دينا دياب تكتب: فلسطين فى القلب
تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT
الفن بجانب البندقية فى الدفاع عن القضية الفلسطينية
نادية لطفى وثقت مجزرة صبرا وشتيلا.. وغسان مطر نفذ عمليات سرية
الفن لا يقل تأثيرًا وفعالية عن الجيش، فكما يوجد قوات مسلحة حربية، يعتبر الفن قوات مسلحة إنسانية واجتماعية»، كلمة قالتها النجمة القديرة الراحلة نادية لطفى تعبيرًا عن دور الفن الحقيقى وقت الحرب، فدائمًا ماكانت القوة الناعمة داعمًا للشعوب فى حروبها، وظهر ذلك جليًا فى الدفاع عن القضية الفلسطينية لإيصال رسالة للعالم أجمع تبرز حق الشعب الفلسطينى فى حريته ومقاومته وحقه فى الأرض، وذلك فى ظل المخططات الإسرائيلية لفرض السيادة على أراض فلسطينية، وتزامنًا مع عملية «طوفان الأقصى» التى أسفرت حتى الآن عن استشهاد عدد كبير جدا من الفلسطينين وتحولت إلى حرب، نرصد فى هذا الملف دور الفنانين فى القضية الفلسطينية، والذى لم يتوقف فقط على قيامهم بأعمالهم الفنية، إلا أن الكثيرين منهم لم يكتفوا بهذا القدر وتجاوز عطائهم حدود الأعمال الفنية والغناء والتمثيل فشاركوا بأدوار دبلوماسية وضحوا بأعز الأحباب فداء لتراب الوطن وتحرير أراضيه.
أولهم النجمة نادية لطفى كان لها دور بارز فى القضية الفلسطينية، حيث سافرت إلى لبنان إبان الاجتياح الإسرائيلى عام 1982، وقضت أكثر من أسبوعين مع المقاومة الفلسطينية، وسجلت بنفسها العديد من الأفلام الوثائقية، ووصفها الشاعر الفلسطينى عزالدين المناصرة بـ«المرأة الشجاعة»، حيث رافقتهم لاحقًا فى سفينة «شمس المتوسط» اليونانية، والتى توجهت إلى ميناء طرطوس السورى عام 1982.
وما لم يُلاحظه الكثيرون، أن الفنانة القديرة كانت تحمل صورة نادرة لها جمعتها بالرئيس الراحل ياسر عرفات، تلك الصورة التى تحمل موقفًا ثابتًا لا ينساه التاريخ.
أيضاً الفنان غسان مطر قبل أن يتجه إلى المجال الفنى كان يعمل مناضلًا بإحدى حركات المقاومة الفلسطينية، وقد قام بتنفيذ العديد من العمليات السرية ضد إسرائيل، كان حلمه أن يكون ضابطًا فى جيش التحرير الفلسطينى، والذى تشكل فى بغداد عام 1958، غير أن اتهامه بأنه «محرض سياسي» جعله يبتعد عن المجال العسكرى.
وصف غسان مطر دوره فى تلك الفترة بأنه يمثل حلقة الوصل بين حركة فتح بجناحها العسكرى والإعلام اللبنانى، غير أن اهتمامه بالسياسة لم يحرمه الاقتراب من الفن، وروى الفنان «غسان مطر» تفاصيل تعرض أسرته الاغتيال فى منتصف الثمانينات بعد الاجتياح الإسرائيلى للبنان، حيث فقد والدته وزوجته وابنه جيفارا، ونجت ابنتان له من محاولة الاغتيال فى ليلة ما أسماها «حرب المخيمات» والتى بدأت فى لبنان عام 1985.
وأضاف غسان مطر قائلًا: «كان هناك خلاف عميق بين نظام حافظ الأسد وياسر عرفات «أبوعمار»، وكنت جزءًا من هذا الخلاف، إذ كنت المعلق السياسى فى الحرب ودائم الانتقاد للنظام السوري»، وأكد أنه فى بداية الأمر لم يكن يصدق اغتيال عائلته فقد كان أمر فى غاية الصعوبة بالنسبة له.
لم يتوقف إبداعه عند التمثيل بل امتد ليشمل التأليف أيضاً، حيث قدم فيلمه الأول الفلسطينى (الثائر) عام 1969.
أيضاً لعب النجم عمر الشريف دورا فى عملية السلام بين مصر وإسرائيل فى سبعينيات القرن الماضى، وفى أحد اللقاءات التليفزيونية كشف الفنان العالمى عن تفاصيل هذا الدور، والتى كانت تستهدف اتفاقية فلسطين.
وقال عمر الشريف إنه فى أحد الأيام وأثناء تواجده فى باريس فوجئ باتصال من الرئيس الراحل أنور السادات وسأله عن رأيه فى زيارته لإسرائيل وكيف سيستقبله اليهود فأجابه بأنه لا يعلم عن هذا الأمر، لذا طلب منه أن يجرى اتصالًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلى وقتها مناحم بيجين كى يسأله هذا السؤال.
