الاقتصاد العالمي في 2024.. قلق من فترة ركود ومخاطر جيوسياسية
تاريخ النشر: 1st, January 2024 GMT
أشارت صحيفة "لوموند" الفرنسية في تقرير لها حول الوضع الاقتصادي المتوقع في عام 2024؛ إلى أنه بعد موجة التضخم التي شهدناها في السنوات الأخيرة، يتزايد القلق الآن من احتمالية دخول الاقتصاد في فترة ركود، ويؤكد على ضرورة اتخاذ إجراءات وسياسات اقتصادية مناسبة للتصدي لهذا الاحتمال والحفاظ على استقرار الاقتصاد.
وقالت الصحيفة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن الحقيقة الوحيدة التي لا يراود الاقتصاديون أي شك فيها في عام 2024، هي أن الخطر الأول الذي يهدد الاقتصاد هو الجغرافيا السياسية، فتداعيات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، واحتمالية امتداد الصراع في غزة، واستمرار الاضطرابات في البحر الأحمر، سوف تؤثر على المعادلات الاقتصادية، وأضف إلى ذلك سلسلة الانتخابات الكبرى خلال العام؛ حيث يشير الاقتصاديون في شركة "أليانز تريد" إلى أن " 60 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سيتأثر بالانتخابات في العام المقبل، ولن تنجو أي منطقة من هذه الانتخابات".
وأشارت الصحيفة إلى أنه إذا كانت الانتخابات الأوروبية في حزيران/ يونيو تشغل أذهان الناس بالفعل، فيجب أن نأخذ في الاعتبار الانتخابات التشريعية في الهند والمملكة المتحدة، ولكن قد تكون للانتخابات الرئاسية الدورية عواقب حاسمة بالنسبة لبقية العالم: من الانتخابات الرئاسية في تايوان في كانون الثاني/ يناير، ثم الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر، وبحسب لودوفيك سوبران، كبير الاقتصاديين في أليانز، فإن هذه الشكوك السياسية يمكن أن تضع الأسر والشركات في موقف الانتظار والترقب، ناهيك عن عدم استبعاد حدوث بعض التحولات السياسية الجديدة، مثل تلك التي اتسمت بوصول الشعبوي خافيير مايلي إلى الأرجنتين في كانون الأول/ ديسمبر.
هل ما زال الركود كامنًا؟
أوضحت الصحيفة أنه في بداية عام 2023، رأى العديد من الاقتصاديين أن الركود في الولايات المتحدة أمر لا مفر منه بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وبالتالي تكاليف الائتمان، لكنهم كانوا مخطئين؛ فقد صمد الاقتصاد الأمريكي بشكل مدهش، وخاصة بفضل الأداء الجيد لسوق العمل والدعم الهائل للميزانية من إدارة بايدن، ووفق جيل مويك، كبير الاقتصاديين في شركة "أكسا"، فإن البلاد قد تشهد هبوطًا سلسًا خلال الأشهر القادمة"، ووفقا لصندوق النقد الدولي، فمن المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 1.5 بالمائة في عام 2024، بعد 2.1 بالمائة في عام 2023.
وأفادت الصحيفة أن الصورة تبدو أقل تشجيعًا في منطقة اليورو، التي من المتوقع أن تنمو بنسبة 0.3 إلى 0.8 بالمائة وفقاً للمعاهد المختلفة، بما في ذلك 0.6 إلى 0.8 بالمائة في فرنسا، وما يزيد قليلاً عن 0.6 بالمائة في ألمانيا، ويلخص سوبران ذلك قائلاً: "إن سؤال العام سيكون ما إذا كانت أوروبا سوف تفلت من الركود أم لا"؛ ويُتوقع أن تحد العديد من الدول الأعضاء من إنفاقها العام للامتثال لقواعد الميزانية الأوروبية، الأمر الذي سيؤثر على النشاط.
ويؤكد فيليب واتشر، كبير الاقتصاديين في شركة أوستروم لإدارة الأصول: "إنهم يخاطرون أيضًا بإبطاء الاستثمارات الأساسية للصناعة الخضراء، وتوسيع الفجوة بيننا وبين الولايات المتحدة في هذا المجال".
هل سيتم إعادة تشغيل المحرك الصيني؟
أفادت الصحيفة أنه لا يمكننا الاعتماد على تباطؤ المحرك الصيني لإعطاء زخم للاقتصاد العالمي في عام 2024. فوفقًا لصندوق النقد الدولي من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 4.7 بالمائة على الأكثر، وهذا بعيد كل البعد عن نسبة 10 بالمائة المسجلة في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وبحسب إيرينا توبا سيري من شركة "أكسا آي إم" فإن الأسر الصينية تمر بصدمة ثقة بسبب أزمة العقارات، وخسارة الشركات في مواجهة سياسة الحكومة.
ومع ذلك، فإن التدابير القليلة لدعم نشاط القوة الشيوعية، وخاصة الإنفاق على البنية التحتية، سوف تحد من التباطؤ في الأشهر المقبلة، وتضيف توبا سيري: "بالنسبة للبقية، فإن الاقتصادات الناشئة صامدة بشكل جيد إلى حد ما على الرغم من التباطؤ الصيني، وينبغي أن تستفيد من انخفاض أسعار الفائدة في عام 2024".
هل انتهت أزمة التضخم؟
وأكدت الصحيفة أن السؤال الذي يدور في أذهان الجميع هو: هل تجاوزنا أزمة التضخم بالفعل؟ ويجيب ماتيو بلان، نائب مدير قسم التحليل والتنبؤ في المرصد الفرنسي للظروف الاقتصادية: "يبدو الأمر جيدًا للغاية، ولكن لا تزال هناك شكوك، وبالأخص جيوسياسية"؛ حيث من الممكن أن يؤدي تصاعد الصراع في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسعار النفط أو اضطراب التجارة العالمية.
ونقلت الصحيفة عن دينيس فيراند، المدير العام لشركة "ريكسيكود"، أننا قد تجاوزنا "صدمة" التضخم، وهو ما يدعم الحجج التالية: تباطؤ ارتفاع أسعار الطاقة بشكل حاد، وانخفاض أسعار الإنتاج الزراعي بنسبة 10 بالمائة على مدار عام واحد، كما انخفضت أسعار السلع المصنعة، بالإضافة إلى ذلك، ظلت الزيادات في الأجور التي وافقت عليها الشركات مقيدة ولم يتم تطبيقها على الأسعار، فالشركات التي تواجه تباطؤ الطلب، ليس لديها الآن حافزا كبيرا لزيادة أسعارها.
وتابعت الصحيفة عن فيراند، إنه إذا لم ترتفع الأجور بشكل كبير في عام 2024، فإن "عودة التضخم إلى نسبة 2 بالمائة يمكن أن يحدث بسرعة في أوروبا"، ويتوقع فريق أبحاث الاقتصاد الكلي في بنك "سوسيتيه جنرال" بدلا من ذلك معدلا "أقل من 3 بالمائة في المتوسط في عام 2024، وهو ما سيسمح لنا بالاقتراب من أهداف البنوك المركزية".
وأكدت الصحيفة أنه إذا انتهت المرحلة الحادة من الأزمة، فإن التضخم سيظل من الناحية الهيكلية أعلى قليلا مما كان عليه في العقد الماضي، بسبب ضرورات التحول البيئي، وإعادة تنظيم التجارة العالمية، ورغبة الاقتصادات الكبرى في استعادة سيادتها في قطاعات الصناعة بأكملها.
هل ستنخفض أسعار الفائدة؟
أشارت الصحيفة إلى أنه وفق سيناريو انخفاض التضخم، ينبغي للبنوك المركزية منطقيًا تخفيض أسعار الفائدة، وقد أحدث بنك الاحتياطي الفيدرالي مفاجأة في 13 كانون الأول/ ديسمبر، عندما اقترح أنه على الرغم من قوة الاقتصاد الأمريكي، فإنه سوف يخفض أسعار الفائدة ثلاث مرات على الأقل في عام 2024، وإذا بدا البنك المركزي الأوروبي أكثر خجلا، فإنه ينبغي له مع ذلك أن يحذو حذوه في الربيع أو الصيف.
ولكن حتى ذلك الحين فإن العديد من الشركات الأوروبية، التي أضعفها النشاط الضعيف وتدهور التدفق النقدي، قد تواجه صعوبات تمويلية في الأشهر المقبلة، وسوف تناضل الدول الأكثر مديونية من أجل تثبيت استقرار مواردها المالية العامة، وعلى وجه الخصوص إيطاليا، التي يتجاوز دينها العام 140 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، والتي من المتوقع أن يكون نموها صفرًا تقريبًا في عام 2024.
وداعاً لحلم التوظيف الكامل في فرنسا؟
تساءلت الصحيفة حول ما إذا كان يتعين على فرنسا التخلي عن هدف تحقيق التشغيل الكامل للعمالة، فنظراً لتباطؤ النشاط يتوقع المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2 بالمائة خلال الربعين الأولين، وسوف تتباطأ الشركات في التوظيف، بعد أن خلقت 1.2 مليون وظيفة منذ عام 2019.
وفي الوقت نفسه، فإن ارتفاع حالات الإعسار، الذي يؤثر على المزيد والمزيد من الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبرى، سيؤدي إلى تسريح العمال؛ فحوالي 37 ألف وظيفة معرضة الآن للخطر، وهو أعلى مستوى منذ سبع سنوات. أما بالنسبة لنمو التلمذة الصناعية، الذي أثر على ما يقرب من مليون شاب في عام 2022 والذي يمثل حوالي ثلث فرص العمل، فيبدو أنه وصل إلى مرحلة الاستقرار، ووفقًا للمعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، فإن معدل البطالة، الذي يبلغ حاليا 7.4 بالمائة، قد يصل إلى 7.6 بالمائة بحلول منتصف عام 2024.
هل يستعيد الفرنسيون قوتهم الشرائية؟
وأفادت الصحيفة أنه مع أسعار أكثر توازنًا، ينبغي أن يتمكن الفرنسيون تنفس بعض الهواء النقي، خاصة وأن الأجور قد ترتفع بشكل أسرع قليلا في عام 2024، وتتوقع شركة "إل إتش إتش"، المتخصصة في القضايا الاجتماعية، زيادة بنسبة 3.5 بالمائة في الأجور العام القادم، وتشير تقديرات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية إلى أنه بحلول منتصف عام 2024، ستزيد القوة الشرائية للأسر بنسبة 1.2 بالمائة، مقارنة بنحو 0.8 بالمائة لعام 2023 بأكمله.
واختتمت الصحيفة تقريرها بالقول إن هذا التحسن يحدث في سياق غير متحمس؛ حيث أصبح المزيد والمزيد من الموظفين الفرنسيين يتقاضون الحد الأدنى للأجور بشكل أو بآخر، ويؤكد ماتيو بلان أن "هذا يمثل 17 بالمائة من الموظفين اليوم، مقارنة بـ 12 بالمائة في عام 2021"، ويثير هذا التسطيح في سلم الرواتب سؤالا أساسيا حول هدف إعادة آفاق التطوير المهني للفرنسيين، لتحسين قوتهم الشرائية بشكل مستدام، وإنعاش الاستهلاك ودعم الاقتصاد.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي اقتصاد اقتصاد دولي اقتصاد عربي اقتصاد دولي الاقتصادي التضخم ركود اقتصاد تضخم ركود المزيد في اقتصاد اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
طوفان الأقصى: 10 تحولات جيوسياسية تعيد رسم خرائط القوى العالمية
لم تكن عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مجرد مناوشة عسكرية عابرة، بل كانت بمثابة ضربة قاصمة، وزلزال جيوسياسي اهتزت على إثره أركان المنطقة والعالم، معيدا تشكيل موازين القوى والاستراتيجيات الدولية. في هذا المقال، نستعرض عشرة محاور رئيسة توضح كيف أدت هذه العملية إلى تحولات عميقة ومستمرة، كشفت النقاب عن وجه جديد للعالم العربي بتحولاته الجيوسياسية، وأنظمته الهشة المتفككة.
1- سقوط "صفقة القرن" وإحياء القضية الفلسطينية
كان "طوفان الأقصى" بمثابة المسمار الأخير في نعش ما سُمِّي بـ"صفقة القرن" التي كانت تهدف إلى تهميش القضية الفلسطينية. لقد كشفت عملية طوفان الأقصى أكذوبة الوطن الصهيوني الآمن، ونجحت في تحطيم أسطورة "الجيش الذي لا يُقهَر"، وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدولية، وكأنها نفضت عنها غبار سنوات من التهميش. تصاعد الضغط الشعبي العربي بشكل غير مسبوق، مما قيَّد بشكل كبير أي خطوات نحو التطبيع الحكومي مع الكيان الصهيوني، وظهر ذلك جليا في مواقف دول مثل تونس والأردن والمغرب والسودان.. إلخ. كما انهارت محاولات "شرعنة" الاحتلال الصهيوني، مع تزايد الإدانات الدولية لجرائم الحرب الصهيونية، وتقديمها للمحاكم الدولية. هذا ليس مجرد انتصار عسكري، بل هو انتصار أخلاقي أعاد البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، نحو قضية ما زالت حية في وجدان الشعوب.
انهارت محاولات "شرعنة" الاحتلال الصهيوني، مع تزايد الإدانات الدولية لجرائم الحرب الصهيونية، وتقديمها للمحاكم الدولية. هذا ليس مجرد انتصار عسكري، بل هو انتصار أخلاقي أعاد البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، نحو قضية ما زالت حية في وجدان الشعوب
2- الإطاحة بنظام الأسد ورجوع السنة لحكم سوريا بعد أكثر من 100 عام من حكم الأقليات
لقد كانت "طوفان الأقصى" بمثابة المسمار الأخير في نعش ما كان يُسمى بـ"محور المقاومة" الإيراني. بينما انشغلت طهران و"حزب الله" بالجبهة الفلسطينية الملتهبة، تضاءل دعمهما لنظام بشار الأسد في سوريا. تزامنت هذه الانشغالات مع تصعيد ضربات الكيان الصهيوني الموجعة ضد مواقع "الحرس الثوري" الإيراني، والتي استنزفت قدراته العسكرية والبشرية بشكل كبير. في هذا الفراغ المروع، شنت فصائل المعارضة السنية السورية، وفي مقدمتها "هيئة تحرير الشام"، هجوما منسقا بدعم تركي مكثف وتأييد شعبي واسع، مما أدى إلى سقوط دمشق وحلب. تلا ذلك انسحاب روسي جزئي، حيث قلصت موسكو وجودها العسكري في سوريا لتركيز جهودها على حرب أوكرانيا، مما فتح الباب أمام تشكيل حكومة سورية جديدة ذات أغلبية سنية، مُغَيِّرا جذريا في التركيبة السياسية للبلاد. هذا التحول، الذي كان في مخيلة الكثيرين ضربا من ضروب المستحيل، بعد أن ظلت سوريا في يد الأقليات منذ سقوط الخلافة العثمانية، بات اليوم حقيقة دامغة، تعكس فشل مشروع الاستبداد والمحاور الخارجية في الحفاظ على أنظمة فقدت شرعيتها.
3- احتضار المشروع الإيراني في الشام والعراق
كانت العملية بمثابة ضربة قاسية للمشروع الإيراني في المنطقة. ففقدان إيران لسيطرتها على الجسر البري عبر سوريا، الذي كانت تستخدمه لنقل الأسلحة والدعم اللوجستي إلى "حزب الله"، قيَّد بشكل كبير قدرتها على التأثير في الشام. كما أدت الاغتيالات المتتالية لقادة عسكريين بارزين في "الحرس الثوري" وحزب الله، بمن فيهم قاسم سليماني سابقا وحسن نصر الله وقيادات الصف الأول في حزب الله في ضربات الكيان الصهيوني الأخيرة، إلى إضعاف بنيتها القيادية في الشام. أما في العراق، فقد تراجعت حدة أنشطة المليشيات الموالية لإيران مثل "الحشد الشعبي"، التي باتت تتخوف من التورط في صراعات إقليمية أوسع. فقدت طهران جزءا كبيرا من قوتها الإقليمية، مما قلل من رغبة الدول في التعاون معها بعد انكشاف هشاشة مشروعها القائم على المليشيات. لقد تبين أن وهْم القوة المبنية على المليشيات يمكن أن يتبخر سريعا أمام ضربات استراتيجية تغير المشهد.
4- إعادة تشكيل الاستراتيجيات العسكرية العالمية
لقد أثبت "طوفان الأقصى" أن التفوق التكنولوجي العسكري وحده لم يعد كافيا لضمان النصر. فقد نجحت التكتيكات غير التقليدية، مثل استخدام الصواريخ البدائية والطائرات المسيرة، في اختراق أنظمة دفاعية متطورة مثل "القبة الحديدية" للكيان الصهيوني. هذا الإنجاز فرض إعادة تقييم شاملة للاستراتيجيات العسكرية في جميع أنحاء العالم. دفعت هذه الدروس دولا مثل الولايات المتحدة وروسيا إلى توجيه استثمارات ضخمة في تعزيز أنظمتها الدفاعية ضد التهديدات غير المتماثلة، والتفكير في تطوير تكتيكات جديدة للتعامل مع هذا النوع من الحروب. لقد أثبتت المعارك الحديثة أن العقول المبدعة التي تملك الإرادة يمكنها أن تتفوق على أعتى الترسانات العسكرية، وهذا ما يجب أن تعيه الجيوش حول العالم.
5- حل حزب العمال الكردستاني (PKK) واستقرار حكم العدالة والتنمية في تركيا
بعد طوفان الأقصى، استغلت تركيا ببراعة تهاوي أحجار الدومينو نتيجة حالة الفوضى الإقليمية والضعف الإيراني والسوري؛ لتكثيف حملاتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني (PKK). كانت عمليات مثل "نبع السلام" التي نفذتها أنقرة سابقا، أدت إلى تفكيك البنية العسكرية للحزب بشكل كبير، لكن مع تراجع الدعم الإيراني والسوري بعد سقوط الأسد، بدأ تحالف "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية) بالتفكك. هذا التطور تزامن مع تقليص الدعم الأمريكي للأكراد، مما تركهم في موقف ضعيف وأدى إلى حل الحزب فعليا. إنها قصة جديدة من قصص التخلي عن حلفاء الأمس، حين تتغير حسابات القوى وتتبدل الأولويات، تاركة وراءها فراغاتٍ يُعاد ملؤها بخرائط سياسية جديدة.
6- ظهور القوى الإقليمية الصاعدة
شهدت المنطقة صعود قوى إقليمية جديدة تستغل الفراغ الذي أحدثه التغيير. عززت تركيا نفوذها بشكل كبير في سوريا عبر تحالفات استراتيجية مع الفصائل السنية. في المقابل، برز دور كل من قطر ومصر كوسيط إقليمي رئيسي، حيث تصدرت الدوحة والقاهرة جهود الوساطة في الصراع الفلسطيني الصهيوني بعد تدهور العلاقات الخليجية-الصهيونية، مما منحهما وزنا سياسيا متزايدا، ساعد في ذلك دعم التحالف الأمريكي في المنطقة للنظام المصري؛ بعد أن كان على شفا الانهيار نتيجة الأزمات الاقتصادية التي تسبَّب فيها. المشهد الإقليمي يتغير، وتظهر وجوه جديدة على الساحة، بعضها يصعد ليملأ الفراغ، وبعضها الآخر يحاول أن يجد موطئ قدم في هذه الفوضى الخلّاقة.
7- إعادة تشكيل التحالفات الدولية
حدثت تحولات جذرية في التحالفات الدولية في المنطقة. بعد انهيار ما كان يُعرف بـ "محور الاعتدال العربي" (الذي كان يضم دولا عربية متحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومتصالحة مع الكيان الصهيوني)، ترك ذلك فراغا استغلته الصين ببراعة. فقد عززت بكين تواجدها المتنامي من خلال مشاريع اقتصادية ضخمة مثل مبادرة "الحزام والطريق"، مما يشي بتحولات في موازين القوى العالمية. إن العالم يتغير، والقوى الكبرى تعيد ترتيب أوراقها، بينما تتفكك تحالفات الأمس لتفسح المجال لتحالفات جديدة، بعضها غير متوقع.
8- اضطرابات اقتصادية عالمية وتحولات في الطاقة
كانت تداعيات "طوفان الأقصى" الاقتصادية واسعة النطاق. أدت هجمات الحوثيين المتكررة على الملاحة في البحر الأحمر إلى اضطرابات حادة في سلاسل التوريد العالمية، وارتفعت تكاليف البضائع التي تمر عبر البحر الأحمر بأكثر من 30 في المئة، مما أثر على التجارة الدولية. كما دفعت هذه الاضطرابات -بالإضافة لأسباب أخرى- الاتحاد الأوروبي إلى تسريع تحوله نحو مصادر الطاقة المتجددة، لتقليل اعتماده على النفط والغاز، الذي أصبح أكثر عرضة للتقلبات الجيوسياسية. إن التكاليف الاقتصادية للصراعات لم تعد تقتصر على ساحات المعارك، بل تمتد لتضرب شرايين الاقتصاد العالمي، دافعة الدول الكبرى إلى إعادة التفكير في مصادر طاقتها وأمنها الاقتصادي.
9- تصاعد النضالات الشعبية وحقوق الإنسان
أثبتت هذه العملية أن الصراعات الحديثة لم تعد تُحسم بالجيوش التقليدية وحدها، بل عبر تفاعل معقد بين العسكر والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا. هذا الواقع الجديد يفرض على الدول تبني استراتيجيات مرنة ومتعددة الأوجه، تستجيب لهذا المشهد الجيوسياسي المتغير باستمرار
لقد أعادت "طوفان الأقصى" حقوق الإنسان والقانون الدولي إلى واجهة النقاش العالمي. تزايدت الإدانات الدولية للكيان الصهيوني، وصدرت تقارير من منظمات حقوقية عالمية تتهمه بارتكاب "جرائم حرب". كما شهدت حركة المقاطعة العالمية (BDS) زخما غير مسبوق، وأثرت اقتصاديا على العديد من الشركات التي تتعاون مع الكيان الصهيوني، وأثرت أيضا على الصورة العالمية للكيان خاصة في الداخل الأمريكي وأوروبا، مما يظهر قوة الرأي العام العالمي في التأثير على السياسات. إن صوت الشعوب، حين يرتفع موحدا، يصبح قوة لا يستهان بها، قادرة على تغيير المعادلات وقلب الطاولات على رؤوس من ظنوا أنهم فوق القانون.
10- تحوُّلات تكنولوجية واستخباراتية
كشفت "طوفان الأقصى" عن ثغرات أمنية واستخباراتية هائلة في الكيان الصهيوني، وفشل أجهزة مثل "الشاباك" و"الموساد" في توقع الهجوم أثار تساؤلات جدية حول قدراتها. في المقابل، برز دور الحرب الإلكترونية والهجمات السيبرانية، مما يؤكد أن ساحة المعركة لم تعد تقتصر على الأرض والجو، بل امتدت إلى الفضاء السيبراني. لقد تبين أن التكنولوجيا الحديثة، بقدر ما هي قوة، يمكن أن تكون نقطة ضعف قاتلة لمن يعتمد عليها دون فهم حقيقي لأبعاد التهديدات الجديدة.
خلاصة: "طوفان الأقصى" كنموذج لصراعات القرن الحادي والعشرين
لقد شكَّل "طوفان الأقصى" نقطة تحول جيوسياسية شاملة، حيث أعاد تعريف مفاهيم الردع والتكتيكات العسكرية. أثرت العملية على الاقتصاد العالمي من خلال اضطرابات في الطاقة والتجارة، وفككت تحالفات قديمة وبنت أخرى جديدة على المستوى السياسي. كما برز الدور المتزايد للرأي العام في صنع القرار، وشهدت التحولات التكنولوجية والاستخباراتية تغيرات عميقة. لقد أثبتت هذه العملية أن الصراعات الحديثة لم تعد تُحسم بالجيوش التقليدية وحدها، بل عبر تفاعل معقد بين العسكر والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا. هذا الواقع الجديد يفرض على الدول تبني استراتيجيات مرنة ومتعددة الأوجه، تستجيب لهذا المشهد الجيوسياسي المتغير باستمرار. فهل وعينا الدرس؟ وهل أدركنا أن ما بعد "طوفان الأقصى" ليس كما قبله؟