"إنّ العلم هو القوة التي تكشف للإنسان أسرار الكون، والتكنولوجيا هي اليد التي تُحوِّل هذا العلم إلى واقع" (الدكتور عبد القدير خان)

نقف اليوم أمام لحظة تاريخية غير مسبوقة، لحظة تتزحزح فيها موازين القوة من براميل النفط إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ومن أصابع اليد العاملة إلى مفاتيح الرقمنة والتحوّل التقني.

لقد أعاد الذكاء الاصطناعي تشكيل الاقتصاد العالمي بعمقٍ لا يمكن تجاهله؛ فلم يعد ممكنا فهم عالمنا الحديث دون إدراك أثره على الإنتاج، والتجارة، والسياسة، والدبلوماسية، والدفاع، وحتى الخدمات الدينية والاجتماعية.

فبحلول عام 2023 بلغ الأثر الاقتصادي العالمي للذكاء الاصطناعي أكثر من 4 تريليونات دولار، مع توقّعات ببلوغه نحو 15 تريليون دولار بحلول عام 2030. وعلى الرغم من أن 300 مليون وظيفة مكتبية أصبحت مهدّدة، فإن الذكاء الاصطناعي في المقابل أسهم في خلق 97 مليون وظيفة رقمية جديدة؛ في مشهد يكشف أنّ المستقبل لا ينتمي لمن يملك الموارد فقط، بل لمن يملك القدرة على توظيف العلم وتوجيهه. لقد استثمرت الولايات المتحدة حتى اليوم ما يقارب 250 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي، والصين نحو 60 مليار دولار سنويا، والإمارات 3 مليارات، فيما حدّدت السعودية ضمن "رؤية 2030" استثمارات تتجاوز 20 مليار دولار في هذا القطاع، الأمر الذي يجعل مساهمة الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي السعودي تصل إلى 12.4 في المئة وفي الإمارات إلى 14 في المئة بحلول 2030، وهي من أعلى النسب عالميا.

احتضان الذكاء الاصطناعي مسؤولية معرفية وأخلاقية في آن واحد. وإذا واصل الخليج هذا المسار بذكاء، فقد يصبح بحلول ثلاثينيات هذا القرن لاعبا محوريا على طاولة صناعة القرار التكنولوجي العالمي، لا موضوعا لقرارات الآخرين
وتشير مؤشرات الجاهزية الرقمية إلى تقدّم الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة، فيما تحتل الإمارات المرتبة 21 والسعودية 31 وقطر ضمن الأربعين عالميا. لقد غيّر الذكاء الاصطناعي البنية الاقتصادية في الخليج؛ فـ85 في المئة من المخالفات المرورية في دبي تصدر عبر كاميرات ذكية، و"مترو دبي" أكبر شبكة قطارات ذاتية القيادة في العالم، و"قطار الحرمين" يعمل بأنظمة تشغيل ذكية، وتحوّلت خدمات الهجرة والإقامات إلى روبوتات محادثة، واعتمدت "طيران الإمارات" على التشغيل الآلي بنسبة 50 في المئة في إجراءات السفر، بينما أصبحت 60 في المئة من وثائق المحاكم في الإمارات مُعالجة آليا.

وعلى الصعيد العالمي، فإنّ قطاعات التصنيع، والخدمات الصحية، والخدمات المصرفية، واللوجستيات، والأمن والدفاع، جميعها تنتقل من نموذج "القرار البشري" إلى نموذج "القرار الخوارزمي"، مع توقعات بتحقيق 1.3 تريليون دولار كفاءة إضافية في سلاسل الإمداد العالمية سنويا.

ويعكس الاعتماد المتزايد على الطائرات المسيّرة الذكية، وتحليل البيانات الدفاعية، والإنذار المبكر حقيقة جديدة: إن الحرب التقليدية تفقد معناها أمام قوة الذكاء الاصطناعي. ومن هنا يتعامل الخليج (السعودية والإمارات وقطر) مع الذكاء الاصطناعي ليس كأداة تقنية، بل كبنية تحتية للأمن القومي والقوة الجيو-اقتصادية. فمن "نيوم" إلى "سدايا" إلى "القمة العالمية للذكاء الاصطناعي"، ومن تطوير نماذج لغوية عربية ضخمة إلى تخريج نحو 40 ألف متخصص بحلول 2030، تتّجه السعودية بوضوح نحو أن تكون دولة منتِجة للتقنية لا مستهلكة لها.

