بسم الله الرحمن الرحيم
سرف المداد
اليوم أود أن أتناول موضوعا، يعتقد الكثير منا، أنه سخيف فارغ،لا طائل تحته، ولا غناء فيه، فحديثي عن الهوس، الذي أهيئُ عقلي المكدود الآن للكتابة عنه، على غير تأهب ولا استظهار، هو من المسلمات التي تراها بعض شرائح المجتمع وترتضيها، هذه الفئات التي تؤثر ذلك الشيخ أو" الفقير" كما نطلق عليه في مجتمعنا السوداني، لزهده في متاع الدنيا الزائل، وافتقاره لأبسط مقوماتها، ذلك الشيخ الذي يحاول شيئا لا سبيل له في اعتقادنا، فيتمكن من نيله وتحقيقه، فالعلوم التي أتقنها واستقصاها، إضافة للبركة التي تسري في شتى خلاياه ونواحيه، هي التي كفلت له أن يرتحل في أقطار الأرض، ويطوف بشتى بقاعها وهو مقيم، فالشيخ الذي أيسر ما يتحدث فيه الناس، أنه قد شوهد قائما يصلي في في ركن قصي من أركان مسجده، ذلك المسجد الذي يثبت فيه ويستقر، سائر يومه، هو المكان الذي تنهمر عليه الوفود في غير جهد وكد، حتى تنال الرضا والقبول والاستحسان، فالشيخ الملازم لحلس مسجده، ولا يغادره إلا لانجاز فصول من قصصه، التي تحقق له الحيرة والدهش والاعجاب، قصص بركته وصلاحه، التي من أجلها يحظى بالاعجاب كله، والثناء كله، والتقدير كله، يجلس هذا الشيخ في تواضع جم وهيبة لا تخطئها العين، وتبدو على محياه النضر مظاهر الخشية والوقار، وتحيط به جموع الأحباب والمريدين، الذين يرمقهم بطرفه الوسنان من طول التهجد وقيام الليل، فيقرأ التعابير التي تعج بها قسمات وأخاديد وجوههم بينه وبين نفسه، ثم يتحدث بها إلى خاصته بصوت مرتفع، فيسمعه أصحاب هذه القسمات، فيزداد هذا الوله، ويضطرم ذاك الشعور، وتعلو بعدها نبرات الاكبار على ألسنة المحبين، والناس في هذه الأجواء المترعة بالتأثر، واللهفة لالتماس المنافع، واكتساب المعرفة، واجتلاب الحلول، لقضاياهم التي تؤرقهم، وتنقص عليهم حياتهم، فالكل يسعى ويجتهد من أن يقترب من الشيخ، حتى يعطيه صورة صادقة عن كنه المرض الذي يعاني منه، والعلة التي يجهلها، إذن دعونا نترك الناس في تدافعهم المحموم هذا، وازدحامهم حول شيخهم، ولا نلتفت لأقارب الشيخ وخاصته، وهم يسعون لاطفاء جذوة حماس الناس التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، دعونا نذود كل هذا بالفتور والإهمال، لنراقب هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، حتى يخبرنا بقصة رديئة إلى أقصى حدود الرداءة، شنيعة إلى أنأى آماد الشناعة، قصة لا تنفع إلا لهذا العبث الخصب، والتهكم العاتي، هي قصة ابتدعها صاحبها في يسر، وحبك خيوطها في سهولة، ولم تحتاج أن يبذل فيها ما نبذله نحن في مقالاتنا من مصوغات وتبارير، فقصة الرجل، نحن نعلم من أمرها أكثر مما نجهل، هذا الشخص الذي لم يجهد نفسه ليأتي بشواهد أو قرائن تؤكد مزاعمه، فأقصى مجهود فعله، هو أنه أطلق لسانه بغير حساب، وتحدث بهذا الهراء في حدة ونشاط، وأقبل بعدها على يد شيخه يقبلها ويعانقها ويضمها إليه في الحاح وشدة، والشيخ الذي لم يسحب يده منه، يؤنبه ويلومه، ويلح عليه في التوبيخ والتقريع، لأنه قصد أن يخفي هذه المكرمة، فأذاعها هو في اسراف وجموح، لقد كلف هذا الرجل الناس الذين يقيفون في مكان بعيد عن الشيخ، فوق ما يطيقون، فلا سبيل لهم أن ينتهوا إلى مكان حبرهم الجليل، أو حتى يجتازوا مسافة تكفل لهم نظرة ترضي الحس، وتغذي الشعور، لقد ادعى هذا الرجل الذي يعرف طبائع الناس وأمزجتهم، أن شيخهم المحبوب الماثل أمام بصرهم، قد تركه في تلك القرية النائية التي أوصلها إليه بسيارته الفارهة، التي تطوي فدافد الأرض طيا، ليعتني بمريض قد أشفى على الهلاك، هذه القرية بينها وبين مقر اقامته فراسخ وأميال، وأنه قد تركه وحضر ليقضي أمور لا يحسن فيها الإهمال، فقد جلب لزغبه وعياله، ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عاديات الغرث والجوع، فتفاجأ بمن يخبره أن الشيخ حاضرا ومتواجدا في مسجده، فصمم أن يراه، ويصل إليه، رغم ما قد يكتنف طريقه من عقبات، ليحكي هذه المعجزة الفريدة للناس، كل الناس، حتى تغدو هذه المعجزة، من أسمى كرامات الشيخ، وأكثرها وضوحا، وأعلاها مرتبة.
