موقع النيلين:
2025-08-12@00:54:46 GMT

السودان … مصر … تركيا …1821م … 1956م.

تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT


الهيمنة Hegimoney …
والسيادة sovereignty …
السودان … مصر … تركيا …1821م … 1956م.
من الضروري أن نعلم الفرق بين مصطلح السيادة sovereignty والهيمنة Hegimoney.
السيادة أن تكون الدولة مستقلة سيدة نفسها ، تحكمها حكومة وطنية وتتخذ قراراتها داخل رقعتها الجغرافية بغض النظر عن نظام الحكم سواء كان سلطانيا وراثيا داخل سلالة حاكمة أو كان إنتخابيا بالإرادة الشعبية عبر صندوق الانتخابات أو توليفة بينهما.


ولكن الإستقلال قد يتم فقدانه تدريجيا مع بقاء مظاهره من سلطة وطنية وحكومة وانتخابات وهلمجرا ولكن الدولة تكون تحت هيمنة Hegimoney دولة أو مجموعة دول أو جمعيات سرية.
و تاريخيا فإن السودان قد ارتبط عضويا بدولة الخلافة العثمانية من 1820م حين غزاه جيش الولاية الأقرب وهي مصر.
لم تكن مصر دولة مستقلة ولكنها كانت دولة تابعة Vasal State للدولة العثمانية ولكن كان لها حكم ذاتي بصلاحيات كبيرة للوالي محمد علي باشا الذي وصل للحكم في 1805م.
وبالرغم من أن الدولة العثمانية منحت محمد علي باشا حق الحكم لورثته إلا أن القرار باعتماد كل وال جديد كان لابد أن يصدر من الخليفة في استنبول وكان القرار السلطاني يسمى الفرمان، وبهذا ظل السلطان العثماني صاحب الحق في عزل والي مصر ، ولكن !
الحق يقال أن من كان يملك هذا الحق من خلف الستار هي القوى صاحبة الهيمنة Hegimoney داخل أروقة الحكم العثماني وهي الممالك الأوروبية وعلى رأسها روسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.
وتأثيرات الهيمنة الخفية تجدها حين تتخذ الدولة قرارات ضد مصلحتها الاستراتيجية أو حين تقوم بتوقيع معاهدات تتضمن تنازلات ضخمة من طرف واحد.
وتأثير الهيمنة كان واضحا حتى في حكمدارية السودان 1821م – 1885م وهو حكمدارية تابعة لولاية تابعة ، فمثلا كانت ضغوط القناصل الأوروبيين ذات أثر فعال أحيانا في تراجع الحكمدار عن قرارات في مصلحة الحكمدارية مثل قرارات رفع سعر شراء الصمغ العربي من المنتجين فكان القناصل يتدخلون فورا لإلغاء القرار وقد ينجحون في استصدار قرار بعزل الحكمدار ولذلك تميزت فترة التركية السابقة 1820م – 1885م بكثرة تغيير الحكمداريين.
مثال آخر لقرارات لا يمكن إتخاذها إلا بتأثير الهيمنة المعاهدات التجارية بين الدولة العثمانية والممالك الأوروبية وهي معاهدات تم توقيع أولها قبل حوالي 400 سنة من إنهيار الدولة في 1923م وتتالت المعاهدات حتى ضمت الولايات المتحدة ودول من أمريكا الجنوبية.
تم توقيع أول معاهدة تنازلات في 1534م والدولة العثمانية أقوى عسكريا من كل دول أوروبا مجتمعة ، لماذا ؟ ماهو المبرر ؟
ولنعلم خطورة تلك المعاهدة والمعاهدات التي تلتها على نفس المنوال وبشكل تصاعدي فإن الأوروبيين أنفسهم وحتى اليوم لا يطلقون عليها معاهدات بل يطلقون عليها تنازلات Capitulations ويمكنك مراجعة الرابط في التعليقات كرأس خيط للتعرف على هذا الموضوع.
تضمنت تلك التنازلات مكاسب من طرف واحد لرعايا الدول الأوروبية داخل الدولة العثمانية وولاياتها وشملت حرية التنقل والإقامة والتجارة والتملك والإعفاءات من الجمارك والضرائب ونظر قضاياهم في محاكم خاصة بهم يرأسها قناصل بلادهم ولم تشمل مكاسب مماثلة لرعايا الدولة العثمانية داخل الممالك الأوروبية !
تسببت معاهدات التنازلات Capitulations
التجارية في تكاثر رهيب لرعايا الدول الأوروبية في الولايات العثمانية بسبب فرص الثراء والحماية التي لا تتوفر لهم حتى في بلادهم ، وعلى مدى ثلاث قرون تسببت في تدهور وضعف الصناعات العثمانية لأن الجاليات الأوروبية داخل الولايات العثمانية وبفضل المزايا التفضيلية حتى على المواطنين العثمانيين حققوا الثراء وهيمنوا على التجارة وصاروا وكلاء المصانع في بلادهم وكان من مصلحتهم تنشيط استيراد جميع أنواع السلع فبارت وكسدت منتجات المصانع في الدولة العثمانية وتدهورت وتخلفت تسويقيا وتقنيا.
ظاهرة المتأسلمين :
وكان الكثير من أولئك الأوربيين الذين استوطنوا داخل الدولة العثمانية وولاياتها يظهرون الإسلام ويطلقون على أنفسهم أسماء إسلامية عربية أو تركية ويتزيون بالأزياء التركية ويلبسون الطربوش ولكنهم يظلون محتفظين سرا بأديانهم المسيحية واليهودية ويورثون نفس التدين المزدوج لأولادهم جيلا بعد جيل : الإسلام ظاهرا وفي الباطن يهود أو نصارى.
وبعض أولئك المتأسلمين تسنموا مناصب رفيعة في الدولة ولعبوا أدوارا في غاية الخطورة وكانت غالب قراراتهم في مصلحة دولهم الأوروبية.
والغريب جدا الغياب شبه الكامل لقضية تنازلات الإمبراطورية العثمانية Capitulations of the Ottoman Empire عن الدراسات التي تناولت أسباب إنهيار الدولة العثمانية ذلك في الوقت الذي تجد أن أكثر من بحث فيها وكشف نتائجها المدمرة هم الباحثين الأوروبيين المستفيدين منها.
فتجد غالب دراسات الإسلاميين تركز على السنوات الأخيرة التي برز فيها نجم الجمعيات مثل تركيا الفتاة وكمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية.
هل تصدق أيها القارئ أن أول قرارات مصطفى كمال أتاتورك حين تولى الحكم وألغى الخلافة ونفى الأسرة الحاكمة العثمانية كان إلغاء الإمتيازات الأجنبية ؟
بل قد تندهش أكثر إذا علمت أن أول قرار لكتشنر بعد معركة كرري في أم درمان 1898م كان إلغاء الإمتيازات الأجنبية داخل السودان بل أن كتشنر جمع التجار السودانيين في أم درمان وعرض عليهم جعل وكالات الاستيراد والتصدير حكرا عليهم ، ولكنهم وياللأسف رفضوا لضيق أفقهم ، وهذا دليل أن كتشنر الأوروبي كان يعلم مساؤي الامتيازات ومن بعده كمال أتاتورك كذلك.
وهكذا كلما تتوغل في دراسة الدولة العثمانية تجد القرارات الإستراتيجية المنحرفة ، مثل قرار أن يتولى صموئيل بيكر اليهودي البريطاني في 1870م قيادة حملة فتوحات خط الإستواء من الخرطوم فحينئذ تتساءل عن متى في التاريخ الإسلامي أسندت قيادة حملة أطلق عليها فتوحات لقائد يهودي ؟
ومن ذلك التاريخ 1870م لم يحكم مسلم جنوب السودان وكانت كل قرارات صموئيل بيكر تضييقا على وجود الشماليين وإبعادهم من الجنوب وإفتعالا للمعارك مع القبائل الإستوائية واليوغندية.
وعندما تستوعب تأثيرات الإمتيازات في الدولة العثمانية من 1533م وتراكماتها على مدى 300عام قد تجد بعض العذر لمحمد علي باشا وأولاده فقد استلم محمد علي باشا حكم مصر في 1805م وقد استوطن بها مئات الآلاف من الجاليات الأوروبية وترسخ وجودهم على مدى أجيال واكتسبوا الجنسية العثمانية خاصة المتأسلمين منهم وتشربوا بالثقافة المصرية مع محافظتهم على تميزهم الطبقي وهيمنتهم على التجارة والصناعة وعلاقاتهم الوطيدة مع دولهم الأصلية.
السيادة والهيمنة في القرن العشرين :
من المعلوم أن القرن العشرين 1900م بدأ وعموم أفريقيا ترزح تحت وطأة الاستعمار المباشر ، وجاءت حقبة الحربين العالمية الأولى 1914م والثانية 1944م وبدأ تدشين النظام المالي الدولي وفي نهاية الخمسينات 1956م وبداية حقبة الستينات 1960م بدأت الدول الأفريقية تنال الإستقلال وبدأت تظهر الجمهوريات المستقلة.
رئيس وعلم ونشيد وطني وفريق قومي وغير ذلك من آليات الترويج لمظاهر السيادة.
وتحت كل ذلك ظلت تقبع الهيمنة في طورها الجديد ، هيمنة النظام المالي العالمي تأسيس بريتينوودز ونظام العملة الصعبة الدولية والتحكم في التجارة الدولية من خلال مركزية السويفت ومن يخرج عن الخط يكفي قرار تنفيذي رئاسي من الدولة المتحكمة ويعقبه نقرة فارة كمبيوتر لتجميد مشاركة الدولة المستهدفة في المعاملات البنكية الدولية ووضعها تحت الحصار الإقتصادي ، لا خطابات إعتماد بنكية ولا تصدير ولا استيراد ، إلا بطرق ملتوية تكلف ما تكلف.
إذن القيادة السياسية الواعية عليها أولا أن تدرك حقائق التاريخ وأن تدرك ثانيا أين تتجه في تحالفاتها لأن هناك دول كبرى ضجرت من هيمنة نظام بريتينوودز فبدأت منذ ما يقارب الخمسة عشرة عاما صياغة نظام بريكس BRICS للتخارج من الهيمنة الخانقة ، ونظام بريكس تحالف دولي جديد يتكون من البرازيل Brazil وروسيا Russia والهند India والصين China وجنوب أفريقيا South Africa ويسعى هذا التحالف لبناء سلة عملات خارج الدولار للتعامل في ما بينها في مجال التجارة الدولية.
#كمال_حامد ????

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدولة العثمانیة علی باشا

إقرأ أيضاً:

الحرب كارثة حاذقة قال تشرشل حذاري أن تهدرها

(ظل كثرٌ منا ينعون السودان لحروبه الطويلة الرديدة بينما تغيب عنهم إرادتنا بها وبالتفاوض خلالها عزائمنا لبناء دولة أمة في ظرف دولي كاد يلغي الدولة الوطنية من فرط حصاره لها”.
قال ونستون تشرتشل “لا تضع هدراً كارثة حاذقة أبداً”. والحرب على رأس هذه الكوارث الحاذقة بالطبع. وبدا أن القوى التي تدعو إلى “لا للحرب” من يضيع كارثة حربنا الحاذقة. فهي عندهم “عبثية” و “لعينة” بما يعني خلوها من معنى كان بالإمكان أن يقع من دونها. فاتفقت، وهي تتهيأ لاجتماع الرباعية التي انتدبت نفسها لوقف الحرب باجتماع تأجل في واشنطن الثلاثاء الماضي، أن يتعاقد الاجتماع على استبعاد القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع” وأية تكوينات عسكرية أخرى نهائياً من السلطة في الحكومة الانتقالية لما بعد وقف الحرب. واستعجب خالد كودي، الناشط في الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح عبدالعزيز الحلو) للمطلب وتساءل إن كان الجيش و”الدعم السريع” دخلا إلى ساحة الوغى “من الباب العارض”. فغير خافٍ أن قوى “لا للحرب” سبقت إلى تصميم الحكومة الانتقالية قبل أن تتبين لها منازل كل من القوتين في ترتيبات السلام الموعودة. فمطلب هذه القوى أن تخلو الساحة من مثيري “الشغب” السياسي، وهما الجيش و”الدعم السريع”، عودة بسيطة لتاريخ للثورة سبق الحرب، قيل فيه إن الحرب جاءت “في جوهرها لتصفية ثورة ديسمبر المجيدة وقبرها وقطع الطريق أمام ابتدار مسار تحول مدني ديمقراطي حقيقي، يحقق غايات الثورة في السلام والحرية والعدالة”. فالحرب، التي كثيراً ما قيل أنها اندلعت للقضاء على ثورة أرادت بناء دولة أمة تسع الجميع كما يقولون، ليست عبثية بل هي كارثة حاذقة لا يصح التبذير فيها جزافاً.
ويجري تصوير السودان على أنه بلد في حال حرب أزلية مع نفسه منذ استقلاله، أو ربما قبيله. وهو تصوير كاد يجعل الحرب من حادثات الطبيعة، أي إنها في الجينات الوراثية، لا في تدافع سياسات المجتمع. وانطوى جمع من الصفوة على هذه الصورة عنه وعن بلده. ولهم عبارة تقليدية كلما اضطرب الأمر، “السودان انتهى”. فلا يرون من هذه الحرب التي نصدر فيها عن جينات بكماء إلا ضلالةً لا ضرباً من وعثاء بناء دولة ما بعد الاستعمار التي تركها وقد نجرها لغاياته بالعنف كيفما اتفق له وليرث الوارث “رعية” لا “موطنين”، بل ما تعذر على هذه الصفوة رؤيته حقاً أنها لم تكف هي نفسها حرباً وسلاماً عن التفاوض حول السوية في الوطن المستقل. فاضطلعوا بثلاث ثورات أعوام 1964 و1985 و2018 لإنهاء نظم ديكتاتورية صادرت بقوة السلاح القرار حول ما تكون عليه الدولة وهويتها. فهذه الثورات هي ذرى الإرادة للعيش معاً، في تعريف الفيلسوف إرنست رينان للأمة. فالثورة في السودان هي الإرادة الوحيدة لعيش السودانيين في أمة. وهي بهذه الصفة مما يسميه علماء السياسة الطاقة التي تتنادى بها الأمة إلى مركز “centripetal” في حين أن الحكومة فينا، وقوى الثورة المضادة التي سادت فيها، هي الطاقة المنفرة من المركز “centrifugal”. ووجدت أفضل تقريب في اللغة العربية للمفهومين في فقه الوضوء للصلاة. فالطاقة الأولى هي الاستنشاق أي جذب الماء بالنفس إلى باطن الأنف بينما الطاقة الثانية هي الاستنثار وهي إخراج الماء من باطن الأنف ليرشح حيث شاء.
ومن بين من لم يرَ من الحرب سوى خيبتنا، خالد عمر يوسف القيادي في “صمود”، فأصابه السقم من الدولة نفسها. واحتكم في ذلك لمؤشرات عالمية عن بؤسنا، فأزعجه أن مؤشر الدول الهشة صنّف السودان كثاني الدول هشاشة في العالم لعام 2024. وليس مستغرباً أن تعجز الدولة في عام حرب كذلك العام عن “تقديم السلع والخدمات السياسية الأساسية إلى مواطنيها، بما فيها فقدان السيطرة على أراضيها والعجز عن توفير الأمن وتراجع شرعية الحكومة وانهيار الخدمات العامة وصعود النخب المتنازعة أو التدخل الخارجي” وهي صفات الدولة الهشة. ويلحن خالد عمر يوسف بحجته هذه في وجه من دعوا إلى محاربة قوات “الدعم السريع” حتى تخلص الدولة إلى المدنية والحداثة التي لا تكون بوجودهم فيها بأية حال من الأحوال. وبدا من يوسف أنه ممن يرى في حروبنا فشلاً لا خوضاً وعراً في بناء الأمة الدولة. ومن دعا إلى الدفاع عنها بوجه قوة في مثل “الدعم السريع”، في رأيه، كمثل مَن بيت على ذهابها. ويستغرب المرء أن يشمل تعريف الدولة الهشة نزاع الصفوة التي هي، تعريفاً، حاملة الرؤى المختلفة لما تريد لبلدها وبؤرة للخلاف حوله. وهو اختلاف حميد مما يحدث في الدولة الديمقراطية لا مشاحة وله فقهه وإجراءاته. وجاء صراع الرؤى هذا في كلمة أخيرة للفيلسوف الفرنسي برنار-هنري ليفي عن حرب السودان. فقال إنها ليست حرب جنرالين، وليست حرباً إثنية قبائلية. في واقع الحال إنها، في قوله، انقسام حقيقي بين رؤيتين لمستقبل البلاد.
وإذا استنكرنا حربنا خلال بناء الأمة الدولة، فكأننا استنكرنا الأمة الدولة نفسها، فهي الكائن الذي ولد أول ما ولد في رحم الحرب. وسارت في الناس عبارة تشارلز تيللي (1929-2008)، أستاذ علم الاجتماع ورائد دراسة تكوّن الأمة الدولة الأوروبية “الأمم تخوض الحروب والحرب تبني الأمة”. فليس من أمة على بسيطة الغرب لم تولد من حرب: حرب الـ30 عاماً في أواسط أوروبا (1618-1648)، الحرب الأهلية الإنجليزية (1642-1651)، الحرب الأهلية الفرنسية (1562-1598)، والحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، والحرب الأهلية الإسبانية (1936-1938). وكانت حروباً عالية الكلفة، ولكنها وقعت وعين العالم، من جهة الحكم على أخلاقيتها وطبائع من خاضوها، غافلة. فلم تكُن فيهم أمم متحدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتسائل الدولة المنتسبة لها عن كل حركة في إدارتها لشأن أمتها حتى صارت فيها مفوضية لحرية التعبير وأخرى لمنع التعذيب. وفي سياق مراقبة العالم الدقيقة لشأن الدولة مع أمتها كتب صحافي زار غينيا الاستوائية عن انحجاب شيوع الفساد والاستبداد فيها عن العالم بسبب أنها بلد صغير لا يعرفه كثير من الناس، وقد لا يكترثون لمعرفته. فبوسع طبقته الحاكمة، في قوله، فعل ما بدا لها في أهلها غير آبهة لأنه ما من أحد في العالم يراقب مجرياتها. ولا يقول المرء بهذا مستنكراً الحساسية الدولية للحقوق بالطبع، ولكن ليقرر بلا واقعية أحكام القيمة عنا ونحن نحارب في بناء الأمة الدولة التي تُعتبر الحرب حقيقة من حقائقها. فجاءت أوروبا لبناء الأمة الدولة والعالم في شبيبته فسرها وجئناه على الهرم.
ويأتي الهدر للكارثة الحاذقة من باب تسويق “لا للحرب” لخصومتها مع الإسلاميين. فظلت “قوى الحرية والتغيير” وبمسمياتها العاقبة تسوّق لمواقفها ضد الإسلاميين لمن نشدت تضامنهم معها بما اتُفق لهم من مخاوف من الإسلاميين في نطاقهم. وجاء القيادي في “صمود” بكري الجاك بطائفة مما ينطوي الإسلاميون عليه من مفازع، طالما جاءت أميركا الرئاسية لمسألة السودان، ليسوقها على نهج المعاملات للرئيس ترمب. فقال إن السودان، بعلاقاته مع إيران بعد فقدانها نفوذها في سوريا ولبنان، وبتأثير “الإخوان المسلمين” في حكومة بورتسودان، سيكون منصة لها في شرق البحر الأحمر مما سيقلق أميركا وإسرائيل. ومما سيقلق أميركا بخاصة هو نفوذ روسيا التي ترمي عينها على امتلاك قاعدة على البحر الأحمر في السودان، ناهيك عن تعاظم نفوذها في غرب أفريقيا عند حدود السودان بعد مغادرة فرنسا لتلك المناطق. ثم جاء بكري بمفازع الإرهاب من “الإخوان” في السودان الذي سيجعلونه واسطة العقد بين الجماعات الإرهابية من غرب أفريقيا وشرقها.
وهذا التربح من التفزيع من الكيزان يهدر كارثتين ناصعتين من تلك التي حذر تشرتشل ألا تهدرهما أبداً وهما “دولة الإنقاذ” في السودان والحرب التي جاءت في أعقاب سقوطها. ولا يقول المرء بهذا شفقة بـ”الإخوان المسلمين”، ولكن لأن السودان ربما كان الدولة الوحيدة دون غيرها التي خضعت لحكم جماعة “الإخوان المسلمين” لثلاثة عقود، وقضى السودانيون عليها مصابرة وسلمياً. فهم، بعبارة، بيت الخبرة في شأنهم. لم تتورع معارضة “الإنقاذ” خلال دولتها من توظيف كارت “الإرهاب”، وكسبت دولاً، إلا أن كلاً منها عاد للتعاطي معها في توقيته الخاص. ولم تستغل “الإنقاذ” شيئاً لكسبهم أو تحييدهم في حين استكثرت ذلك على شعبها فمكر عليها وهو خير الماكرين. ويأتي الإهدار هنا من اختلاق عاهة للكيزان للسوق بينما ربما ما كانت في آخر اهتمامات من قاومها من السودانيين. فكانت “الإنقاذ” من بين حكومات سلفت محافِظة (دولة الفريق إبراهيم عبود 1958-1964) ويسارية ووسطية ودينية في مغرب عمرها (دولة الرئيس نميري 1969-1985) من التي قلنا إنها عطلت، باحتكارها القرار السياسي، الإرادة الوطنية في تكييف دولة ما بعد الاستعمار تكييفاً جاذباً لكل من رغبوا في دولة للمواطنة في مركز البلاد وهوامشها. ولم يحل فصل الدين عن السياسة خلال نظامَي عبود وغالبية نظام نميري مما لم تحل دونه دينية الدولة تحت “الإخوان المسلمين”. وهو فرض دولة قابضة صعر الملك الجبار فيها خده فخرجت له الأمة بـ”السيوف تعاتبه”. وعرف الناس خلال مقاومتهم لسياسات “الإنقاذ” وتشريعاتها، وعن كثب منزلة الدين من المعاد والمعاش كما لم يتوافر لغيرهم. وتنزل عليهم ذلك تقى ووعياً بالأمة الدولة الرحبة.
وأكثر أبواب إهدار الكارثة الحاذقة خلال الحرب القائمة في المفارقة التي تكتنف قوى “لا للحرب” حيالها. فالحرب عندهم عبثية وهي سليلة حروب قامت فينا منذ استقلال السودان. وحملت تلك الحرب التي ما هدأ “أوراها”، كثيراً من السودانيين للسقم من أنفسهم ذاتها ومن بلدهم. وتجد أن جماعة “لا للحرب” من الجانب الآخر أعطوا الحرب معنى في أخص عناوينهم وهو ثورة ديسمبر 2018. فاندلعت الحرب في روايتهم بفعل “المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية وواجهاتهما… ويعملون على استمرارها” للقضاء على ثورة ديسمبر حتى يعودوا للحكم. ولا يعرف المرء كيف تصالحت “لا للحرب” مع هذه المفارقة وهي كمن يتحدث من جانبي فمه. فمن أين للعبث أن يداخل حرباً لم تعين المتهم بإشعالها وحسب، بل عينت هدفه من ورائها بدقة متناهية؟ وكيف تجعل من وقف الحرب مطلباً وخصمك لن يرضى من دون العودة للحكم بديلاً مما وصفوه برغبته في استمرار الحرب للغاية؟ ومن دون ذلك عندك خرط القتاد.
ظل كثرٌ منا ينعون السودان لحروبه الطويلة الرديدة بينما تغيب عنهم إرادتنا بها وبالتفاوض خلالها عزائمنا لبناء دولة أمة في ظرف دولي كاد يلغي الدولة الوطنية من فرط حصاره لها. وصارت حالنا حال الفتاة والذئبين. قيل إن فتاة ما ظلت ترى ذئبين يتعاركان في حلمها، فأطلعت والدها على شقائها بهذا الحلم المتكرر، فقال لها في تفسيره إن الذئبين يمثلان قوتين واحدة للشر والأخرى للخير. فسألت الفتاة ومن سينتصر على الآخر؟ قال والدها، الذي تطعمينه! وظللنا نطعم استياءنا من الحرب لا عزائمنا أن ننفذ بجرأة إلى أمة دولة حديثة.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • دولة إفريقية ترفض تسليم سيارات السودان المنهوبة
  • هل يتكرر السيناريو الليبي الكارثي في السودان؟
  • لا نريد وزراء… نريد مشاريع وطنية تمشي على قدمين
  • هل يُعتبر بناء الجيش المهني القوي هو جزء من بناء الدولة المدنية ؟
  • بدأ الأسبوع والخطر يقترب في تركيا! أورهان شين يوضح: خلال الأيام العشرة المقبلة…
  • الحرب كارثة حاذقة قال تشرشل حذاري أن تهدرها
  • محافظ كفرالشيخ يطلق الموجة الـ27 لإزالة التعديات وحماية أملاك الدولة
  • لبنان يندد بتصريحات مستشار المرشد الإيراني: نرفض التدخل في شؤوننا الداخلية
  • قرارات جديدة لضبط تداول زيوت الطعام المستعملة.. ونواب: خطوة لحماية صحة المواطنين
  • تركيا تطرق الأزمة السودانية بشدة.. ولقاء يجمع الرئيس السيسي وهاكان فيدان