توجه عمر الشريف إلى سفارة إسرائيل فى باريس وطلب من السفير الإسرائيلى أن يوصله بمناحم بيجن على الهاتف لأن لديه رسالة هامة له من الرئيس أنور السادات واستجاب السفير لطلبه وبالفعل تحدث الشريف مع رئيس الوزراء على الهاتف وأخبره بأنه عمر الشريف فنان مصر ليرد بيجن بأنه يعرفه ويشاهد أفلامه، ليسأله عمر الشريف ماذا لو أراد الرئيس السادات زيارة إسرائيل كيف سيتم استقباله وجاء رد بيجن «سيتم استقباله كالمسيح».
وتابع الشريف أنه بعد انتهاء المكالمة أخبر السادات بما جرى ليقرر الأخير تنفيذ مفاوضات السلام والاستعداد للزيارة التاريخية.
وتناول الفن المصرى العديد من الأعمال التى دعمت القضية وناهضت الاحتلال، فى مقدمتها السينما المصرية التى اهتمت منذ أفلام الأبيض والأسود بالقضية بأفلام تخصص لها أو بمشاهد ضمن أحداث العمل تشير وتتعمق فى القضية والصراع الدائرفى الأرض العربية الخالصة فمصر دائمًا حاضرة فى دعم الفلسطينيين سواء بمواقفها السياسية أو أعمالها السينمائية ومن أبرز الأفلام التى تناولت القضية الفلسطينية.
مع بدايات السينما المصرية فى أفلام الأبيض والأسود وبداية الصراع خرج لنا فيلم «أرض الأبطال» بطولة كوكا وعباس فارس وهو إنتاج عام 1953، وتدور أحداثه عن أجواء حرب فلسطين عام 1948، حيث يفاجأ أحد الشباب عندما يعلم أن والده الثرى قرر أن يتزوج الفتاة التى يحبها، ليقرر التطوع فى الجيش ويشترك فى الحرب، ليلتقى فى غزة بفتاة فلسطينية، ليقعا فى الحب ويقررا الزواج، فيقوم والده بتوريد أسلحة فاسدة إلى الجيش، وتسبب هذه الأسلحة فى فقدان نجله بصره فى إحدى العمليات.
وفى عام 1948، قدمت عزيزة أمير من إنتاجها أول فيلم عربى عن حرب فلسطين، هو «فتاة من فلسطين» من بطولة وإخراج محمود ذو الفقار، وقامت بدور الفتاة الفنانة السورية سعاد محمد، وكان الفيلم بمثابة مغامرة غير محسوبة لمنتجته وسط أفلام أثرياء الحرب الرديئة. ورغم ذلك فقد نال الفيلم حظًا من النجاح إلا أنه اتهم بضحالة الطرح، والتبسيط المخل، وعدم التعامل مع القضية الفلسطينية كما يليق.
سيدة الشاشة العربية قدمت أيضاً القضية الفلسطينية فى فيلم «الله معنا» الذى تم إنتاجه عام 1955 وتدور أحداثه عن قيام ضابط «عماد» بالذهاب للمشاركة فى حرب فلسطين، ويصاب خلالها ويتم بتر ذراعه، ليعود من الجرحى، وتكشف تفاصيل الفيلم عن أن هناك رجالًا وراء توريد الأسلحة الفاسدة للجيش، والفيلم من اخراج أحمد بدرخان وتأليف إحسان عبدالقدوس، وبطولة فاتن حمامة وعماد حمدى وماجدة حسين رياض ومحمود المليجى وعلوية جميل.
قدم أيضاً عمر الشريف وفاتن حمامة فيلما آخر عن القضية الفلسطينية وهو فيلم «أرض السلام» عام 1957 وتدور أحداثه حول تطوع شاب مصرى فدائى اتجه إلى فلسطين للمشاركة فى إحدى العمليات الفدائية داخل الأراضى المحتلة، ويتعرف الشاب على فتاة فلسطينية التى تساعده فى تنفيذ العمليات الفدائية، ويقرران التعاون معا لإنقاذ فلسطين من المخاطر، وهو من إخراج كمال الشيخ وبطولة فاتن حمامة وعمر الشريف.
من الأفلام التى تناولت القضية أيضاً بشكل حديث فيلم «أصحاب ولا بيزنس» عام 2001، عن الإعلاميين كريم وطارق بإحدى القنوات التليفزيونية، ويتنافسان على حملة إعلانات ضخمة لإحدى شركات الملابس لكن ميعاد الترشيحات للشركة يتصادف مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، فيبعث كريم لتسجيل برنامج عن الانتفاضة من باب مجاراة الأحداث، ويتعرف على أحد معجبيه فى فلسطين وهو الفدائى جهاد الذى يصحبه فى الرحلة ويوصيه بتصويره وهو يقوم بعلمية استشهادية لعرضها فى القناة التى يعمل بها فينقلب حال كريم وتتوالى الأحداث، والفيلم بطولة مصطفى قمر، وهانى سلامة وعمرو وأكد وطارق عبدالعزيز، وسامى العدل.
قدم المخرج يسرى نصر الله رواية «باب الشمس» لإلياس خورى فى فيلم سينمائى عام 2004 وتدور أحداثه عن ذهاب البطل الفلسطينى يونس إلى المقاومة، وتظل زوجته «نهيلة» فى قريتها بالجليل، ويتسلل من لبنان إلى الجليل ليقابل زوجته فى مغارة «باب الشمس»، وذلك خلال فترة الخمسينيات والستينيات، وشارك فى تمثيله باسم سمرة وطلال الجردى وعماد البيتم.
كما قدمت المخرجة الفلسطينية نجوى نجار فيلم «عيون الحرامية» عام 2014 عن قصة شاب قضى 10 سنوات فى المعتقل بعد عملية فدائية قام بها ضد مجموعة من جنود الكيان الصهيونى، وهو من بطولة خالد أبو النجا، ونسرين فاعور.
وقدم أيضاً الكاتب مدحت العدل فيلم «همام فى أمستردام» من خلال إحدى مشاهد الفيلم الذى تم إنتاجه عام 1999، فضمن المشاهد التى تجمع الشباب المصريين المغتربين بزميلهم الشاب الفلسطينى، كان مشهد الشجار بين بعضهم، ليقوم الفلسطينى بمحاولة لإنهاء هذا الشجار من خلال تشغيل أغنية الحلم العربى، التى بدورها تنهى الخلاف بين الأصدقاء المصريين، وتلفت انتباههم إلى ما هو أكبر وهو القضية الفلسطينية والفيلم بطولة محمد هنيدى وأحمد السقا ومحمود البزاوى وأحمد عيد وموناليزا
كما احتلت الأغنية مكانة بارزة فى التعبير عن القضية الفلسطينية، ومن أشهرها، زهرة المدائن، «يا قدس يا مدينة الصلاة»، هكذا بدأت الفنانة الكبيرة فيروز بصوتها الدافئ أغنية «زهرة المدائن»، والتى تحدثت خلالها عن عروبة فلسطين وصمود أهلها فى الدفاع عن أرضها، والأغنية من كلمات وألحان الأخوين رحبانى.
أيضاً اغنية المسيح وغناها العندليب عبدالحليم حافظ لأول مره فى مسرح البرتو هول فى لندن ليعبر عن القضية فى قلب اوروبا وعلى أكبر مسارحها، الحان بليغ حمدى، أيضاً اغنية «اخى جاوز الظالمون المدى» التى قدمها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب بعد نكسة 67. الحلم العربى، وهو من أشهر الأغانى التى تغنت خلال فترة التسعينيات هو أوبريت «الحلم العربى» الذى يعد أشهر الأغانى على مستوى الوطن العربى، ويتناول الأوبريت حلم الشعب العربى فى إقامة الوحدة العربية، وشارك بالأوبريت عدد كبير من النجوم من بينهم، نبيل شعيل، لطفى بوشناق، أصالة، إيهاب توفيق، والأوبريت من ألحان صلاحا لشرنوبى وحلمى بكر، وتوزيع حميد الشاعرى.
من أشهر الأغانى أيضاً أوبريت «القدس هترجع لنا»، والذى كان وقتها يعبر عن انتفاضة كبرى بعد استشهاد الطفل «محمد الدرة» الذى قتله جيش الاحتلال الإسرائيلى فى أحضان والده عام 2000 عن عمد، وشارك فى الأوبريت مجموعة كبيرة من نجوم الفن منهم، محمود ياسين وهدى سلطان ونادية لطفى وأحمد السقا وأحمد حلمى ومنى زكى وفاروق الفيشاوى، ومدحت صالح وخالد عجاج ومحمد محيى وهشام عباس، وغيرهم، وهو من ألحان رياض الهمشرى، وتوزيع حميد الشاعرى.
لم تقتصر انتفاضة فلسطين عام 2000 وقت استشهاد الطفل «محمد الدرة» على أوبريت القدس هترجع لنا فقط، لكن قدم الفنان هانى شاكر أغنية بعنوان «على باب القدس» وتكشف معاناة أهل فلسطين والقدس فى مواجهة الاحتلال الصهيونى، والأغنية من ألحان الموسيقار حسن أبوالسعود، القدس دى أرضنا قدمها عمرو دياب فى 2006، وهى من كلمات مجدى النجار، وألحان عمرو دياب، وأغنية عربية يا أرض فلسطين التى تغنت بها أمال ماهر وحققت نجاحًا كبيرًا.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الفن الجيش عمليات سرية المخططات الإسرائيلية الوطن عن القضیة الفلسطینیة عمر الشریف وهو من
إقرأ أيضاً:
جوزيف ناي.. مطلق الرصاصة الناعمة التي تقتل أيضا
"إن القوة مثل المناخ، يتحدَّث عنها الجميع ويعتمدون عليها، لكنّ القليلين هم مَن يفهمونها. في عصر المعلومات، ليس المُهم فقط أي جيش ينتصر، بل المُهم كذلك أي رواية تنتصر".
جوزيف نايفي وقت ما من خريف عام 1994، وقف عالم السياسة جوزيف ناي تحت أضواء النيون الباردة في غرفة اجتماعات بلا نوافذ داخل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، يتحدث عن مفهوم جعل كبار المسؤولين العسكريين يتململون في مقاعدهم.
لم يكن ناي، الذي عُين حديثًا ضمن إدارة الرئيس بيل كلينتون مساعدًا لوزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي، هناك للحديث عن ميزان الردع الصاروخي، أو إعادة تموضع القواعد العسكرية الأميركية، بل كان يعرض فكرة لا تنتمي إلى عالم البنتاغون، لكنها كانت في نظره أكثر استدامة وأعمق أثرًا: قوة الإقناع المستمدة من الثقافة، والقيم، والسردية. قال ناي موضحًا وهو ينظر إلى الضباط الأميركيين الكبار: "أكثر أشكال القوة فاعلية هي أن تجعل الآخرين يريدون ما تريده أنت".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل نشهد موت الشراكة بين أوروبا وأميركا؟list 2 of 2هل يهدم ترامب النظام العالمي؟end of listلم يكن هذا النمط من التفكير مألوفًا بين العسكريين الأميركيين. ومع ذلك، بدا ناي ببذلته الرسمية أقرب إلى أستاذ جامعي منه إلى مسؤول عسكري، وهو كذلك بالفعل. لم يكن ناي يحاول أن يظهر كمفكر ثوريّ، بل ربما أراد أن يقدم طرحًا يراه بديهيًا. ففي زمنٍ كانت فيه مطاعم الوجبات السريعة الأميركية تفتح أسرع من السفارات، وكانت أطباق الأقمار الصناعية تنقل برامج التلفزة الأميركية وأغاني مايكل جاكسون إلى الشقق في موسكو أو النوادي في القاهرة وتتبادلها الفتيات في بيروت والطلاب في جاكرتا.
إعلانآمن ناي بأن القوة الأميركية الحقيقية لا تكمن في حاملات الطائرات، بل في جاذبية الولايات المتحدة: في أفكارها، وثقافتها، ومؤسساتها. وأطلق على ذلك اسم "القوة الناعمة".
كان المفهوم غريبًا على العسكريين الأميركيين، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لناي، فقبل سبع سنوات من ذلك التاريخ، وتحديدا في عام 1987، أصدر المؤرخ البريطاني بول كينيدي كتابا عنوانه: "صعود وسقوط القوى العظمى"، تنبأ فيه بسقوط الولايات المتحدة لطغيان الإنفاق العسكري فيها على الاستثمار في وسائل الإنتاج داخل البلاد. حذّر كينيدي من أن الولايات المتحدة مثلها في ذلك مثل الاتحاد السوفياتي، ستُنفق على الجيش والتقنيات العسكرية إلى الحد الذي يضعف الدولة بالتدريج. عزز من قوة تحذير كينيدي ما كان الاتحاد السوفياتي يشهده حينها من اضطرابات انتهت بسقوط جدار برلين بعد ذلك بسنتين وتفكك الاتحاد عام 1990.
كانت النبوءة مرعبة للأميركيين، لذلك انبرى بعض ألمع مفكريهم في الرد على كينيدي، وجاء أقوى الردود في عام سقوط الاتحاد السوفياتي نفسه، حين أصدر جوزيف ناي كتابا بعنوان: "حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية".
في كتابه، حاجج ناي بأن الولايات المتحدة هي القوة رقم 1 في العالم، وستظل كذلك بلا منافس يلوح في الأفق، وأن السبب في ذلك هو سعيها للانتصار في مضمار القوة الناعمة. وبعد أحداث هجمات نيويورك وواشنطن (أحداث الحادي عشر من سبتمبر)، وعدة حروب خاضتها أميركا، أصدر ناي كتابه الذي يشرح فيه نظريته بالتفصيل: "القوة الناعمة: سبل النجاح في السياسة العالمية" والذي صدر عام 2005.
إعلانقبل الشروع في المزيد من الحديث عن ناي، يجدر القول إن هناك نظريتين تهيمنان على السياسة الدولية منذ مطلع القرن العشرين.
الواقعية، التي لا ترى في تدافع القوى الإقليمية وأضف خبر عاجل جديدالدولية سوى ما تُمليه موازين القوى، دون أي مساحة للبعد لأخلاقي، فالقوة وحدها هي ما يرسم ملامح النظام العالمي كما نعيشه، ولا يمكن للدول التأثير أو الهيمنة دون القوة، في حين لا يملك الضعفاء سوى التواؤم مع الواقع الذي يفرضه الأقوياء. وأما النظرية الثانية فهي المثالية الليبرالية، التي رأت النظام العالمي نتاج تفاعلات سياسية واجتماعية واقتصادية مُعقَّدة يصعُب اختزالها في القوة المادية، ومن ثمَّ تفتح مساحات للتفكير في مسائل الأخلاق والحريات، وتتيح احتواءها داخل إطار المؤسسات الدولية وسياساتها وخطابها، وتُمكِّننا من التفكير في مسألة السلام العالمي وإمكانية تحقيقه.
ومن بين قائمة طويلة من الأسماء الأميركية التي صنعت لنفسها صيتا ذائعا في عالم السياسة الدولية ونظرياته، مثل هنري كيسنجر وصمويل هنتِنغتون وجون ميرشايمر وزبيغنيو برِجينسكي ونعوم تشومسكي وفرانسيس فوكوياما، برز اسم جوزيف ناي بوصفه جسرا بين الواقعية والليبرالية، ورؤيته المُركَّبة للقوة بأنها تتكوَّن مما هو أكثر من القوة المادية الصلبة (العسكرية والاقتصادية على حدٍّ سواء)، وهي أطروحة شكَّلت إسهامه الفكري الأبرز بمفهومَيْ القوة الناعمة والقوة الذكية، ودورهما في قوة الدول الكبرى على الساحة العالمية.
رحل جوزيف ناي عن عالمنا قبل أسابيع، في الثامن من مايو/أيار الجاري، عن عمر ناهز 88 عاما، وفي نعيها لرحيله كتبت سوزان نوسِّل، الرئيسة التنفيذية السابقة لمنظمة "پِن أميركا" (PENAmerica)، في مجلة "فورين بوليسي" قائلة إن "جوزيف ناي أسهم بصياغة مفهوم القوة الناعمة في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية على مدار خمسة عقود، حيث كان مُتمسِّكا هو وحلفاؤه بفكرة مفادها أن أميركا لا تستطيع أن تحقق الكثير إلا إذا لعبت بأوراقها بحكمة عبر حشد الحلفاء الأقوياء، والحجج المقنعة، والتمسُّك بالأسس الأخلاقية، والتغلُّب على الخصوم في لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد"، في إشارة إلى مزيج القوة الصلبة (العسكرية) والمادية (الاقتصادية) والناعمة (الثقافية)، التي طالما اعتقد جوزيف ناي أن هيمنة الولايات المتحدة ارتكزت عليها معا.
إعلانباختصار، عرّف جوزيف ناي القوة الناعمة بأنها قدرتك على إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد. فهل نجحت الولايات المتحدة في ذلك؟
سيرة مُنظِّر الهيمنة الناعمة
"يمكنك فعل كل شيء بالحِراب، إلا الجلوس عليها".
شارل موريس تاليران، وزير خارجية فرنسا في عصر نابليونوُلِد جوزيف ناي يوم 19 يناير/كانون الثاني عام 1937 في بلدة زراعية صغيرة بولاية نيوجيرسي، وحصل على بكالوريوس التاريخ من جامعة برينستون المرموقة عام 1958، ثم درس في جامعة أوكسفورد قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد عام 1964 بعد أن كتبها تحت إشراف هنري كيسنجر.
وقد عُيِّن ناي في هيئة التدريس بهارفارد في العام نفسه، ثم شغل منصب مدير مركز العلوم والشؤون الدولية في كلية كينيدي للإدارة الحكومية بين عامي 1985-1990، والعميد المساعد للشؤون الدولية في الجامعة بين عامي 1992-1998، وعميد كلية كينيدي للإدارة الحكومية بين عامي 1995-2004.
وكان كتاب جوزيف ناي "القوة والترابط: السياسة العالمية في مرحلة انتقالية" مرجعا تاريخيا مهما في مضمونه وفي توقيت صدوره (1977)، حيث عُدَّ ناقدا للواقعية السائدة في الولايات المتحدة، التي دافع عنها وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. وقد انطلق ناي في كتابه من تجربة الولايات المتحدة في فيتنام وتجربة حظر النفط العربي عن الولايات المتحدة والدول الأوروبية على خلفية حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل، وجادل بأن الترابط العالمي المتزايد يطرح سلسلة من التحديات التي لا تخضع للقوة الاقتصادية أو العسكرية الحاسمة، بل تتطلب التعاون وبناء المؤسسات الجماعية. وبدأ ناي التأسيس لعدد من المفاهيم البديلة التي يمكنها أن تُعظِم من مصالح الدول بعيدا عن الإفراط في استخدام القوة العسكرية.
إعلانهنا، سلَّط ناي الضوء لأول مرة على مفهوم "القوة الناعمة"، الذي أشار فيه إلى قدرة الدول على تشكيل سياساتها وبناء توجهاتها من خلال قوة القدوة والتأثير الثقافي والإقناع الأخلاقي، بدلا من الإكراه الاقتصادي أو القوة العسكرية المباشرة.
وفي كتابه حتمية القيادة، أكد ناي أن الولايات المتحدة بقيمها الدستورية وشغفها بالابتكار التكنولوجي والفني تتمتع بموقع فريد يُمكّنها من الاستفادة من مصادر قوة أقل حِدّة من القوة العسكرية المعتمدة على ترسانات الأسلحة. ودافع ناي عن القوة الناعمة ودورها طوال مسيرته المهنية، وكان يؤمن بأن الولايات المتحدة تمتلك موارد أيديولوجية وثقافية ومؤسسية فريدة تُمكّنها من قيادة العالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
وأكَّد ناي أن القوة الناعمة لأي دولة تنبع أساسا من ثلاثة مصادر، هي ثقافتها وقيمها السياسية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسياساتها الشرعية، المبنية على وعي بمصالح الآخرين، والقبول المُتبادل بالشراكة بين الطرفيْن. وقال ناي إن القوة الناعمة هي الوجه الآخر لعُملة القوة الصلبة، فهي مُضاعِف للقوة، فالقوة الاقتصادية مُكمِّلة للقوة العسكرية لكنها تحتاج إلى بُعد ثقافي أيضا.
فقد رأى ناي أن الإمبراطورية الرومانية حافظت على استمراريتها بالاعتماد على قوتها العسكرية من جهة، وبفضل جاذبية الثقافة الرومانية من جهة أخرى، وكذلك انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية من جهة، وبفضل جاذبية أفكارها وقيمها من جهة ثانية.
في واحدة من محاضراته، أخرج ناي من جيبه كيسا من سكاكر "إم آند إمز"، وقال لطلابه إن هذه الحلوى هي التي جعلت المراهقين في برلين الشرقية يوجّهون مستقبلات الراديو نحو الغرب! لكن هذا المنطق تعرض لنقد شديد لاحقا.
فمثلا، في عام 2003، كتب المؤرخ نيال فيرغسون مقالا في مجلة "فورين بوليسي" قال فيه ساخرا: "الإشكالية مع مفهوم القوة الناعمة هي أنها، في الواقع، ناعمة! يمكنك أن ترى في كل أنحاء العالم الإسلامي أطفالا يستمتعون (أو يتمنون لو استطاعوا الاستمتاع) بشرب الكوكاكولا، وتناول وجبات ماكدونالدز، والاستماع لأغاني بريتني سبيرز، ومشاهدة أفلام توم كروز. لكن هل تجعلهم أيٌّ من هذه الأشياء يحبون الولايات المتحدة؟ للعجب، الإجابة لا!".
إعلانلم يكن ناي مدافعا نظريا فحسب عن دور القوة الناعمة والمؤسسات والمنظمات الدولية في تعزيز قدرات الدول، بل كان ممارسا عمليا لأفكاره ويتمتع بالمهارة اللازمة لوضعها موضع التنفيذ. وكان عنوان العديد من أعماله البحثية ومساهماته الفكرية يتضمن كلمة "قوة"، لكنه منذ عام 2004، وفي ظل إدارة جورج بوش الابن، أصبح مهموما بقضية تراجع دور ومكانة الولايات المتحدة بسبب اعتمادها المتزايد على القوة العسكرية وتزايد كراهية الثقافة الأميركية حول العالم (Anti-Americanism).
وقد خلص في مذكراته التي نشرها بعنوان "حياة في القرن الأميركي" إلى أن هيمنة الولايات المتحدة قد تستمر لبضعة عقود أخرى، لكنها ستبدو مختلفة عما كانت عليه في حياته، وكان مصدر قلقه الأكبر من العوامل الداخلية لهذا التراجع، التي قد تضر بالقوة الناعمة الأميركية، حيث قال إن القوة الأميركية "حتى لو ظلت مهيمنة في الخارج، فقد تفقد الدولة قِيمَها الداخلية وجاذبيتها للآخرين".
من ناي إلى ترامب: عصا وجزرة بدون عسل"إن الخطر الأكبر المحيق بقوة أميركا ليس الصين أو الإرهاب، بل فشلنا في الالتزام بقيمنا وحماية تحالفاتنا".
جوزيف نايفي 9 سبتمبر/أيلول الماضي، وفي استطلاع لآراء الخبراء في العلاقات الدولية حول ما يريدون توجيهه من رسائل للرئيس الأميركي القادم قبل إجراء انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني التي فاز بها فيما بعد المرشح الجمهوري دونالد ترامب لدورته الثانية، قال جوزيف ناي في رسالته: "سيدتي أو سيدي الرئيس، بصفتك رئيسا، ستحتاج إلى الاستثمار في القوة الناعمة الأميركية، أي القدرة على تحقيق ما تريده من خلال الجذب بدلا من الإكراه. عندما نشرتُ لأول مرة مقالا عن القوة الناعمة في مجلة السياسة الخارجية عام 1990، كان المفهوم جديدا، لكن السلوك كان قديما قِدَم التاريخ البشري، فبينما تسود القوة الصارمة للإكراه عادة على المدى القصير، فإن القوة الناعمة ضرورية لنجاح السياسة الخارجية على المدى البعيد".
قبل أسبوع واحد من وفاته، كتب جوزيف ناي ما نصه: "أخشى أن الرئيس ترامب لا يفهم القوة الناعمة، إذا كنا نعتقد أن القوة مزيج من العصا (العسكرية) والجزرة (الاقتصادية) والعسل (الناعمة)، فإن ترامب يتخلى عن العسل، ولكن إذا استطاع أن يجعل هذه العناصر الثلاثة تعزز بعضها بعضا، فسيُنجز الكثير. يمكّنك الاقتصاد أيضا من استخدام العصا والجزرة إذا كنت تتمتع بجاذبية العسل، ولذا، عندما تلغي شيئا مثل المساعدات الإنسانية من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أو تُسكِت صوت أميركا، فإنك تحرم نفسك من إحدى أدوات القوة الرئيسية".
قارن جوزيف ناي بين ترامب وعدد من الرؤساء السابقين قائلا: "على النقيض من توجهات ترامب، سعى وودرو ويلسون في بدايات القرن العشرين إلى سياسة خارجية كان من شأنها أن تجعل الديمقراطية آمنة في العالم، وحثّ جون كينيدي في الستينيات الأميركيين على التفكير فيما يمكنهم القيام به من أجل بقية العالم، فأنشأ فيلق السلام عام 1961، ومن بعده جعل جيمي كارتر حقوق الإنسان من الشواغل الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية، ثم استندت الإستراتيجية الدولية في عهد جورج بوش الأب إلى ركيزتين أساسيتين؛ هما قيادة مجتمع عالمي متنامٍ من الديمقراطيات، والترويج للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية". بيد أن كل ذلك أخذ يتآكل مع أحادية جورج بوش الابن وتدخُّلاته العسكرية، ثم الهيمنة الخشنة التي أخذ يُعبر عنها ترامب مع حلفائه قبل أعدائه.
إعلانكان ناي مهموما بمستقبل العالم، فقد حملت آخر أربعة مقالات كتبها جوزيف ناي عام 2025 على موقع "بروجيكت سِنديكيت" العناوين التالية: "هل سنشهد مزيدا من الانتشار النووي؟"، و"كيف يتغير النظام العالمي؟"، و"مستقبل النظام العالمي"، و"هل للعولمة مستقبل؟"، وظل يتساءل كيف للقوى الكبرى أن تسهم في تعزيز التعاون وترسيخ الجانب القيمي والديمقراطي، وقال في مقالته بعنوان "هل للعولمة مستقبل": "وجدت بعض الدراسات أن ملايين الوظائف فُقدت بسبب المنافسة الأجنبية، لكن هناك عامل آخر هو الأتمتة.
يجد القادة الشعبويون أن إلقاء اللوم على الأجانب أسهل من لوم الآلات. لقد أصبحت الهجرة في كل الديمقراطيات القضية التي يلجأ إليها الشعبويون. إن الاعتماد المتبادل بعيد المدى سيظل حقيقة من حقائق الحياة ما دام البشر يتنقلون مزودين بتكنولوجيا الاتصالات والنقل، وجذور العولمة الاقتصادية تمتد عبر قرون من الزمن. وما دمنا نملك التقنيات فسوف تستمر العولمة".
في مقالة "مستقبل النظام العالمي"، قال ناي: "ألقى دونالد ترمب بظلال كثيفة من الشك حول مستقبل النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي خطابات وعمليات تصويت حديثة في الأمم المتحدة انحازت إدارته إلى روسيا المعتدية التي غزت جارتها المُسالِمة أوكرانيا. وقد أثارت تهديداته بشأن الرسوم الجمركية تساؤلات حول تحالفات قائمة منذ أمد بعيد ومستقبل النظام التجاري العالمي، وتسبَّب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية في تقويض التعاون في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.
السؤال هو ما إذا كنا ندخل فترة جديدة تماما من التراجع الأميركي، أم أن هجمات إدارة ترامب الثانية على مؤسسات القرن الأميركي وتحالفاته ستُثبت كونها انحدارا دوريا آخر. قد لا نعرف قبل عام 2029".
جدَّد ناي مخاوفه من أثر سياسات ترامب على الولايات المتحدة وعلى مستقبل النظام الدولي في مقاله قبل الأخير، الذي جاء بعنوان "كيف يتغير النظام العالمي؟"، وذكر فيه أنه بعد الحرب العالمية الثانية استحوذت الولايات المتحدة على نصف الاقتصاد العالمي، لكن قوتها العسكرية كانت توازنها قوة الاتحاد السوفياتي. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، حظيت الولايات المتحدة بلحظة وجيزة باعتبارها "القطب الأوحد"، لكنها أفرطت في التوسع في الشرق الأوسط، في حين سمحت بسوء الإدارة المالية الذي بلغ ذروته في الأزمة المالية عام 2008.
إعلانوقال ناي: "بناء على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تعيش حالة انحدار، غيَّرت روسيا والصين سياساتهما، فأمر بوتين بغزو جورجيا عام 2008، واستعاضت الصين عن دبلوماسية دِنغ شياوبينغ الحذرة. وسمح نمو الصين الاقتصادي القوي بتمكينها من سد فجوة القوة مع أميركا.
ما دامت الولايات المتحدة حريصة على صيانة تحالفات قوية مع اليابان وأوروبا، فسوف يمثلون مجتمعين أكثر من نصف الاقتصاد العالمي، مقارنة بنحو 20% فقط تمثلها الصين وروسيا، فهل تصون إدارة ترمب هذا المصدر الفريد من نوعه لاستمرار قوة أميركا؟ لقد كانت الأعوام 1945 و1991 و2008 نقاط تحوُّل بارزة، وإذا أضاف المؤرخون في المستقبل عام 2025 إلى القائمة، فسوف يكون ذلك نتيجة لسياسة الولايات المتحدة، والجُرح الذي أحدثته بذاتها، وليس نتيجة لأي تطور حتمي".
حدود الواقعية-الليبرالية الرشيدة"إن الهيمنة، ولو بغطاء إنساني، تظل هيمنة".
إدوارد سعيدعمل جوزيف ناي في الحكومة الأميركية، حيث كان نائبا لوكيل وزارة الخارجية للمساعدات الأمنية والعلوم والتكنولوجيا في ظل إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر بين عامي 1977- 1979، ثم ترأس مجموعة مجلس الأمن القومي المعنية بحظر انتشار الأسلحة النووية، ومُنح جائزة الشرف المتميزة من وزارة الخارجية عام 1979، وكان رئيسا لمجلس الاستخبارات الوطني بين عامي 1993-1994 تحت إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، وحصل على ميدالية الخدمة المتميزة من مجتمع الاستخبارات، وبعد ذلك عُيِّن مساعدا لوزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية حتى عام 1995.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2014، عيَّنه وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مجلس الشؤون الخارجية أثناء رئاسة باراك أوباما، وهي مجموعة كانت تجتمع دوريا لمناقشة القضايا الإستراتيجية.
في كتابها الصادر عام 1999 بعنوان "الحرب الباردة الثقافية: الاستخبارات المركزية الأميركية وعالم الفنون والآداب"، كشفت الصحفية والمؤرخة البريطانية فرانسيس سوندرز عن جانب من خفايا صراع شنَّته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة عن طريق القوة الناعمة، باستخدام كُتاب ومثقفين في ساحات المسارح والجامعات وصفحات المجلات الأدبية، وهو نموذج أشاد به جوزيف ناي في كتابه عندما تحدث عن سياسات جون كينيدي. وقد كشفت سوندرز عن طبقة بارزة من المثقفين اليساريين اجتذبتها واشنطن آنذاك، وموَّلت نشاطاتها الأكاديمية والفنية لمناوءة النموذج الثقافي السوفياتي.
إعلانالقوة الناعمة التي نظَّر لها ناي إذن ليست إلا أداة من أدوات الهيمنة التي سعت إليها الولايات المتحدة، على عكس بعض القراءات التي عادة ما تعتبره ناقدا للهيمنة الخشنة، في حين أنه لا ينتقد سوى الاعتماد عليها دون غيرها ليس إلا، وهو أمر يتسق مع سجله الطويل في العمل الرسمي مع مؤسسات الأمن القومي والاستخبارات أثناء إدارات ديمقراطية بقيادة كارتر وكيلنتون وأوباما، ومن ثمَّ فهو يطرح تنظيرا مختلفا وأكثر ليبرالية للهيمنة الأميركية، لكنه لا ينتقدها في حد ذاتها، بل يشيد بها كونها هيمنة مُركَّبة في نظره، على عكس بعض الإمبراطوريات التي اعتمدت الهيمنة العسكرية بشكل شبه حصري، على غرار الإمبراطورية المغولية مثلا.
يُمكن اعتبار جوزيف ناي إذن مُنظِّرا واقعيا رشيدا أو ليبراليا مؤسسيا وثقافيا، لكنه لم يكن ناقد جذريا للسياسات الأميركية إلا حين حادت عن تعريفه هو للهيمنة، مثلما فعل الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، وكذلك إدارة جورج بوش الابن. لا ينقد ناي بما يكفي توزيع القوى الأميركية العسكرية والاقتصادية والثقافية حول العالم، إذ إن الحضور الناعم الثقافي والاقتصادي لطالما جنت ثماره دول حليفة في أوروبا وشرق آسيا بالأساس، في حين حصلت دول العالم الثالث على فتات المساعدات الأميركية، والقروض التي أثَّرت سلبا على دول مثل الأرجنتين وباكستان ومصر وسريلانكا.
في معظم دول الجنوب العالمي، حتى في ظل الإدارات الديمقراطية، تجسَّدت قوة واشنطن بوصفها عسكرية واقتصادية غير رشيدة، فساهمت الآلة العسكرية الأميركية في تقويض حق الشعوب في تقرير مصيرها كما فعلت في أفغانستان، وساهمت التحالفات الاقتصادية السطحية مع قطاعات صغيرة من النخب في ترسيخ الأزمات الاجتماعية، التي سرعان ما قادت إلى احتجاجات ضخمة مثل الثورات العربية عام 2011. في نهاية المطاف، يظل اسم جوزيف ناي مهما لفهم العقليات المختلفة داخل المؤسسات الأميركية الأكاديمية والحكومية على حدٍّ سواء، ولفهم تصوُّرات الديمقراطيين عن الهيمنة، وكذلك لفهم آفاق الخطاب الليبرالي الناقد للجمهوريين وحدوده في الوقت نفسه.
إعلانلذلك فإن كان ناي مختلفا عن صقور الجمهوريين والمحافظين الجدد، فهو لا يختلف عنهم في إدراكه لأهمية الهيمنة والسيطرة، لكنه يرى لها تجليا مختلفا. رأى ناي قوة الولايات المتحدة في إشعار الآخرين بالقدرة على الاختيار، بغض النظر عن ألا خيار سوى ما تريده الولايات المتحدة، ووهم الاختيار هذا هو ما يعطي للقوة الناعمة قوتها!