وأنت إذا توطدت صلتك بهذه الشرائح الغارقة في هوى المشايخ الذين لا يبطرهم الفوز، أو يمضهم الاخفاق، تسمع طرائفا من الأعاجيب، وقصصا لا تستطيع أن تهضمها إلا بعد عناء طويل، فتلك المعجزات والكرامات، التي يسرف عقلك في انكارها، وازدرائها، والاستخفاف بها، والشفقة على من ينافحون عنها في حرص، ويدافعون عنها في غلو، كما يدافع المرء عن حياته في صدق وإخلاص، فبينما أنت تتجهم لها، ولا تستعذب التعامل مع طائفتها، إلا وأنت محرج، أو مدفوع إلى الحرج، تخضع لها هذه الطائفة وتذعن، وتدافع عنها بحجج ساطعة وبرهان مستقيم.
ومن الأخطاء الجسيمة التي نزجي فيها النصح للقارئ، حتى لا يتورط في الوقوع فيها، خاصة إذا حضر إلى أماكن توهجها وبريقها، والسودان يحب هذا التوهج، ويطمئن إليه، عليه ألا يسدي النصح لهذه الطائفة، أو يشكك في تلك الروايات التي يجترونها على مسامعه، في ألفاظ نضرة، وعبارات حرة كريمة، تظهر دواعي الرضى، وكمال القناعة، وفي الحق هذه السلسلة من الروايات العريضة، هي التي تمنح هذا الهوس المستشري في مجتمعاتنا الوجود، فالهوس الذي نختلف حوله ونختصم، ونجتهد لاجتثاث دوحته اجتهادا عنيفا، هو الهوس البين الصارف عن اطالة الحديث فيه، كما يقول الدكتور طه حسين، هو هذا الهوس القديم الذي عاش إلى هذا العهد، عهد الرقي والحضارة، وما زالت جموع عريضة تظهر له الحب وترغب فيه، وأنا ككاتب مجبرا بأن أتحسس مواقع الرضى ومواقع السخط، وأستطيع أن أزعم بأن معظم الناس قد أذعنت لسمات هذا الترف الفكري، ورضيت به، فالحضارة التي أرغمتنا أن نسمع، ونرى، ونفكر، نجحت في أن تجعلنا نتجاوز هذا الهوس العظيم الخطر،ونبرأ منه، ونسعى لتنفيذ خطط وبرامج، تنقذ من بقي من ضحاياه، فتجديد الخطاب الديني ينظر في مثل هذه القضايا، فيقر الصحيح منها، ويشجب الباقي، ولا تقف مهمة التجديد عند هذا الحد، بل ينظم العلاقة بين التصوف الصحيح الخالي من أوضار الانحراف، وبين التصوف الذي يفسد عقائد الناس، ويطمس عقولهم، ويقربها من الابتذال، إن الهوس الذي نعنينه، والذي يتعين علينا نبذه ومحاربته بعد أن بلغت الانسانية هذا الشأو، هو الهوس الذي يمكن دحضه بشيء من التفكير يسير، هو الهوس الذي نستطيع أن ننصرف عنه، حينما يزعم أحدهم في صفاقة، أنه يمكن أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، إذا أحضرنا له ديكا يتيم الأب، أو قرأ علينا بعض الطلاسم والتهويمات، أو ألزمنا بأن نحضر إليه في عتمة كل أربعاء، حتى يدلق على أجسامنا الغضة أو الغليظة، ماء ممزوجا بدم السحالي والثعابين، حينها فقط كما يروج نستطيع أن نتخلص من هذه الأرواح الشريرة التي تعكر علينا صفو حياتنا، وتدفع عنا ما أبتلينا به من شقاء.
نصيحتي لأي شخص قد ضاقت به الحياة، أن ينفق وقته في مرضاة الله، وأن يتمسك بلب الدين، ويتقاضى عن القشور، وأن يترك عنه هذه العزلة وهذا التشاؤم، ويثق في ربه، الذي يستمع إليه حين يناجيه، ويتحدث إليه عبر كتابه، عندها فقط تعود إليه الغبطة التي غاب عنه شعاعها لتراكم الآثام والخطايا.
د. الطيب النقر
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.
ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.
فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.
النكبةلقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.
فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.
قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.
إعلانوحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.
فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.
فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".
ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.
التنظيمات الشعبية ونقد الدولةأمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.
وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".
وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".
وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.
أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.
وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.
إعلان النكسةلقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.
مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.
وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.
واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".
ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟
مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".
وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.
ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.
وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".
وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.
وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".
والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.
إعلان حرب العبورلقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.
مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".
ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.
استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".
ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.
وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.
لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.
وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.
بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.
وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.
لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline