة الحديثة من جهة أخرى، دون عملية تحديث حقيقية قادرة على دمج التراث بقواعد المدنية. وزاد الأمر تعقيدًا حين اتخذت الدولة من القبيلة إطارًا لتوزيع المناصب والنفوذ بدل اعتماد الكفاءة، فترسخت المحسوبية، وضعفت مؤسسات الدولة، وأصبح العرف القبلي في كثير من الأحيان أقوى من سلطة القانون.

العوامل الاجتماعية العميقة للأزمة الليبية

لم تكن الأزمة الليبية مجرد صراع على السلطة، بل نتاج تراكم اجتماعي وثقافي ممتد لعقود:

القيم الاجتماعية المتحولة:
رغم وحدة الدين والمذهب، جرى توظيف الانتماءات القبلية والمناطقية للدفاع عن مصالح ضيقة، ما حوّل بعض الموروث الاجتماعي إلى حاجز أمام بناء الدولة المدنية. الاقتصاد الريعي النفطي:
خلق الاعتماد على عوائد النفط مجتمعًا متواكلًا، ورسّخ ثقافة انتظار الدولة بدل المبادرة الفردية، وانتشرت البطالة المقنعة والمحسوبية، فصار الريع النفطي مصدرًا لتوزيع النفوذ لا للتنمية الحقيقية. الهجرة الداخلية والتحولات العمرانية: أدى انتقال السكان من الريف إلى المدن دون سياسات حضرية واضحة إلى احتكاك بين أنماط اجتماعية مختلفة، وخلق تصادمًا بين الثقافة البدوية ونمط الحياة الحضرية، ما ولّد توتراً في البنية الاجتماعية. انهيار منظومة التعليم: غياب التربية المدنية عن المناهج، وضعف الخطاب الوطني، سمحا للفراغ الثقافي بأن يُملأ بالقبيلة والسلاح والخطاب المتشدد، بدل قيم الدولة والقانون. دور النخب والمثقفين: عوض أن يلعب الكثير منهم دورًا توعويًا إصلاحيًا، انحاز بعضهم إلى الاصطفافات الاجتماعية والسياسية الضيقة، ما أسهم في تكريس الانقسام بدل مقاومته، وأضعف وظيفة المثقف كقائد للوعي. الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي: ومع غياب الضوابط المهنية والأطر القانونية، تحولت هذه الأدوات من منصات لنشر المعرفة والتواصل إلى ساحات للاتهامات والتحريض والشائعات، فزاد خطاب الانفعال والتخوين، وتعمقت الفجوة بين المكونات الاجتماعية والسياسية، وتسارعت عملية الانقسام بدل تهدئتها. لم يكن الإعلام منشئًا للأزمة، لكنه أصبح وقودها الأسرع اشتعالًا.

أحداث 2011 وتفجر الشرخ الاجتماعي

أظهرت أحداث فبراير 2011 هشاشة البنية الاجتماعية الليبية؛ إذ لم يكن الانقسام سياسيًا فحسب، بل اجتماعيًا ومناطقيًا وقبليًا. ومع سقوط النظام، تصاعد منسوب الانتقام والإقصاء والتهجير، وانفرطت الروابط الاجتماعية التي لطالما شكلت ضابطًا للعلاقات بين الليبيين، فتعزز الشرخ وتعمقت الأزمة.

برز في أول اختبار مجتمعي لليبيين بعد عام 2011 انكشاف أزمة الوعي الجمعي، إذ بدأ كل طرف يرى في نفسه الأفضل، مرة من منظور شخصي، وأخرى من زاوية قبلية أو مناطقية، حتى وصل الأمر إلى نبش الأصول والإيحاء بأن هذا “أصيل” وذاك “دخيل”، وأن فئة ما هي الأحق بحكم ليبيا لأنها ـ حسب زعمها ـ تعرّضت للإقصاء، أو لأنها أحفاد المجاهدين وشيوخ القبائل. وبدل أن تتجه القوى الاجتماعية نحو الاندماج الوطني وصياغة مشروع جامع، عاد الخطاب إلى مربعات الانقسام، وتحوّلت الهوية من عامل قوة ووحدة إلى أداة تفرقة وصراع، تُقاس فيها الشرعية بمعايير الماضي لا بقدرة الحاضر على البناء.

إعادة البناء الاجتماعي: مدخل الحل الليبي

لن يخرج الليبيون من أزمتهم دون مشروع وطني يعيد ترتيب الأولويات ويعالج أساس الأزمة: الإنسان وثقافته. ويتطلب ذلك:

نشر الوعي المدني عبر برامج تعليمية وإعلامية جادة تعيد الاعتبار لقيم المواطنة والمسؤولية.

معالجة الظواهر الاجتماعية السلبية بخطط ممنهجة لا بردود أفعال آنية.

فرض سيادة القانون ونزع السلاح من خارج مؤسسات الدولة، خصوصًا في المناطق الملتهبة.

استثمار دور القبيلة في المصالحات الاجتماعية بما يخدم الدولة، لا أن يكون بديلًا عنها.

وفي هذا السياق، برزت مبادرة القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر، الداعية إلى أن يكون الحل «ليبيًّا–ليبيًّا»، والتي وجدت قبولًا واسعًا لدى القبائل والمجتمع المحلي، باعتبارها خطوة نحو استعادة القرار الوطني، وكسر حلقة التبعية للتدخلات الخارجية، وفتح الطريق أمام مشروع وطني جامع.

الأزمة الليبية ليست صراعًا بين أطراف سياسية فحسب، بل أزمة وعي وهوية وتنظيم اجتماعي. فالدولة لا تُبنى بالثروة، بل بالإنسان القادر على إدارتها، وبمجتمع يؤمن بقواعد القانون ويحمي وحدته. لذلك، فإن إعادة بناء الوعي الاجتماعي والثقافي هي الخطوة الأولى نحو دولة ليبية مستقرة، تتحول فيها المواطنة من شعار إلى ممارسة، وتصبح الدولة حقيقة لا فكرة مؤجلة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

إقرأ أيضاً:

معالي أبو الحسن… الإنسان الذي جعل منه قرب الهاشميين أخلاقًا تمشي على الأرض

صراحة نيوز-بقلم ماجد ابورمان

إفتتحنا يومنا أنا ورفيقة الدرب هذا الصباح مبكراً مع معالي أبوالحسن احتسينا معه الزنجبيل بالليمون والعسل، لم يكن اللقاء بروتوكولًا؛ كان تذكيرًا بسيطًا بأن بعض المسؤولين يملكون شيئًا أعمق من السلطة: طمأنينة تُشعر الجالس أمامهم بأنه مرئيّ، مسموع، ومعتبر.
ثمة رجالٌ لا يعرّفهم المنصب، بل يفضحهم الجوهر. ومعالي أبو الحسن واحدٌ من أولئك الذين خرجوا من مدرسة الهاشميين لا بامتيازٍ رسميّ، بل بلياقةٍ إنسانيةٍ نادرة؛ ذلك النوع من الرقيّ الذي لا يُصنع في المكاتب، بل في القلوب التي عرفت معنى القرب من أهل الهيبة والرحمة معًا.

إنسانية أبو الحسن ليست سلوكًا مكتسبًا من خبرةٍ سياسية، بل جذوةٌ هادئة حملها من قرب الملوك؛ الهاشميين اللذين يؤمنون بأن “هيبة الدولة” لا تعلو على “كرامة المواطن”، وأن أعظم ما يقدمه المسؤول ليس خطابات ولا مؤتمرات، بل طمأنينةٌ حقيقية يشعر بها من يجلس أمامه

أبو الحسن ليس بابًا يُفتح للناس، بل صدرٌ.
ليس رئيساً للديوان،فقط بل امتدادٌ لروحٍ هاشميةٍ ترى في المواطن أصل الحكاية.

إنسانيته ليست صدفة، ولا زخرفة، بل أثرٌ تركه فيه من عاش بينهم ورأى كيف تُبنى الدولة من احترام الفرد، وكيف يكون الكِبَر الحقيقي في أن تظل بسيطًا مهما علت مكانتك.

ولذلك، حين يستقبلك، لا ترى منصبًا؛ ترى رجلًا تعلّم أن هيبة الدولة تبدأ من لحظة يبتسم فيها مسؤول لمواطن عادٍ، وأن أكبر الأبواب هو ذاك الذي لا يشعر الداخل إليه بالغربة.

معالي أبو الحسن…
ليس “منصبًا رفيعًا”، بل رُقيٌّ تربّى عند الهاشميين، وتحوّل بين يديه إلى إنسانيةٍ صافية تُشبههم.
#ماجدـابورمان

مقالات مشابهة

  • كيف تفاعلت منصات التواصل مع تصاعد أزمة أميركا وفنزويلا؟
  • سفير الاتحاد الأوروبي يؤكد دعم ليبيا في مواجهة أزمة الهجرة
  • ليبيا وبريطانيا تتفقان على دعم مشاريع «تمكين المرأة»
  • آصف ملحم: ملامح الأزمة الاقتصادية في روسيا حاليا تشبه أزمة 2008–2009
  • بالصور.. طلاب "من أجل مصر المركزية" بجامعة حلوان يستعرضون إنجازات الدولة في لقاء توعوي حول القضايا الاجتماعية
  • ندوة حوارية تبحث الأزمة الليبية بين تعقيدات الحاضر ومسارات المستقبل
  • معالي أبو الحسن… الإنسان الذي جعل منه قرب الهاشميين أخلاقًا تمشي على الأرض
  • كرة القدم تحت رحمة السياسة.. أمريكا تفرض حظرًا على سفر 12 دولة قبل المونديال
  • العليمي يرفع سقف التَّهديد ضدَّ الانتقاليِّ بعد تفجُّر أزمة جديدة في عدن