وقد أدرك العلماء المسلمون الأوائل قيمة التجديد؛ فقال الخوارزمي: "غاية العلم اتخاذ القرار الصحيح"، وأكد ابن الهيثم أنّ "الحقيقة لا تُدرَك إلا بنور العقل"، فيما كتب ابن رشد: "إنّ رؤية الحقائق الجديدة بعيون قديمة نوعٌ من الظلم". تلك المبادئ تجعل من احتضان الذكاء الاصطناعي مسؤولية معرفية وأخلاقية في آن واحد. وإذا واصل الخليج هذا المسار بذكاء، فقد يصبح بحلول ثلاثينيات هذا القرن لاعبا محوريا على طاولة صناعة القرار التكنولوجي العالمي، لا موضوعا لقرارات الآخرين.

إنّ "رؤية السعودية 2030" والاستراتيجية الإماراتية القائمة على "الذكاء الاصطناعي أولا" تشكّلان ركيزتين تمهّدان لهذا الدور. وعند هذه النقطة يبرز سؤالان لا ثالث لهما، سؤالٌ قديم وسؤالٌ جديد، الأول: هل ستصبح الدول العربية، وفي مقدمتها الخليج، شريكا في بناء الحضارة الرقمية الصاعدة، أم ستكتفي بدور المتفرّج؟ والثاني: هل سيُمسكَ بزمام المستقبل من يملك النفط، أم من يملك الخوارزميات والبيانات؟ إنّ الذكاء الاصطناعي لا يمنح العرب فرصة للّحاق بالعالم فحسب، بل فرصة للمشاركة في صنع العالم نفسه؛ بشرط أن تختار المنطقة أن تكون "منتجا" لهذه التقنية، لا "مستهلكا" لها.

[email protected]
byrumaisa.com

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الذكاء الاصطناعي الخليج عربية الخليج عرب الذكاء الاصطناعي مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مقالات سياسة صحافة من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذکاء الاصطناعی فی المئة من یملک

إقرأ أيضاً:

ارتفاع صادرات الصين 5.9 في المئة في نوفمبر وهبوط الشحنات الأميركية 29 في المئة

تراجعت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة معظم العام، بينما قفزت الشحنات إلى جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والاتحاد الأوروبي.

عادت صادرات الصين إلى النمو في نوفمبر بعد انكماش غير متوقع في الشهر السابق، لكن الشحنات إلى الولايات المتحدة تراجعت بنحو 29% على أساس سنوي، مسجّلة للشهر الثامن على التوالي انخفاضات من خانتين. ووفق بيانات الجمارك الصادرة الاثنين، جاءت الصادرات في نوفمبر أعلى بنسبة 5,9% عن العام الماضي بالقيمة الدولارية، لتبلغ 330,3 مليار دولار (283,21 مليار يورو)، متجاوزة تقديرات الاقتصاديين ومشيراً إلى تحسّن مقارنة بانكماش نسبته 1,1% في أكتوبر. وفي دلالة على اتساع الفجوة بين مجمل الصادرات والواردات، أظهرت بيانات الجمارك أن الفائض التجاري للصين خلال الأشهر الـ 11 الأولى تجاوز حاجز تريليون دولار، ليبلغ نحو 1,08 تريليون دولار (925,99 مليار يورو)، وهو أعلى مستوى يُسجَّل في سنة واحدة ويفوق الفائض البالغ 992 مليار دولار في كامل عام 2024، استناداً إلى بيانات رسمية جمعتها "FactSet". وعلى الرغم من تراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة معظم العام، فقد قفزت الشحنات إلى وجهات أخرى، منها جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا والاتحاد الأوروبي. كما زادت واردات الصين في نوفمبر بنسبة 1,9% لتتجاوز 218,6 مليار دولار (187,38 مليار يورو)، وهو أفضل من نمو أكتوبر البالغ واحداً في المئة، رغم أن التراجع المستمر في قطاع العقارات لا يزال يضغط على إنفاق المستهلكين واستثمار الشركات.

اتفاق تجاري في أكتوبر

تم التوصل إلى هدنة تجارية لمدة عام بين الصين والولايات المتحدة خلال اجتماع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الصيني شي جينبينغ في أواخر أكتوبر في كوريا الجنوبية. وقد خفّضت الولايات المتحدة رسومها الجمركية على الصين، فيما وعدت بكين بوقف ضوابطها على صادرات المعادن النادرة. وقال كبير اقتصاديي "ING Bank" لمنطقة الصين الكبرى، لين سونغ، في تقرير: "من المرجح أن صادرات نوفمبر لم تعكس بعدُ بشكل كامل خفض الرسوم، وهو ما ينبغي أن يظهر أثره في الأشهر المقبلة".

وانكمش النشاط الصناعي في الصين للشهر الثامن على التوالي في نوفمبر، وفق مسح رسمي، وقال اقتصاديون إنه لا يزال من المبكر الجزم بوجود انتعاش حقيقي في الطلب الخارجي عقب الهدنة التجارية بين واشنطن وبكين. ومع بقاء الصادرات قوية، يتوقع الاقتصاديون عموماً أن تحقق الصين هدفها للنمو الاقتصادي عند نحو خمسة في المئة هذا العام.

دفعة نحو النمو

وكان القادة الصينيون قد حدّدوا التركيز على التصنيع المتقدم خلال السنوات الخمس المقبلة عقب اجتماع رفيع المستوى في أكتوبر. وبحسب وكالة أنباء "شينخوا"، عُقد يوم الاثنين اجتماع سنوي للتخطيط الاقتصادي برئاسة شي لوضع خطط النمو لعام 2026، فيما كرر القادة الصينيون التركيز على "تحقيق التقدم مع ضمان الاستقرار". وقال تشي لو، استراتيجي الأسواق العالمية لدى "BNP Paribas Asset Management"، إن بيئة التجارة العالمية المستقرة لن تدوم طويلاً، إذ إن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة "لا تزال في طريق مسدود" رغم هدنتهم التجارية المؤقتة. ومع ذلك، يرى بعض الاقتصاديين أن الصين ستواصل كسب حصة أكبر في سوق الصادرات خلال السنوات المقبلة. وتتوقع "Morgan Stanley" أنه بحلول 2030 ستصل حصة الصين من الصادرات العالمية إلى 16,5% ارتفاعاً من نحو 15% حالياً، مدفوعة بميزتها في التصنيع المتقدم وقطاعات عالية النمو مثل المركبات الكهربائية والروبوتات والبطاريات. وقال تشيتان أهيا، كبير اقتصاديي آسيا لدى "Morgan Stanley"، في مذكرة حديثة: "على الرغم من التوترات التجارية المستمرة واستمرار السياسات الحمائية واعتماد اقتصادات "G20" سياسات صناعية نشطة، نعتقد أن الصين ستكسب مزيداً من الحصة في سوق تصدير السلع العالمية".

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • لماذا تحتاج أمريكا إلى الخليج في معركة الذكاء الاصطناعي مع الصين؟
  • أمازون ومايكروسوفت تضخان استثمارات ضخمة بالهند تركز على الذكاء الاصطناعي
  • بيربليكسيتي: معظم الناس يستخدمون وكلاء الذكاء الاصطناعي للإنتاجية والتعلم
  • تصاعد المنافسة الإقليمية.. «بروكفيلد» وقطر تتحالفان لاستثمار 20 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي
  • إكسون موبيل تستهدف نمو أرباح بقيمة 25 مليار دولار وتسريع إنتاج النفط والغاز حتى 2030
  • IBM تستحوذ على Confluent بـ11 مليار دولار لتعزيز قدراتها في الذكاء الاصطناعي والبيانات الفورية
  • آي بي إم تشتري كونفلونت بصفقة بقيمة 11 مليار دولار لتعزيز عروض الذكاء الاصطناعي
  • ارتفاع صادرات الصين 5.9 في المئة في نوفمبر وهبوط الشحنات الأميركية 29 في المئة
  • معلومات الوزراء: تضاعف استهلاك الكهرباء بمراكز البيانات بحلول 2030 بسبب الذكاء الاصطناعي